حتى الذين كانوا متحمسين للتصويت لكامالا هاريس، رووا أنهم عوملوا بعنصرية من قبل أفراد حملتها الانتخابية، وأحدهم وقد صار شهيرا اليوم، واسمه أحمد غانم، وهو عضو ديمقراطي ترشح لانتخابات محلية في ميتشيغان، وحصل على 15 ألف صوت، حين ذهب لمناصرة هاريس تم طرده وجلبوا له الشرطة التي قالت له “يريدون منك الانصراف، لديك خياران لا ثالث لهما، إما أن تنصرف، وإما أن نضعك في المقعد الخلفي” (مقعد سيارة الشرطة).
ترامب وجد في ابتعاد الديمقراطيين عن قضايا وهموم الجالية العربية المسلمة في امريكا، فقرر التوجه إليها بشكل واسع وجاد هذه المرة، وهو ما قامت به حملته في أكثر من ولاية لا سيما ميتشيغان وشاركت في هذا المسار منظمات سورية أميركية من بينها منظمة غلوبال جستس التي رعت إحدى تلك اللقاءات مع السفير ريتشارد غرينيل أبرز المرشحين لمنصب وزير خارجية ترامب في حال فوزه.
يصل عدد الناخبين العرب المسلمين إلى ما يزيد عن مليوني ناخب، وهو رقم لا يستهان به، خاصة إذا تذكرنا العد اليدوي في الجولات الرئاسية السابقة، والفوارق الضئيلة بين المرشحين.
والحيل السابقة التي كان الديمقراطيون يحاولون اجتذاب الاميركيين من أصول عربية ومسلمة، لم تعد تنطلي على هؤلاء، لاسيما بعد الخذلان الذي تعرّضوا له من جانب رؤساء ديمقراطيين في مقدمتهم باراك أوباما ومن بعده بايدن. ومع الوقت اتسعت الهوة بين الطرفين، مع ابتعاد عقيدة الديمقراطيين السياسية المنحازة والمترددة حيال إيران، والمندفعة وغير المراعية تجاه قضايا تمس الشريعة الإسلامية وقواعد حياة المحافظين.
عند هذه النقطة يتلاقى السوريون الاميركيون مع ترامب والجمهوريين الذين يظهرون مواقف متشددة جداً تجاه إيران وكذك على المستوى المحلي تجاه قضايا المثليين والاجهاض ويتمسكون بالأسرة وانماط الحياة التقليدية.
لكن هل يدرك هؤلاء أهمية أصواتهم؟
ما الذي يمكننا فهمه من تحولات تعكسها الأرقام التي تقول إن غالبية المسلمين الاميركان في التسعينيات، صوّتت لصالح بيل كلينتون، وهم ذاتهم عادوا وصوتوا بنسبة 70 بالمئة لصالح جورج بوش الابن في مقابل آل غور.
ومع شن جورج بوش لحملته الكبرى ضد الإرهاب (الذي لم يتردّد بتسميته إسلامياً) بعد 11/9، وإعلانه غزو العراق وأفغانستان وتقييده لحركة مئات الملايين من المسلمين تحت الظن والشبهة، عاد المسلمون وتحولوا نحو الديمقراطيين فصوتوا بنسبة 90 بالمئة لصالح جون كيري في انتخابات العام 2004. فاز بوش، ولكن كيري حين جاء إلى السلطة وزيراً للخارجية لم يتذكر لهم ذلك الموقف، وانحاز كلياً نحو علاقاته الخاصة، سواء مع بشار الأسد أو الروس أو الإيرانيين، وببساطة أدار للشعب السوري ظهره متغاضياً عن كل الدمار الذي حلّ به منذ العام 2011.
وقبلها كان المسلمون قد دعموا صعود أوباما الذي صوتوا له مرتين وبنسبة عالية جداً (89% ثم 85% )، وضد من؟ ضد جون ماكين الذي كان أبرز أصدقاء الشعب السوري. عادوا وكرروا الخطأ ذاته مع هيلاري كلنتون وصوتوا لها بنسبة 66 بالمئة. ولم يتغير شيئ في انتخابات ترامب بايدن، فقد منحوا أصواتهم لصالح الديمقراطيين مجدداً وكانت نسبة 20 بالمئة منهم تعتقد أن ترامب كان جديراً بالرئاسة.
تغيرات طفيفة في الأرقام، إلا أنها تعكس تطوراً طرأ على كلا الجانبين، الناخبون المسلمون والعرب المتعاطفون مع الديمقراطيين و نظراؤهم المتعاطفون مع الجمهوريين، قد يكون نابعاً من وعي بأهمية التصويت، وكذلك وعي بالقضايا التي تهم هؤلاء، فلا يهدرون أصواتهم لصالح مرشحين يعملون ضدها!.
مع الوقت أخذت نسبة لا بأس بها من الامريكيين ذوي الاصول العربية والمسلمة تطوّر رؤيتها وأدواتها، فلم تعد تغرق في غرام أي من المرشحين من الحزبين، بل تنظر إلى درجة تحقيقه لمصالحها، وفي الوقت ذاته تتغاضى عن اختلافات كانت تراها جوهرية في السابق، وسط هذه المعادلة، مثل قضية دعم المثلية وتهديد القيم المحافظة، عند الديمقراطيين، أو نقل السفارة الامريكية إلى القدس والاعتراف بضم إسرائيل للجولان المحتل عن ترامب.
الأكيد أن تجربة السوريين الأميركيين مع إدارة بايدن والتي تعتبر امتداداً لإدارة أوباما، لم تكن تجربة تستحق أن تكرر ناهيك عن دعمها بالتصويت لهاريس لتصبح ولايتها الولاية الرابعة لأوباما.
شهدت الشهور والأسابيع القليلة الماضية سباقاً محموماً بدوره، لكن بين اتجاهات ما يمكن ان يعرف باللوبي السوري الامريكي، بين اتجاهات كانت تعيش طويلاً تحت تأثير الايديولوجيا وهيمنة الإخوان المسلمين، وبين تيارات أخرى بدأت تبتعد عن هذا السياق ولم تعد تريد تجريب المجرّب وتكرار الأخطاء التاريخية المرتكبة سابقاً.
وهكذا بتنا نرى ونسمع مؤيدين للجمهوريين ولترامب وحتى للترامبية بين السوريين، يدعمون وجهات نظرهم بالحجج المقعنة ويجادلون في فرز المكاسب عن الخسائر، بعد أن كان طاغياً صوت الماشين على الرصيفين في الوقت نفسه، والذين ما انفكوا يقولون :التصويت سري، ونحن ندعم الطرفين، خشية أن يفوز من وضعناه خصماً لنا!!.
الخبر السار أن هناك من تعلّم الدرس، وباتت لعبة الديمقراطية بانسبة إليه أكثر من مجرد ممارسة مهاجر قادم إلى عالم جديد. كان يتعامل معه ومع صناديق الاقتراع من خارجها لا من قلب اللعبة. وتلك الخبرات ستعود بالكثير على السوريين، لأنهم يتعلمون معاً في ظل تغريبة معولمة على امتداد خارطة الكوكب الأخضر.
أما الذين لا يريدون تعلّم شيء جديد، ليظلوا مكتفين بادعاءاتهم أنهم كاملون وأنهم ليسوا بحاجة إلى الرأي الآخر، فهؤلاء يتضاءل تأثيرهم وحضورهم، في مواجهة العمل السياسي المبني على قواعد العلم والحنكة، لا على الفهلوة وتبديل الطرابيش والزعم بامتلاك خبرات سياسية غير موجودة في حقيقة الأمر، في الوقت الذي لا ينفع الناس إلا العمل المتواضع والحقيقي البعيد عن الفقاعات والشعارات والإيهام.
الأكيد أن الساعات القادمة، ستكون منعطفاً تاريخياً بحق في مسار الحياة الديمقراطية الأميركية، ففي حال عاد ترامب، سيرى العالم الحقبة الترامبية المتجددة بعد اكتساب خبرات من العهدة الأولى وكذلك من أخطاء الديمقراطيين في عهد بايدن، وفي حال فازت كامالا هاريس فإن وصول امرأة إلى البيت الأبيض في سدة الرئاسة الأميركية سيكون حدثاًعظيماً له تداعياته وتأثيراته داخل مؤسسات الحكم والمؤسسات التشريعية والحياة العامة في الولايات المتحدة ومن دون شك في العالم الذي تقوده.
في الحالتين، سيكون هناك رئيسة أو رئيسة يقابل كلاً منهما كونغرس ونواب وشيوخ ومساحة جديدة حيوية للضغط والتأثير وهو الملعب الذي ننتظر من السوريين إتقان التحرّك على رقعته تحت الضوء، لا في الكواليس ولا في خرافة النضال من الأنفاق.