يوحي الحراك الأخير المكثّف تجاه بشار الأسد بإقرار الجميع ببقائه، وبتسابقهم نحوه، وكأن كلاً من المتسابقين يخشى أن يقطف المنافسون جائزة اصطفاف الأسد إلى جانبه. عناوين كثيرة حملت في الأسابيع الماضية هذا المعنى، بل نُقِل عن مسؤول عربي مواكب للتطبيع مع الأسد أن الأخير غير مكترث بعودته إلى الجامعة العربية، وهناك نكتة مسرَّبة من أوساط المشتغلين على التطبيع مفادها عدم استغرابهم مطالبته العرب باعتذار لقاء عودته إلى الجامعة.
من الأمثلة المتداولة مؤخراً عن “دلال وتمنّع” الأسد مطالبته واشنطن بتغيير سياسي في موقفها لقاء إفراجه عن الرهينة الأمريكية؛ الصحفي أوستن تايس المختطف منذ صيف عام 2012. في الوقت نفسه تزداد التكهنات التي تنص على وجود رضا أمريكي عن التوجه العربي للتطبيع مع الأسد، بما يوحي بربط بين الرضا الأمريكي والإفراج عن الرهينة. جدير بالذكر أن سلطنة عمان تلعب دور الوساطة بين واشنطن والأسد، في حين تشير الأخبار مؤخراً إلى وساطة إماراتية بينه وبين قسد، مع تأويلها في إطار التنافس أيضاً، إذ يكون في التقارب بين الأسد وقسد ردٌّ على محاولات التطبيع التركي معه على حساب القوات والإدارة الكرديتين.
وكما هو معلوم برز على نحو أُريد له أن يكون لافتاً مطلب الأسد انسحاب القوات التركية من سوريا، كي يقبل بالتطبيع مع أنقرة التي تريده “وفق ما شاع أيضاً” تطبيعاً غير مشروط سوى بالتعاون ضد قسد. في المقابل، لم يتسرّب أي خبر عن تعهّدات من قبله لأنقره لقاء انسحابها، واقتصر ذلك ضمناً على ما هو متداول من قبل لجهة العودة إلى اتفاقية أضنة بين الجانبين. لا يخرج عن السياق ذاته تصوير الأسد كأنه الناخب الأول في الانتخابات التركية التي ستُجرى بعد أيام، وكأنه موعود بأكثر مما يعرضه أردوغان في حال فوز منافسه.
خفّف التقارب الإيراني-السعودي من فرضية تنافس الطرفين على الأسد، خاصة لمناسبة زيارة “رئيسي”، وهي أول زيارة لرئيس إيراني بعد اندلاع الثورة، وحرص فيها على إعلان النصر، بل لا يُستبعد أن يراه نصراً مضاعفاً على خلفية انحسار الاحتجاجات الشعبية في إيران. عشية وصول رئيسي، نفّذت إسرائيل غارة جديدة على مطار حلب، لتذكّر الضيف اللدود بأن تل أبيب حاضرة، ولها حصة من الأسد “على حساب الحصة الإيرانية” طالما لها نصيب من قرار بقائه. سيكون مغرياً الحديث عن التنافس أيضاً، إذا أخذنا في الحسبان أن العرب الذين تربطهم علاقة أوثق مع تل أبيب هم الأكثر حماساً للتطبيع العربي مع الأسد، من دون حاجة للتذكير بريادتهم في هذا المضمار منفردين.
في الأخبار، وقّع الرئيس الإيراني في دمشق اتفاقيات استراتيجية، منها 15 اتفاقية اقتصادية تشمل المستقبل، فيما إذا تم تخفيف الحصار الدولي على الأسد وسُمح بإعادة الإعمار. الشقّ المتعلق بالكهرباء “الأكثر إلحاحاً” ربما يُدرج ضمن مشاريع التعافي المبكر، وللمفارقة قد تستفيد طهران بموجب الاتفاقيات الجديدة من مُنح خليجية مقدَّمة من أعداء الأمس القريب. وفيما يحمل دلالة، أو رسالة، اجتمع الرئيس الإيراني بوزير خارجية الأسد في دمشق، واستمع منه لشرح عن لقاءاته المتصلة بموضوع التطبيع والعودة إلى الجامعة العربية.
مع وجود الرئيس الإيراني في دمشق، أعلنت أنقرة شروطها للتطبيع مع الأسد، ولخّصها المتحدث باسم الرئاسة التركية إبراهيم كالين بأن “تركيا تتوقع موقفاً واضحا من دمشق إزاء مسألة مكافحة الإرهاب وحزب العمال الكردستاني والتنظيمات التابعة له، والعودة الآمنة والكريمة والطوعية للاجئين السوريين إلى بلادهم، والدفع بالعملية السياسية”. أما وزير الخارجية التركي، الذي أعلن في اليوم نفسه “الأربعاء” عن أن اجتماعاً رباعياً سيُعقد بعد أسبوع في موسكو، فقد جدد رفض بلاده مطلب الأسد، ورأى أن الانسحاب التركي هو آخر خطوة في سوريا المجزّأة.
في الغضون، واصلت عمّان العمل على ملف التطبيع، بعد استلامها المبادرة من الرياض، وخرج مسؤولون أردنيون إلى العلن بتفاصيل عن مبادرتهم التي يتصدرها موضوع وقف تهريب المخدرات من مناطق سيطرة الأسد عبر الأردن والعراق. الحديث صار واضحاً عن منهجية الخطوة بخطوة، حيث سيكون الشهر الأول بمثابة اختبار للتقدم في موضوع تصدير المخدرات، على أمل أن يكون التقدّم فيه مدخلاً للانتقال إلى ملف اللاجئين في الأردن ولبنان.
بجمع ما سبق نستطيع الخروج بتصوّر أوفى عن “التنافس على الأسد المنتصر”، فالرئيس الإيراني وقع معه “مذكرة تفاهم لخطة التعاون الاستراتيجي الشامل الطويل الأمد”، فضلاً عن الاتفاقيات الاقتصادية، ولا تخفى دلالات المذكّرة من ناحية التأكيد على بقاء الأسد في المحور الذي تقوده وتسيطر عليه طهران. ما تريده تل أبيب تؤكّد عليه بشكل متواصل الغارات الإسرائيلية على مطارات الأسد، أو على مواقع أخرى تستثمرها طهران، وإذا أراد تجنّب الغارات فعليه الحدّ من النفوذ السياسي والعسكري الإيراني، والذي أكّدت عليه للتو اتفاقياته مع نظيره الإيراني.
تريد واشنطن، كي لا تعرقل التطبيع العربي، إطلاق سراح رهينتها، وإبداء الأسد تجاوباً جدياً مع الجهود العربية في ملفيّ المخدرات واللاجئين. الحديث هنا عن تجارة تُقدّر بمليارات الدولارات، وعن عدد من اللاجئين يقارب الثلاثة ملايين في الأردن ولبنان، نصفهم مسجّل لدى مفوّضية الأمم المتحدة للاجئين. والتخلي عن مليارات الدولارات من تجارة المخدرات، وفوقه قبول عودة ملايين السوريين إلى بلده، شرطان يجدر عدم الاستهانة بهما، حتى إذا بلغ التهاون الدولي والعربي أقصاه إزاء بند “العودة الطوعية الآمنة”.
لا مطالب روسية معلنة من الأسد، فبوتين يرى نفسه في موقع الآمر الناهي لا المُطالِب. وإذا اكتفينا بجمع المطالب الأمريكية والعربية والتركية والإيرانية والإسرائيلية فإننا سنكون على بيّنة أكثر لماهية التنافس على الأسد. العتبة المُتّفق عليها بين هذه الأطراف تُختَزل ببقاء الأسد، ويُبنى عليها مطالبة كل طرف من موقعه بما ينبغي على الأسد فعله بوصفه رئيساً. لسان حال هذه الأطراف: ها قد “انتصرتَ”، بصرف النظر عن كيفية الانتصار وعن مساهمة بعضنا فيه، وبقيتَ رئيساً، وحانت لحظة الوفاء بما يترتب على المنصب من مسؤولية. إطلاق الوعود سهل، وقد سبق قبل نحو عقدين أن حصلت الرياض على وعد بحماية الرئيس رفيق الحريري، وحدث العكس بسحب جزء من مرافقته، لكن تكرار الماضي قد لا يكون متاحاً وهذا ما يفسّر عدم حماس الأسد للتطبيع. أما التمعن جيداً في تلك المطالب فيُستخلص منه أن مسؤولية الرئاسة شاقة وعسيرة حقاً، حتى إذا قورنت بإبادة وتهجير ملايين السوريين.
بقلم: عمر قدور/ المصدر: صحيفة المدن