خاص – إبراهيم الجبين
أول ما تناقله السوريون في الأيام الماضية، بعد العملية التي نفّذتها حركة حماس ومن معها من الفصائل الإسلامية الفلسطينية في غلاف غزّة، كان مقطع فيديو مأخوذاً من مقابلة بشار الأسد بثّت قبل فترة وجيزة، اتهم فيها حماس بأنها خانت الدعم الذي قدّمه لها نظامه، وردّت عليه بالغدر والنفاق.
تزامن هذا مع دعوات يائسة وتشكرات لا معنى لها صدرت عن القيادات العسكرية لحماس موجّهة إلى “الإخوة” في إيران والحرس الثوري وما سمّوها بـ “سورية العروبة”.
ويجري ذلك كلّه وسط حمم ونيران يلقيه جيش الأسد والروس فوق رؤوس “إخوتهم” من المدنيين السوريين في إدلب ودارة عزة وأريحا وغيرها من مدن الشمال السوري، لم تستثن المستشفيات والبيوت والمساجد وغيرها.
مشهد كهذا جعل من السوريين في حيرة من أمرهم، كيف يؤيدون من ابتذل نفسه ليظهر الدعم والإعجاب بقاتلهم الأسد ويستقتل للقائه وإعادة العلاقات معه ومع أسياده الإيرانيين ووكيلهم حسن نصر الله؟ ومن جهة ثانية كيف يقفون ضدّ من يطالب باسترداد أرضه وتحريرها من المحتل الإسرائيلي؟
في الحالة السورية، لم يعد الأمر بحاجة إلى عقل فيلسوف ليعرف كيف يختار العدو من الحليف، فقد فات أوان ذلك منذ زمن بعيد، منذ حصار مخيم اليرموك، منذ مجزرة التضامن، وربما أبعد من ذلك حين عرف العالم كلّه أن الجهة الأكثر إصراراً على الاحتفاظ بالأسد “رئيساً دكتاتوراً” فوق رؤوس السوريين، هي إسرائيل ذاتها. فهو الشيطان الذي يعرفونه كما وصفوه في صحفهم.
لم يتخل السوريون، عن إيمانهم بالحق الفلسطيني التام، ولا لحظة واحدة، ومنذ أن بدأت مشارط اللاعبين الكبار بتقطيع بلادهم سورية، وتحويلها إلى دويلات صارت بعد ذلك دولاً، ولا تزال تعاني من كونها غير قادرة على التصرف كدول، ولا على الظهور ككيانات نهائية، لبنان والأردن وفلسطين، وهم يحاولون تناسي ذلك، والتعامل مع هذه القضايا كقضايا منفصلة عن الشأن الوطني المحلي (السوري)، لكن تلك المحاولات كانت تفشل باستمرار، فهم في واقع الحال يعيشون في خارطة كل فقط “ما تبقى من سورية”، بينما عليهم أن يدفعوا ثمن ما يجري على بقية الأراضي التي تم اقتطاعها من بلادهم.
مستقبلهم مرهون بمن يحكم في إسرائيل، ومستقبل بلادهم مرتبط بمدى التطمينات التي قد يطلبها الإسرائيليون لضمان أمنهم، والتي لا أول لها ولا آخر.
ومع ذلك، بقيت الغالبية الساحقة منهم، ضد أي تطبيع مع الإسرائيليين لا يحفظ لهم حقوقهم في الجولان وحقوقهم في التقدم والتنمية وعدم التدخل في شؤونهم، ومع كل تلك الحقوق، حق أشقائهم الفلسطيين في العيش الحر الكريم وتأسيس دولة عاصمتها القدس (إحدى أهم مقدسات بلاد الشام وسورية).
نظام الحكم الذي يهيمن على السوريين، والذي خسر الجولان، في عهد وزير دفاع صار رئيساً بانقلاب عسكري، كان أبرز من حارب منظمة التحرير الفلسطينية، ونحى قياداتها وكوادرها، وعمل جاهداً على إبعادها من لبنان إلى المنافي البعيدة، وأحلّ محلها “حزب الله” وهو ميليشيا إيرانية خالصة الولاء لطهران، زعمت أنها مقاومة، بعد أن كانت أول وأكثر من هلل ورحّب بالإسرائيليين حين غزوا لبنان.
يعرف السوريون هذا جيداً، ويعرفون أيضاً أن العهد الجديد للنظام ذاته، والذي دشّنه بشار الأسد بوراثة أبيه، التزم كل الالتزام بأمن إسرائيل، وكوفئ على ذلك المرّة تلو المرّة، على الرغم من الخطاب الشفوي الرافض لها والشعارات المزيفة التي يرفعها دون أن يطبّق منها شيئاً، فجيشه لم يطلق رصاصة على إسرائيل، وحين قرّر إن يحارب، حارب الشعب السوري وصبّ فوق رؤوسه النيران والبراميل والسلاح الكيماوي وقتل منه ما لم تقتله إسرائيل.
وكان دعم نظام الأسد لحماس تنفيذاً لأوامر كانت تأتيه من طهران، كما فعل في لبنان، لتغيير شكل المنطقة العربية كلها، من مستوى فيه نضال حقيقي تقوده نخب ومفكرون وسياسيون إلى مستوى آخر، تتحكّم به الميليشيات التي يديرها رجال يقبّلون يد من يدفع لهم المال ويبقيهم في الساحة (بذريعة حاجة المقاومة لمن يدعمها، وبحجة شرعية واهية انتهازية استغلوها تقول إن المحاصر يحلّ له أكل لحم الموتى والخنازير. لذلك فلا عتب عليهم إن تعاملوا مع الشيطان من أجل المقاومة!).
وحين قرّر بعض قادة حماس التمرّد على هذه القاعدة والوقوف إلى جانب الشعوب في الربيع العربي ومن بينها الشعب السوري الجريح، تم عزلهم والعودة سريعاً بحماس السياسية والعسكرية إلى حضن خامنئي والأسد، بتجاهل تام لعشرات الآلاف من الشهداء والمعتقلين الفلسطينيين الذين راحوا ضحايا على يد الأسد وجيشه ومخابراته.
حماس التي تفاخر اليوم بعملية نفذتها بدعم إيراني، ضدّ المحتلين الإسرائيليين، لا تستطيع إقناع حتى طفل في إدلب وريف حلب بأنها صادقة في نضالها، وأنها لا تنفّذ أجندة الآن لخلط الأوراق بإدارة من الحرس الثوري (الذي شكره قادة حماس من اللحظات الأولى للعملية العسكرية التي نفذوها).
ومع ذلك كلّه، يخطر للبعض اليوم أن يتلاعب بعواطف الشعب السوري، ويصوّر فهمه وتحليله لما دار ويدور من حوله على نحو مقلوب، ويسوقه في ساحات الدبكة والتهليل سوقاً أعمى.
كيف تكون مع الشعب الفلسطيني لا مع داعمي الأسد من الإيرانيين وذيولهم؟ سؤال لم يعد صعب الإجابة على أي سوري يمتلك ذرة ضمير وعقل وعينين.
فعزّ الدين القسام الذي ترفع حماس صورته وتستثمر فيهما، وتطلق اسمه على كتائبها، يبقى مواطناً سورياً، ربما كان أحد أحفاده أو أقاربه من الشهداء الذين قتلهم الأسد، أو من المعتقلين المغيبين في السجون، أو ممن ظهرت صورهم في ملفات الشاهد قيصر.