أسامة آغي
لا ينبغي أن يخفى على أحد التطورات الداخلية التي يمرّ بها طرفا الصراع السوري “قوى الثورة والمعارضة” من جهة، والنظام الأسدي من جهة ثانية. فهذه التطورات مرتبطة بتطورات أوضاع القوى الإقليمية والدولية المنخرطة بهذا الصراع بصورة مباشرة. لذا لفهم هذه التطورات، ينبغي فهم العلاقة الناظمة لمسارها، وهي علاقة جدلية متغيرة مرتبطة بموازين القوى لهذه الأطراف.
على أرضية هذه التطورات، نهضت من قبل محاولات عديدة من جهة قوى المعارضة، مثل مبادرة جنيف التي جمعت شخصيات سورية كان من أبرزها الدكتور هيثم منّاع، واللواء محمد الحاج علي، والدكتور صلاح وانلي، إضافة إلى آخرين، و كذلك انعقاد المؤتمر الذي عُقد تحت مسمى التغيير السوري. وفي المرحلة الحالية بدأت قوى ثورية معارضة خطوات جديدة، مثل “تحالف استقلال سوريا”، ومثل دعاة عقد مؤتمر وطني عام، يتبنى ورقة مشروع تحت مسمى “وثيقة إعلان مبادئ أولية لبناء الوطن السوري”.
في هذا المقال سنناقش ما ورد في مشروع “وثيقة إعلان مبادئ أولية لبناء الوطن السوري” بكل أبعادها، لمعرفة إمكانية تحقّقها كمشروعٍ يمكن التوافق عليه.
مشروع الوثيقة، جاء محمولاً على ثمانية عشر بنداً، هذه البنود تلخص مجمل ورقة العمل، والتي يقول أصحابها إنها مطروحة للنقاش على قوى الثورة، وقابلة للتعديل والتعميق وحتى تغيير بعض بنودها. ونحن سنسلّط الضوء على أهم بنودها.
ترى الوثيقة إن “الإنسان هو غاية العلاقة بين أبناء الوطن الواحد” على مستوى الحقوق الاقتصادية والسياسية والمدنية والثقافية، إلى آخره. أي المساواة في الحقوق بين مكونات الشعب السوري الاثنية، بما فيها حقّ التعليم والتعلّم باللغة الأم. وإن الشعب السوري سيّدٌ على أرضه وفي دولته، وهذا يعني حقه في النضال من أجل استعادة أراضيه المحتلة.
مشروع الوثيقة تبنّى فكرة “إن الشعب السوري شعبٌ واحدٌ، متنوع قومياً ودينياً دون تمييز بسبب العرق أو الجنس أو اللغة أو الدين أو المذهب”، و”تكفل الدولة السورية احترام التنوع المجتمعي ومعتقدات ومصالح وخصوصيات كل أطياف الشعب السوري”. وهذا يقود إلى نبذ المذهبية والطائفية السياسية والإرهاب والعنف. ويعتبر النساء متساويات في الحقوق والواجبات مع الرجال.
ويرى مشروع الوثيقة أن يعتمد الدستور الجديد الفصل التام بين السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية “أسس النظام الديمقراطي وفق قانون انتخابات عصري وعادل، يضمن مشاركة كافة التيارات السياسية”.
وأن تعتمد الدولة مبدأ اللامركزية في إدارة شؤون البلاد لضمان عدم عودة الاستبداد وتحقيق التنمية في كل جغرافية البلاد. وإن الجيش السوري هو المؤسسة الوطنية التي تحمي حدود الدولة وتصون استقلالها وسيادتها ولا تتدخل في النشاطات السياسية.
مشروع الوثيقة هذه، لم يقل لنا في ظل تعقيدات القضية السورية، وتناقض مصالح طرفي الصراع السوريين، كيف يمكن خلق قاعدة توافق ولو بحدّها الأدنى بين هذين الطرفين؟ وهل قاعدة التوافق ترتكز فعلياً على القرار الأممي رقم 2254، الصادر عن مجلس الأمن بتاريخ الثامن عشر من كانون الأول عام 2015، أم أنها سترتكز على قاعدة لا أحد يعرف ما هي؟
إن فكرة فصل السلطات الثلاث “التنفيذية والتشريعية والقضائية” عن بعضها هي فكرة تطرحها غالبية قوى الثورة والمعارضة خارج النسق الإيديولوجي الديني، وبالتالي تشكّل هذه المسألة نقطة توافق أساسية.
إن مبدأ فصل السلطات واستقلالها يضمن عدم عودة الحكم الاستبدادي إلى السلطة في سورية، وبالتالي يضمن وحدة سورية وشعبها على قاعدة التعدد السياسي وتداول السلطة سلمياً، من خلال انتخابات شفّافة ومراقبة دولياً.
إن شكل الحكم القادم في سورية كما يطرح مشروع الوثيقة هو “اللامركزية”، وهذا المصطلح فضفاض، فهناك كما يعرف المهتمون “لا مركزية إدارية” أو “لا مركزية إدارية موسعة.
مشروع وثيقة إعلان المبادئ لم يحدّد نوع اللامركزية، فإذا كانت اللامركزية إدارية فحسب، فهذا يعني منح المحافظات بعض سلطات المركز لغاية تنمية وتطوير المحافظة وفق قاعدة عمل تحكم جميع المحافظات على مستوى تمويل مشاريعها المحلية، وعلى مستوى الاكتفاء الإداري لكوادرها محلّياً.
أما إذا كان مشروع الوثيقة المشار إليها يستهدف تحقيق لا مركزية إدارية موسعة “سياسية”، تشمل استقلالية تشكيل حكومات محلية دون تدخل المركز، فهكذا طرح يمكن تصنيفه بأنه خطرٌ على وحدة سورية واستقلالها الفعلي، وهو يتنافى مع الطبيعة الديمغرافية للشعب السوري، والذي يتشكّل من أغلبية عربية كبيرة جداً، وبالتالي يمكن في هذه الحالة تحقيق العدالة من خلال تمكين المكونات جميعها من حقوق ثقافية على قاعدة وحدة البلاد وتنوع ثقافاتها.
مشروع الوثيقة، لم يُشر إلى الآليات والأدوات التي يمكن من خلالها خلق التوافق على هذه الوثيقة، فلا تكفي في هذه الحالة النية الحسنة، بل يجب إيجاد تقاطعات حقيقية تجمع طيف الشعب السوري في كل مكوناته، هذه التقاطعات ينبغي أن يجسدها محتوى القرار الأممي 2254، فتنفيذه يقود إلى مرحلة انتقالية لا تسمح لكلّ من تلوثت يداه بدماء الشعب السوري في أن يكون جزءًا من الحكم الانتقالي.
مشروع الوثيقة هو مشروع يمكن أن يحرّك المياه الراكدة في مستنقع الحل السياسي السوري، وهو لا يدعو إلى احتكار التمثيل السياسي، بل يدعو إلى انعقاد مؤتمر وطني جامع، يشمل كل الطيف السياسي السوري بتياراته وأحزابه، ولا ينبغي أن يغيب عن ذهن دعاة عقد هذا المؤتمر أن الائتلاف الوطني السوري يشكّل بالنسبة للأمم المتحدة والمجتمع الدولي التمثيل السياسي الوحيد لقوى الثورة والمعارضة.
أما إذا كان هدف مشروع الوثيقة هو توحيد القوى السورية المعارضة للنظام في إطار عمل سياسي واحد، فهذا يتطلّب خطوات تسبقه، وخصوصاً ما يتعلق منها بوضع منطقة شمال شرقي سورية، التي تخضع لسلطة “الإدارة الذاتية”، والتي لا تزال تُدار من قبل تنظيم مصنّف على أنه إرهابي (حزب العمال الكردستاني “التركي المنشأ” أي حزب PKK)، كأن يتمّ طرد كل كوادر قنديل مما يسمى “قوات سوريا الديمقراطية”، ومن دورهم في التأثير على الذراع السياسية للقوات المذكورة “مجلس سوريا الديمقراطي”.
هذا الأمر ينسحب أيضاً على سلطة الأمر الواقع “هيئة تحرير الشام” ذات الإطار الإيديولوجي الإسلامي الشمولي. والتي ينبغي أن تؤمن بضرورة بناء دولة مدنية تعددية ديمقراطية.
إن عقد مؤتمر عام للطيف السياسي السوري يتطلب خلق قاعدة قبول علني له من قبل القوى الدولية المنخرطة بالصراع السوري. فالقضية السورية لا تزال تشغل بؤرة من بؤر الصراع بين الروس وحلفائهم من جهة والغرب من جهة أخرى.
إن خلق توافق أممي عبر الأمم المتحدة على عقد مؤتمر دولي لحل الصراع في سورية هو ما ينبغي أن يكون مستهدفاً لدى كل القوى السورية الباحثة عن انتقال سياسي لنظام الحكم في البلاد.
فهل سينظر أصحاب مشروع وثيقة المبادئ الوطنية في هذا الاتجاه؟ أم أنهم سيضيفون محاولة مبادرة حلٍ جديدة أخرى إلى سلسلة مبادرات سابقة لم يُقدّر لها الحياة؟