أحمد مظهر سعدو
تُطل علينا الذكرى الرابعة والعشرين لرحيل الدكتور جمال الأتاسي المفكر القومي الديمقراطي ورجل الوعي السياسي المطابق لمتغيرات الواقع. ونعود مرة أخرى للتوقف مع بعض ما ترك لنا من أفكار ورؤى، طالما كانت عميقة ومتجذرة في أتون الواقع السوري والعربي، وتملك إمكانية التواصل مع المستقبل، وهو الذي كان يشترك على طول المدى مع العديد من الأفكار السياسية ومنظومات الفكر السياسي المستقبلي، الذي ساهم في إنتاجه ضمن حيثيات الممارسة والواقع المفكر السوري إلياس مرقص، وثالثهم صاحب الرؤيا السياسية المتمكنة والمواكبة لتطورات وتغيرات الواقع ياسين الحافظ، حيث يمكن القول إن هذه الترويكا الفكرية العميقة ساهمت بشكل فعال في إنتاج الكثير من مداميك وبنيان فكر قومي ديمقراطي، ينهل من معين رؤيا سياسية متنورة، لم يمتلك سواهم في تلك المرحلة احتمالات وإمكانيات إعادة إنتاجها، حيث واكبوا حالة الاختمار الفكري السياسي العميق، وغردوا وعيويًا وواقعيًا خارج السرب، بحيث تناولوا وعلى كل الصعد العديد من الصياغات الفكرية، التي ما برح الواقع السوري بحاجة ماسة إليها، في وقت تراجعت فيه معظم مسارات الحراك التنظيري التنويري و(تشوفن) الكثير من أهل الفكر السياسي القومي، وكذلك الماركسي، وتقوقع معظمهم ضمن بوتقة الفكر الستاتيكي الجامد، وغير القادر على إنتاج ما هو ضروري وجديد .اذ لم يدرك الآخرين أن متغيرات كثيرة ومياه أكثر قد جرت تحت الجسر، وأنه كان لابد للنخب الفكرية، وأصحاب الفكر، من أخذها بنظر الاعتبار، وصولًا إلى بناءات حداثية، يمكن أن يبنى عليها من جديد.
ولأننا اليوم في حضرة الذكرى لرحيل جمال الأتاسي كان لابد من التركيز موضوعيًا على بعض القضايا والحيثيات التي انتهجها الأتاسي عبر مسيرة ومسار حيواته الملآى بالحركة والفعل، ورسم الخطوط، والغوص عميقًا في جوانية الواقع، خروجًا به ومنه، نحو فضاءات سياسية وفكرية أرحب. حيث أمسك الدكتور الأتاسي بالمسألة الديمقراطية، رافعًا راية الثورة القومية الديمقراطية، معتبرًا أن المشكلة الأساس لدى أهل الفكر القومي، أنهم نحّوا جانبًا قضية الديمقراطية، وراحوا يرفعون شعارات الوحدة والعروبة، دون إدراك أهمية وحجم مسألة التمسك بالحريات والديمقراطية أولًا وآخرًا، وأن كل المشارع الوحدوية سيكون مصيرها الفشل، إن لم تدرك كنه وصيرورة قضية الديمقراطية، في الفكر والممارسة، ولعل عودة جمال الأتاسي الجريئة إلى مسألة إعادة قراءة الحالة الليبرالية التغييرية، وتأكيده على أهمية أن يكون النقد المزدوج طريق للاستيعاب، وأن الحرية لا يجوز إلا أن تكون أولًا، وقبل كل شيء، وأن دولة المواطنة وسيادة القانون، هي التي تحافظ على المنجزات المحدثة، وإلا ستكون الانتكاسة تلو الانتكاسة، وستكون الهزيمة تلو الهزيمة، وأنه حسب ياسين الحافظ فإن فلسطين لم نخسرها دفعة واحدة، بل كان يتم خسارتها وعلى الدوام كسرة إثر كسرة، وفواتًا إثر فوات، وكذلك قضية الديمقراطية والحريات، لابد من أن نعض عليها بالنواجذ، ونحافظ على مكتسباتها أثناء الاشتغال على مسارات الديمقراطية. وعلى هذا الأساس، فقد أنتج الدكتور الأتاسي ما يمكن تسميته بالمرشد الفكري للقوى الوطنية الديمقراطية التغييرية في المجتمع السوري، وهو (كراس الحوار) الذي عنونه أواخر سبعينيات القرن الفائت بعنوان (الحوار مقدمة العمل والديمقراطية غاية وطريق). عمق من خلاله الفكر النقدي الصريح الجريء والمتنور ولم يسمح أبدًا للأيديولوجيا القومية الناصرية، التي اعتراها الكثير من الصدأ لدى البعض، أن تكون كتلة صلبة لا يمكن تغييرها، بل كان وعلى الدوام قادرًا على نقد الناصرية، والفكر القومي، وتجاوز الأفكار المتحجرة وغير القابلة للتطوير والتحديث والتغيير، وهو الذي قال يومًا.” الله لا مطلق ولا أزلي إلا إياه، وماعدا ذلك فنسبي وتاريخي، نحن منه حركة وعي إنساني يتقدم، ونحن فيه حركة جدال”.
هذا الفكر الحداثي التنويري هو ما جعل من جمال الأتاسي منارة علمية سياسية راسخة في الأرض، وقادرة بالأفكار المتطورة على الإمساك بناصية الفكر، القابل للاستمرارية، وغير القابل للجمود، وهو الذي حرض أصدقاءه وطلابه ورفاقه، بعد رحيله، وخلال ما سمي بربيع دمشق على تأسيس منتدى سياسي فكري باسمه، تحت عنوان (منتدى الدكتور جمال الأتاسي للحوار الديمقراطي) شارك في تحريك المياه الراكدة مع المنتديات الأخرى في دمشق، بل في كل سورية، قبل أن تجهز عليه يد الدولة الأمنية وتلغيه من الوجود، بعد أن ضاق صدرها بسقفه العالي، في نقد الواقع وتشريح الحالة السورية، تطلعًا نحو وطن سوري لا ديكتاتوريات فيه وقادر عل إنتاج ومواكبة العصر، تطورًا ديمقراطيًا يحتاجه الشعب السوري والأوضاع السورية. التي لم تنتظر بعد ذلك طويلًا حتى انتفضت سورية بكليتها أواسط آذار/ مارس ٢٠١١ من أجل الحرية والكرامة.
يقول الدكتور جمال الأتاسي في العشرين من آذار/ مارس 2000(لقد تعاملنا مع هذا النظام السائد وقمنا في معارضته، وسنظل عند مطالبنا في التغيير الديمقراطي، ولتقوم الدولة كدولة للحق والقانون، دولة لكل مواطنيها، وليست لفئة أو حزب أو أسرة فرد، ولا بد أن يدرك هذا النظام، وعلى ضوء كل ما جرى من متغيرات في العالم، وبعد كل ما وصلت إليه أوضاعنا الداخلية من تردٍ كبير، ومن أزمات طالت كل جوانب حياة شعبنا ومجتمعنا، أن استمرارية نهجه هذا لم يعد مقبولاً ولا معقولاً، وهو يضع البلاد والعباد على طريق المجهول “.
وقد صدق الدكتور الأتاسي في ذلك، وكأنه كان يتوقع بالفعل أن الاستمرار من قبل أنظمة قمعية ديكتاتورية، سوف يؤدي إلى ثورة عارمة، قد تضع الوطن على طريق الحرية، أو الطرق المجهولة، فيما لو أصر النظام السوري على سياسات الدولة الأمنية والحل الأمني، كما فعل مع ثورة السوريين في عام 2011.
كما كان الأتاسي دائمًا ممن يصر على أن القضية القومية واحدة وضرورية، ولابد من وعيها ووعي الأخطار المحدقة بها، دوليًا وإقليميًا وأميركيًا وهو الذي قال 🙁 لابد من الدفع على طريق تشكيل الأداة أو الأدوات العربية الموحدة، التي تقوى على حمل مشروع نهوضنا العربي وللدفع به إلى أهدافه الكبرى. وتبقى قضيتنا، قضية الأمة العربية الواحدة، واستكمال شروط تكاملها ونمائها ووحدتها وتجددها الحضاري، كمرجعية لا سبيل إلاّهــا، للتعامل مع المتغيرات الدولية والعولمات الاقتصادية والثقافية التي يسخرها الاستقطاب الأميركي لصالح هيمنته العالمية.).
وهو الذي قال إبان توصيفه للواقع المحبط وما تقوم به أدوات النظام السوري القمعية تجاه المواطنين: ( نحن لا نأتي على هذا التوصيف للواقع المحبط وما آلت إليه الأمور لنجد تبريراً لقصوراتنا وتقصيرنا، وإنما لنملك رؤية عقلانية صائبة لهذا الواقع المتعثر، والمطلوب امتلاك وسائل وأدوات تغييره؛ احتكاماً لتلك المقولة التي طالما رددناها، من أن تشاؤم العقل يقابله تفاؤل الإرادة، إرادة الإنسان والجماعة المهتدية بالمعرفة، فهي فهم وإيمان كما قال عبد الناصر، وتلك بالنسبة لنا هي السياسة من حيث أنها ” علم الإرادة ” في مفهومنا وممارستنا .).
ونلحظ هنا بوضوح لقاءه الفكري مع ما تم طرحه من قبل صديقه ورفيقه المفكر إلياس مرقص في قضية (جهاد المعرفة)، وأهمية ذلك في الممارسة والفعل، بعد الاشتغال على ضرورات امتلاك الرؤية العقلانية لذلك الواقع المتعثر.
ولعل العمل الديمقراطي الذي وجده كأحد المسائل الأهم في واقعنا السوري والعربي، كما نوه جمال الأتاسي وأكد بقوله (وهكذا فإننا سنظل عند مواقفنا ومطالبنا بالتغيير الديمقراطي، وهو تغيير لا ينزل من فوق، بل يصدر من المجتمع، وبإطلاق الحريات العامة والحراك السياسي للمجتمع ليكون هناك تغيير وتجديد وشفافية في رؤية المصالح والأمور وفي التداول الديمقراطي للسلطات التشريعيـة والتنفيذيـة.).