مايكل هوروفيتز- المجلة
ثمة قول شهير ينسب إلى لينين بأن “هناك عقودا لا يحدث فيها شيء، وأسابيع تحدث فيها عقود”. ولا يمكن لهذه المقولة أبدا أن تكون أكثر صدقا منها خلال هذا الأسبوع المصيري من سبتمبر/أيلول، الذي بدأ بالانفجار المروع لآلاف أجهزة النداء (البيجر) التي وزعها “حزب الله”، وانتهى بتأكيد الجيش الإسرائيلي اغتياله لحسن نصرالله، إثر موجة غير مسبوقة من الغارات الجوية الإسرائيلية عبر لبنان والتي كانت بمثابة أحد أكثر الأيام دموية في تاريخ البلاد الدموي بالفعل.
في غضون أيام قليلة، قُلبت عناصر الردع التي كانت تشكل على الدوام الديناميكية المعقدة بين إسرائيل و”حزب الله” وإيران. ولعقود من الزمان، بنت إيران “حزب الله” ليس فقط كواحد من وكلائها الرئيسين، ولكن كعنصر حاسم في العقيدة الدفاعية للجمهورية الإسلامية. إن ما يقدر بنحو 150 ألف صاروخ وآلاف الطائرات دون طيار التي يمتلكها “الحزب”، وحصل عليها جميعا بمساعدة إيران على مدى أكثر من عقد من الزمان، تمثل “بوليصة التأمين” الخاصة بإيران ضد أي هجوم من قبل إسرائيل. وبالفعل، وفرت ترسانة “الحزب” لإيران القدرة على إغراق إسرائيل بالهجمات الصاروخية إذا نفذت إسرائيل تهديدها باستهداف المنشآت النووية الإيرانية.
انهيار أسطورة “حزب الله”:
لأكثر من عقد من الزمان، قارن كثير من المحللين، بمن فيهم كاتب هذه السطور، بين ديناميكية “حزب الله” وإسرائيل وبين مبدأ “التدمير المتبادل المؤكد” (MAD) الذي ساد أثناء الحرب الباردة، والذي كان يحدد المواجهة المتوترة بين القوتين العظميين النوويتين، الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي، حين كان الخوف من الدمار الشامل يقف حائلا دون أن ينخرط أي من الجانبين في صراع واسع النطاق. المنطق نفسه كان ينطبق على إسرائيل و”حزب الله” (وإيران بالتبعية): حيث كان يُنظَر إلى كل منهما باعتباره قادرا على إحداث أضرار جسيمة للآخر، الأمر الذي منعهما بشكل متناقض من الانخراط في حرب مباشرة.
ولكن سلسلة من الأحداث غيرت هذه الديناميكية. لقد سلطت انفجارات أجهزة النداء والهواتف المحمولة، والقضاء الممنهج على قادة “حزب الله”، وعلى رأسهم حسن نصرالله، والقصف الجوي المكثف الضوء على أمر لم يره سوى قِلة من المراقبين، فقد كانت إسرائيل تستعد لهذا الصراع الكبير لأكثر من خمسة عشر عاما. وقد أظهرت الهجمات أن المجموعة مخترقة بشكل عميق من قبل الاستخبارات الإسرائيلية- الاستخبارات نفسها فشلت في التنبؤ بالهجوم الذي شنته “حماس” في السابع من أكتوبر/تشرين الأول ومنْعه. كما أظهرت الفجوة الهائلة بين “حزب الله” وإسرائيل، ولكن أيضا داخل إسرائيل، بين الاستعدادات للصراع في الشمال، والاستعدادات للصراع في غزة.
حتى هذه النقطة، كان معظم التركيز منصبا على استعدادات “حزب الله” نفسه، وقدرته على تحسين قدراته العسكرية، وقد تمكن “الحزب”، بمساعدة إيران، من تخزين الصواريخ الموجهة بدقة، واختبر قدرات عسكرية “تقليدية” جديدة في سوريا، وشارك في معارك واسعة النطاق، بما في ذلك معركة القصير عام 2013، إلى جانب الرئيس السوري بشار الأسد، فضلاً عن الحصار السيئ السمعة لبلدة مضايا، وجوّع خلاله سكان البلدات في منطقة القلمون في سوريا. لقد خسر “حزب الله” بالتأكيد دعم كثير من الناس في المنطقة في ذلك الوقت، لكنه اكتسب أيضا قوات ذات خبرة، حتى إنه قاتل ونسق مع القوات الخاصة الروسية في بعض الأحيان في حلب. وقد أعطت هذه التجربة التهديد الذي أطلقه نصر الله بـ”غزو الجليل” (المنطقة الشمالية لإسرائيل) زخما أكبر، حيث أظهرت “وحدة الرضوان” (قوة النخبة) التابعة لـ”حزب الله” أنها قادرة على تنفيذ عمليات هجومية، بدلاً من مجرد تكتيكات حرب العصابات الدفاعية، فكان أن قضت إسرائيل على قيادة “الرضوان” بأكملها في ضربة واحدة في بيروت بعد أيام قليلة من انفجارات أجهزة النداء.
يختلف هذا الصراع عن حربي لبنان الأولى والثانية، اللتين كانتا محوريتيْن في تشكيل “حزب الله” كعنصر أساسي في “محور المقاومة” الإيراني. في ذينك الحربين، كان “حزب الله” يشكل بوضوح الطرف الأضعف، ولكن الصراعين أفسدا صورة “القدرة المطلقة” لإسرائيل، وهي الصورة التي كانت قد تضررت بالفعل في “حرب يوم الغفران” عام 1973. ومع ذلك، منذ عام 2006، تطور “حزب الله” إلى قوة إقليمية، مقدما نفسه كحصن منيع بقدرات تشبه تلك التي تملكها الدول. وجاء انخراط “الحزب” في الصراع السوري ليساهم في تغيير السردية تغييرا كبيرا، حيث تحول “حزب الله” من مدافع إلى معتد يعمل في بلد أجنبي.
وعلى الرغم من دوره في استعصاء الوضع السوري ومساعدته الرئيس الأسد على البقاء في السلطة، يبدو أن الأسد ليس في عجلة من أمره لرد الجميل. وحتى إيران لا تبدو راغبة في الرد، بل أرسلت إشارات متضاربة بشأن ما إذا كانت تنوي التدخل لدعم “حزب الله”، إذ إن تركيز إيران الحالي ينصب على جهود الرئيس المنتخب حديثا، مسعود بزشكيان، الموصوف بالاعتدال، للتفاوض على تخفيف العقوبات الغربية، بدلا من الانخراط في الصراع. ومن المهم في هذا السياق أن نتذكر أن “حزب الله” أُنشئ أساسا لحماية إيران، وليس العكس.
فك العقدة المستعصية :
يبدو أن قرارا اتخذ في إسرائيل، في الصيف، لإنهاء حرب الاستنزاف مع “حزب الله”. فمنذ الثامن من أكتوبر/تشرين الأول، أطلق “حزب الله” ما يقرب من 9000 صاروخ وطائرة دون طيار على إسرائيل، ما أجبر أكثر من 60 ألف شخص على الفرار من الشمال، وخلق منطقة عازلة بحكم الأمر الواقع داخل إسرائيل نفسها. وقد أعطت “حرب الاستنزاف” هذه الأفضلية لـ”حزب الله”، وسمحت للجماعة بإنشاء “جبهة تضامن” مع الفلسطينيين في غزة، دون الانخراط في حرب واسعة النطاق. وربط زعيم “الحزب” حسن نصر الله نفسه بغزة، مؤكدا مرارا أن جبهة لبنان لن تنتهي إلا بوقف إطلاق النار في غزة. ولقد أدى هذا إلى تعميق فشل إسرائيل في إلحاق الهزيمة الكاملة بـ”حماس” بفشل آخر في تأمين الجبهة الشمالية.
كما أبرز هذا الأمر فكرةَ “وحدة الساحات”، التي دافع عنها أشخاص بارزون مثل صالح العاروري من “حماس” (الذي قُتل هو أيضا في غارة جوية إسرائيلية ببيروت في يناير/كانون الثاني). كان العاروري يؤكد أن الجبهة الفلسطينية، إلى جانب “محور المقاومة” في لبنان وسوريا والعراق وإيران، تشكل جبهة واحدة غير قابلة للتجزئة ضد إسرائيل. فكأن إسرائيل محاطة بـ”حلقة نار” تضيق عليها الخناق تدريجيا، لتخنقها في نهاية المطاف. ولكن الذي ثبت أن هذه الفكرة بقيت مجرد نظرية، وأظهر الواقع أن تلك الأطراف لم تلتزم بالكامل بالدخول في صراع موحد ومستمر. بعبارة أخرى، ظل مفهوم المقاومة المنسقة مجرد فكرة، وليس خطة عمل متماسكة ومنسقة.
قبل هجمات أجهزة الاستدعاء (البيجر)، كان توازن الردع يعني أن الشكوك في معقولية عملية ضد “حزب الله” قائمة حتى على أعلى المستويات في الدولة الإسرائيلية. وعندما اقترح وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت في الأيام الأولى للحرب، شن هجوم استباقي على “حزب الله”، خوفا من أن يقوم “الحزب” بالتخطيط لتنفيذ هجوم مماثل لـ”طوفان الأقصى” الذي نفذته “حماس”، إنما في الشمال هذه المرة، تجاهل رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو هذا الاقتراح وهمشه. وفي الأشهر التي تلت ذلك، أبلغت القيادة العسكرية الإسرائيلية العليا نتنياهو غير مرة بأن الجيش الإسرائيلي مستعد لأخذ زمام المبادرة في لبنان. إلا أن انعدام الثقة العميق بين رئيس الوزراء الإسرائيلي وقائده العسكري أدى إلى أن نتنياهو لم يكن يصدقهم مطلقا.
غير أن كل ذلك تغير في أغسطس/آب، عندما أحبطت إسرائيل هجوما كبيرا لـ”حزب الله”. ففي ذلك الوقت، كان “الحزب” يرد على مقتل فؤاد شكر، أعلى قائد عسكري في الحزب، الذي قتلته إسرائيل في بيروت ردا على هجوم “حزب الله” الذي اوقع ضحايا في مجدل شمس.
كانت خطة “حزب الله” أن يطلق مئات القذائف على إسرائيل، لإرباك دفاعاتها، فتسمح بالتالي لوابل من المسيرّات بعيدة المدى والصواريخ الموجهة بدقة لضرب هدفين حساسين شمال إسرائيل: المقر الرئيس لـ”الموساد” وقاعدة “غليلوت” التي تضم الوحدة 8200 الإسرائيلية ضمن جهاز الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية (أمان).
وردا على ذلك، وافق نتنياهو على توجيه ضربة استباقية محدودة، خوفا من أن يؤدي القيام بأكثر من ذلك إلى إشعال المنطقة. لكن النتائج فاقت توقعاته بكثير: لم تنجح قذيفة واحدة أطلقها “الحزب” على إسرائيل في التحليق. وفجأة، أصبحت ادعاءات قادة الجيش الإسرائيلي بإمكانية نجاحهم في الشمال، على الرغم من الفشل الذريع في 7 أكتوبر، أكثر منطقية.
أهي غزة جديدة؟
سمح هذا لإسرائيل بالمخاطرة أكثر من ذي قبل، والابتعاد عن حرب الاستنزاف، والضغط أكثر على “حزب الله” لفك ارتباطه بغزة. فرهان إسرائيل هو أن “حزب الله” وإيران، على الرغم من كل ادعاءاتهما بالتضامن مع الفلسطينيين، ليسا على استعداد للدخول في “حرب شاملة” قد تكون لها آثار لا يمكن التنبؤ بها في المنطقة.
وبهذا المعنى، فإن هجمات أجهزة الاستدعاء (البيجر) وأجهزة الاتصال اللاسلكي (ووكي توكي) خدمت في إظهار “غياب إمكانية التنبؤ” هذه، إذ لم يكن هذا الهجوم هجوما تقليديا، ولا هجوما كان يمكن لإيران و”حزب الله” توقعه. كانت “خدعة” مرعبة من النوع الذي يندر أن نراه في الحروب الحديثة: خدعة تشل على الفور كلا من المقاتلين أنفسهم وقدرتهم على التواصل. وقد تترك هذه الانفجارات إيران وحلفاءها يتساءلون أيضا هل هذه الخدعة هي الخدعة الوحيدة من نوعها التي تملكها إسرائيل. فغياب اليقين غالبا ما يشجع على التعقل بدلا من التهور.
السؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: إلى أي مدى ترغب إسرائيل في المضي فعلا لضمان بقاء “حزب الله” خارج المعركة؟ إذ طالما هددت إسرائيل “بإعادة لبنان إلى العصر الحجري”، وبتحويل لبنان إلى “غزة أخرى”. وهذه ليست بالتهديدات الفارغة، في الساعات الأربع والعشرين الأولى من العملية الإسرائيلية الجديدة “سهام الشمال”، نفذت إسرائيل غارات جوية بوتيرة لم يسبق لها مثيل. ووفقا لوزارة الصحة اللبنانية، قُتل 500 شخص في تلك الضربات، ليكون ذلك اليوم أحد أكثر الأيام دموية في لبنان، هذا البلد شهد كثيرا من الأيام المميتة. وتدعي إسرائيل نفسها أنها كانت تستهدف مستودعات أسلحة خبأها “حزب الله” داخل مبانٍ مدنية، وتشير بعض مقاطع الفيديو التي تظهر تفجيرات ثانوية إلى أن “الحزب” أخفى ذخائر بالفعل.
ولعل الأمر الأكثر رعبا أن ما حدث ليس بأي حال هو أسوأ ما يمكن أن يحدث. فقد أوضح كل من “حزب الله” وإسرائيل أنهما على استعداد للمضي أبعد من ذلك. فلطالما هددت إسرائيل بتوسيع قوائم أهدافها لا لتشمل “حزب الله” فقط، بل لتشمل أيضا البنية التحتية للدولة، بما فيها المطارات ومحطات الكهرباء. وقد فعل “حزب الله” الشيء نفسه: ففي شريط فيديو نشره “الحزب” قبل التصعيد، حذر من أنه سيضرب عددا من محطات الكهرباء ومطار بن غوريون ومفاعل ديمونة النووي وميناءي حيفا وأشدود.
وفي الواقع، رأينا بالفعل كلا الطرفين يوجهان طلقات تحذيرية للطرف الآخر: فقد قالت شركة الكهرباء الإسرائيلية إن أحد “مواقعها الاستراتيجية” كان هدفا لهجوم “حزب الله”، لكنه فشل بسبب “التدابير الدفاعية”. وبعد ساعات، سقطت قذائف إسرائيلية في محيط محطة الزهراني في جنوب لبنان. وهذا البلد حتى من دون نزاع، يعاني من قبل من أزمة كهرباء دائمة، وهو على بعد خطوات قليلة من المعاناة من انقطاع واسع النطاق في التيار الكهربائي.
يرغب كلا الطرفين في استخدام التهديد بمهاجمة “الجبهة الداخلية” للطرف الآخر كوسيلة ردع، ولكنهما مستعدان أيضا بشكل فعال لتنفيذ تهديداتهما. فهدف “حزب الله” هو زيادة كلفة الحرب الطويلة على إسرائيل، وجعلها غير محتملة، وإجبارها على التراجع. أما إسرائيل، فقد يكون هدفها إقناع “حزب الله” بأن وضعه في لبنان ليس آمنا على المدى الطويل، إذ قد يشعر اللبنانيون أن الثمن الذي يدفعونه مقابل وجود بيدق إيراني فعلي، هو من يتخذ قرارات الحرب والسلام، أعلى من ثمن مواجهة “حزب الله” (مرة أخرى). بالنسبة لكليهما، هذا رهان محفوف بالمخاطر، فالإسرائيليون قد يكونون على استعداد لدفع ثمن باهظ مقابل شل “حزب الله”، في حين أن التكتيكات الإسرائيلية القاسية قد تساعد “حزب الله” بدلا من إضعافه. إلا أن ما هو واضح، هو أن معرفة الإجابة على هذه الأسئلة قد تترافق مع خسائر كارثية في صفوف المدنيين.
التأثير على المدى الطويل
مع أنه لا يزال من السابق لأوانه القفز إلى أي استنتاج، فإن أحداث سبتمبر هزت المنطقة إلى حد لا يمكن معه أن تمر دون عواقب. وأحد الأسئلة الرئيسة هو: كيف ستتأقلم إيران، على المدى الطويل، مع احتمال أن أحد “دروعها” الدفاعية الرئيسة قد تعرض لضربات شديدة؟
ولكي نكون واضحين، فإن المعركة بين “حزب الله” وإسرائيل لم تنتهِ بعد، و”حزب الله” بعيد كل البعد عن الهزيمة. وإذا شنت إسرائيل عملية برية، فقد يستمر “حزب الله” في استعادة مكانته كجماعة ثائرة، وهي الصفة التي لا تزال تشكل جوهر هويته.
لكن إصابة “حزب الله” بشللّ مفاجئ قد تدفع طهران أيضا إلى البحث عن حيازة سلاح نووي، كوسيلة لضمان أمنها، أو على العكس من ذلك، قد تقنع الجمهورية الإسلامية بأنها عرضة لضربة إسرائيلية محتملة أعلى مما اعتقدته يوما، فتسعى إلى العودة إلى الاتفاق النووي الإيراني لعام 2015.
وبعبارة أخرى، بينما تضمّن هذا الأسبوع المصيري الذي بدأ بانفجار أجهزة الاستدعاء في سبتمبر، أحداثا تعادل ما يحدث على مدى عقد من الزمن، فإنه ينطوي أيضا على إمكانية التأثير على التحولات الجيوسياسية في الشرق الأوسط لعقد كامل من الزمن أيضا.