أسامة آغي
يقول أحد المفكرٌين: “ليس المهم في الواقع تفسيره فحسب، بل تغييره”. هذه المقولة أكثر ثورية من كل الشعارات الثورية الفضفاضة، التي يتماهى بها بعض من يظن أنه يمتلك الثورة السورية، ويريد من الشعب السوري ومن نخبه أن يبقوا مثله أسرى لهذه الشعارات، التي لا تجد حاملاً فاعلاً لها بعد مرور ثلاثة عشر عاماً على انطلاقة الثورة السورية المباركة.
وباعتبار أن أدوات التغيير هي الحاسمة في هذه العملية، يتوجب على من يتنطع بشعارات الثورة أن يحولها إلى حركة واقع تغيير حقيقية، ولا يحقّ لهؤلاء أن يرفعوا شعارات تخوين الآخر الذي لا ينظر إلى حركة الواقع من منظارهم، إذ انهم لم يستطيعوا الحفاظ على أوراق الثورة بأيديهم، بل أنهم ومنذ البداية تركوا الباب مفتوحاً أمام الآخر الخارجي، الذي تتناقض أهداف الثورة السورية مع بناه السياسية والفكرية ولاجتماعية، وبذلك خسروا استقلالية قرارهم الوطني.
لنضع إصبعنا على الوجع ونضغط بقوة عليه، فبدون معرفة أين نقف من ثورتنا وأهدافها بصورة ملموسة، وبدون أن نعرف الواقع الحقيقي الذي نعيش فيه وقدرتنا على تغييره، فلن يكون بمقدورنا التأثير على هذا الواقع وتغييره مادياً.
قرار الحل السياسي قرار دولي نصّ عليه مضمون القرار 2254 الصادر عن مجلس الأمن الدولي بتاريخ الثامن عشر من شهر ديسمبر عام 2015. هذا القرار ليس اجتهاداً من الائتلاف الوطني السوري لقوى الثورة والمعارضة، وبالتالي فالائتلاف لا يملك غير القبول والتمسك بهذا القرار، لأنه يحقّق الحد الأدنى الممكن من حقوق السوريين في ظلّ ظروف الصراع الدولي التي أنتجته، هذه الحقوق، تتمثل في جوهر هذا القرار من خلال تشكيل هيئة حاكمة من قوى الثورة ومن شخصيات تتبع للنظام لم تتلوث أيديها بدماء وأموال الشعب السوري، وهذا معناه حرفيّاً إلغاء نظام الاستبداد الأسدي.
هل لدى قوى الثورة القدرة على إلغاء القرار 2254 وفرض إرادتها على المجتمع الدولي؟ وهل لديها القدرة على وضعه تحت الفصل السابع؟
بالتأكيد نحن مع هذه القوى إن كانت قادرة على فعل ذلك، ليس بالكلام والشعارات والخطب الرنانة، بل بقوى عسكرية وسياسية وإعلامية فاعلة تستطيع إنجاز مهام الثورة. أما أنك لا تستطيع القيام بهذه المهام، ولا تقدر على تغيير الواقع، ثم تأتي لتتهم الآخرين بالتقصير أو التخلي عن الثورة، فهذه والله شناعة تخفي وراءها ضياع مصالح وانتفاعات خاصة، لا يمكن التعبير عنها صراحة، ولهذا يتم مهاجمة برنامج التغيير الممكن في ظل القدرات المتاحة.
لنكن أكثر صراحة. ما الغاية من اجتزاء حديث لرئيس الائتلاف الوطني السوري منذ أيام قليلة، هذا الحديث أدلى به السيد هادي البحرة بكل بساطة في مؤتمر أنطاليا، حيث قال ببساطة وواقعية ملموسة: “دون أدنى شك، الأزمة السورية لو نظرنا لها فهي كالكرة، النواة سورية – سورية. الغلاف الذي فوقها هو إقليمي والقوى الإقليمية معروفة، تركيا لها دور أساسي. إيران لها دور أساسي. وبكل أسف نحن نرى ضربات الكيان الإسرائيلي في سورية. وهناك الغلاف الأخير اللاعبان الرئيسيان فيها هما روسيا الولايات المتحدة الأمريكية. بالتالي حلّ الأزمة يقتضي تفاهمات روسية أمريكية. وتفاهمات روسية أمريكية مع القوى الإقليمية. وحوار بين القوى الإقليمية نفسها. كل ذلك يدفع الأطراف السورية ولا سيما النظام الاقتناع بالجلوس إلى الطاولة والوصول إلى حلٍ سياسي”.
حديث البحرة يتسق مع بنية الواقع الحقيقية، وهي أن الصراع سوري – سوري، وهذا الصراع تتحكم به قوى إقليمية ودولية لها وجود عسكري مباشر على الأرض، وباعتبار و(هذه حقيقة) أن الدول الكبرى الفاعلة في هذا الصراع قالت لا يوجد حسمٌ عسكريٌ له، بل يجب حلّه سياسياً، ويكون ذلك عبر التفاوض من خلال جوهر القرار 2254.
فلماذا تمّ اجتزاء حديث البحرة؟ وما الذي يقف خلف ذلك؟ ومن هم المجتزئون؟
ببساطة، هناك من يتشدّق على السوريين بالشعارات الثورية الفضفاضة، في وقت لا يستطيع تقديم حلٍ ملموسٍ لأوضاع معيشية بائسة يعيشها النازحون السوريون في المخيمات، أو في مناطق النزوح السورية الكثيرة، منذ أكثر من اثنتي عشرة سنة. ومادام الحل السياسي مرتبطاً بتفاهمات بين الروس والأمريكيين، وهما في حلقات صراعات متعددة، فلا بدّ من تغيير ملموس لحياة النازحين والسكان الأصليين في المناطق المحرّرة.
هذا التغيير يتمثّل بالاستقرار الأمني والاجتماعي والقانوني المؤقت حتى يأتي التوافق الدولي على الحل السياسي، وهذا ما يسعى إليه الائتلاف الوطني السوري، إذ بدون هذا الاستقرار المرتكز على الحوكمة السياسية وتمكين الحكومة المؤقتة من إدارة شؤون الشمال المحرر، ستزداد الأوضاع المعيشية للسوريين في هذه المناطق سوءاً، وبالتأكيد لن يكون بإمكان المتنطعين بالشعارات الثورية الفضفاضة منع الناس من ركوب البحر، أو اجتياز خط الحدود مع تركيا، أو إطعام الناس في هذه المناطق، فهم إذاً لا حل لديهم يمكنهم عبره تغيير حياة هؤلاء.
إن من يقف خلف رفض أو عرقلة برنامج الاستقرار وتغيير واقع حال الشمال المحرر وإن بالتدريج، هو بالضرورة أحد اثنين. إما حالم يعيش في اليوتوبيا الثورية الخاصة به، وبذلك يكون منفصلاً عن الواقع الحقيقي حوله، وإما متضررٌ من تغيير الواقع بصورة تدريجية، لأنه غير مستفيد على الصعيد السياسي أو البراغماتي من هذه العملية، ولذلك يريد أن يشكّك بها عبر تشويه الآخرين القائمين على تنفيذها.
إن السوريين في الشمال المحرر يريدون تغيير حياتهم نحو الأفضل، يريدون حوكمة سياسية وتمكين للحكومة المؤقتة، يريدون علناً جهاز أمن داخلي يسهر على راحتهم، ويحافظ على حياتهم، ويمنع الاعتداء من أي كان على حقوقهم وفق القانون. ويريدون قضاء عادلاً ومستقلاً وفاعلاً، يحقق العدل بين المواطنين. ويريدون العيش بكرامة في بيوت وليس البقاء في المخيمات البائسة.
هذه أهداف يسعى الائتلاف الوطني إلى تنفيذها في مناطق الشمال، وهي أهداف أعلنها الائتلاف في اجتماعات كثيرة له مع الحاضنة الشعبية في مناطق الشمال المحرّر، وبالتالي من يقف ضد هذه الأهداف ينبغي عليه إعلان بدائل برنامجية قابلة للتحقق، وليس التشكيك بما يجري فحسب.