د. يحيى العريضي
سبع وسبعون عاما على “استقلال” سوريا؛ والذكرى تعود بوجع لا حدود له. لتحقيقه بَذَلَ أهلنا أغلى ما لديهم. نالوه رغماً عن قوى عنيفة جشعة استباحت البلاد والعباد، وتصوّرت نفسها أبدية.
فرحنا بنَيْل استقلالنا وحريتنا بالتضحية بالغالي والنفيس. بالحجارة والعصي وبأسلحة بدائية قديمة واجه أهلنا الاحتلال؛ حتى بعمائهم أغلقوا مدافع دباباته. ذلك كان واقعاً، وليس خيالاً. هؤلاء قالوا: “تربة وطنّا ما نبيعها بالذهب” و “الشعب السوري واحد”؛ و “الدين لله، والوطن للجميع”. ثاروا؛ فكان الاستقلال، وكانت الحرية.
المؤلم في أيامنا هذه، أنه بإمكانك أن تفهم احتلال الغريب لبلادك واستباحته حياتك في عالم يحكمه قانون القوة لا قوة القانون؛ ولكن أن يكون مَن يحتل بلدك، ويستبيح حياتك ليس إلا ابن جلدتك؛ فذلك ما لا يُفهَم ولا يُستَوعب. نيسان ذكرى جميلة في خاطر كل سوري؛ لكن حال سوريا الحاضر يكللها بحزن لا ضفاف له
حاول الاحتلال تقسيم البلاد، وبث أمراض الطائفية وسياسة “فرّق تسد”؛ ولكن الوطنيين السوريين أفشلوا مخططاته؛ وما ارتاح الاحتلال لحظة. وفي النهاية، كان نصر الحرية والاستقلال ووحدة الأرض والشعب. تبع الاحتلال حكم وطني لبضع سنين، شهدت سورية خلالها حرية وانتخابات وبرلماناً ودستوراً وقانوناً وانطلاقة ازدهار. وفي غفلة من القانون والأخلاق، بدأت سورية تنام على انقلاب عسكري، لتصحو على آخر.
واستمر الحال إلى منتصف ستينيات القرن الماضي، عندما بدأت “الأسدية” تغرز مخالبها في الجسد السوري المنهك. كان التعميد الأول للأسد، بدفع قطعة من سورية للمحتل الإسرائيلي عام سبعة وستين؛ وكانت مقدماً أوصله إلى السلطة؛ ليتحول بعدها إلى حاكم مطلق أو حاكم بأمره. وبعدها قَتَلَ الفلسطينيين وقضيتهم، وانفتح على ملالي طهران، وساهم بإنشاء “حزب الله” ليحمي بتبعيته حدود الكيان الصهيوني الشمالية.
على صعيد عربي، ساهم بجعل العرب عُرْبان تحت يافطة ”التضامن العربي”؛ وفي الداخل السوري، كانت السيطرة المطلقة على مقدرات سوريا، وكان سحق العِلْم والثقافة، ونهب الموارد، وتمزيق النسيج الاجتماعي، وتجفيف الحياة السياسية بالمطلق؛ لتصبح زيارة ضريح قائد الثورة السورية الكبرى سلطان الأطرش جريمة.
دام ذلك حتى عام 2011؛ وانطلقت ثورة الحرية والاستقلال من جديد؛ ليجد السوريون أنفسهم يقاومون أكثر من احتلال، وعلى رأسها الاحتلال الأسدي. وجدوا أنفسهم يقاومون ميليشيات إيران و”حرسها الثوري” كاستعمار استيطاني يغيّر ديموغرافياً، ويهتك النسيج الاجتماعي السوري بنشر المخدرات والدعارة والتشييع؛ واحتلالاً روسياً ينشر الدمار والقتل والتشريد والحماية السياسية لمنظومة الاستبداد.
الأغرب والأوقح من كل ذلك، وبمناسبة ذكرى الاستقلال، لا زال التبجح بوحدة وسلامة وسيادة أرض سوريا وشعبها من قِبل الاحتلال الأسدي والاحتلالات الأخرى. ولكن للأسف في وحدة الأرض، سورية الآن خمسة إقطاعات،ص وشعبها خمسون قطعة؛ وفي السلامة، نصفها مدمر، واقتصادها منهار، وأهلها تبعثروا في أربعة أصقاع الأرض، ومَن بداخلها يعيش رعباً وعَوَزاً ومذلة، وطموحه الخروج من بلده؛ أما في السيادة، فلرئيسها كذا رئيس وآمِر يتحكَّمون حتى بتنفُّسه؛ والمواطن متروكة حياته ومصيره لجملة من الاحتلالات لتقررها. إنه “استقلال” الاحتلال في بلد سلطته داست كرامته.
لم تكن ثورة سوريا الكبرى على الاحتلال الفرنسي عام خمسة وعشرين بلا دم أو تضحيات ومواجع؛ وما كانت القدرات المعرفية والمادية والبشرية عند أهل سورية كما كانت عام 2011؛ ولا يمكن مقارنة الاحتلال الداخلي وما جلبه من احتلالات بما كان مع الاحتلال الفرنسي؛ ولكن مقاومة الحالتين كانت العنوان. الاحتلالات الحاضرة ارتكبت كل محرَّم. ويبقى الاحتلال احتلالاً، وخارج إرادة أهل البلاد، ولكن ومن باب المقارنة البسيطة، إذا كان الفرنسيون بنوا مدارس ومشافي، فالاحتلال الروسي بنى قواعد عسكرية ودمر المدارس والمشافي؛ وإن كان الاحتلال الفرنسي قد أوجد قانوناً ومحاكم وقضاء، فالاحتلال الروسي عمل بقانون الأرض المحروقة، وحكم على شعب سورية بمزيد من الاستعباد والركوع.
الجلاء ذكرى غالية على قلوب السوريين. يجعلها نظام الاستبداد وحماته الروس والإيرانيون مقيتة وثقيلة على هذه القلوب. ما فعله السوريون قبل قرن سيفعلونه ثانية لنَيْل حريتهم واستقلالهم ليس من الاحتلال الإيراني والروسي فقط، بل ممن تمسَّك أجداده بالاحتلال يوماً. وبهذه المناسبة، نطلب السماح والمغفرة من آباء استقلال سوريا الأول؛ وتحية مقدماً لأبطال استقلال سورية الثاني القادم؛ ولنا في تضحيات السوريين على مدى ثلاثة عشر عاماً وثيقة حيّة بان الاستقلال الجديد قادم، ودليله الساطع حراك السويداء بأهدافه الوطنية النبيلة والمستمر لشهور والمصمم على الحرية وحمل راية الاستقلال ثانية .