المصدر: ياسين أكتاي-الجزيرة
إن الحوادث التي نمر بها كأمة أو مجتمع، ونُمتحن في كل مرحلة منها؛ من حوادث الحرائق والفيضانات والزلازل -التي هي حتمية في العالم- غير أن الأكثر أهمية وخطورة من ذلك هي الكوارث الاجتماعية التي قد تصاحبها أو تأتي إثرها؛ أي الطريقة التي ننظر بها إلى بعضنا البعض إثر الكارثة، وما يصاحبها من مواقف وسلوكيات، وكيف تؤثر علينا في قربنا وتكاتفنا معا، أو كيف تأتي بأثرٍ عكسي؛ فتسهم في نفورنا من بعضنا.
تلتئم الجروح الجسدية التي تسببها الكوارث الطبيعية، لكن لا يمكن أن تلتئم الجروح النفسية والمجتمعية والتفكك وانهيار العلاقات والثقة التي يمكن أن تحدث إلا بعد مرور عقود وعقود. صحيح أنه لا يمكن إعادة الموتى وهذه في ذاتها خسارة لا يمكن تعويضها، لكن يجب أن ندرك أننا نعيش في عالم فان على أي حال؛ فالجميع مآلهم إلى التراب، ولا يمكننا أن نمنع أقدار الله حين يحين أجل أحدهم.
إننا هنا نتحدث عن فقدان الثقة المنبثق بعد هذه الكوارث الكبيرة، فعندما يتحلل أساس المجتمع ينتج انعدام الثقة الذي يشير بدوره إلى كل علامات التآكل الاجتماعي.
إن هدم المباني المتداعية وإعادة بنائها من جديد مسألة يمكن تحقيقها وإن كانت شاقة، لكن ماذا يجب أن نفعل بالبنية الاجتماعية المتداعية؟
أهم سبب لهذا التآكل المتوقع حدوثه إثر الكوارث هو فقدان الثقة بين الناس وتصاعد مشاعر التخوين، والقضاء على ذلك لا يكون إلا بالاستثمار في كل ما من شأنه إعادة بناء هذه الثقة. فالثقة مثل الصدق؛ واحدة من أكثر العناصر التي لا غنى عنها في أي تعريف للصداقة، سواء بين الناس وبعضهم، أو بين الناس ومؤسسات دولتهم التي حازت على ثقتهم ولا تزال حريصة على ذلك.
الصديق قبل كل شيء هو شخص تثق تمامًا في أنه سيكون معك في الأوقات الصعبة، ويمكنك بسهولة أن تشاركه أسرارك وأنت واثق في أنه لن يكشفها للعلن، إنه شخص يمكنك أن توكل إليه حياتك وممتلكاتك وما تحب من دون أن تفكر أبدًا في أنه سيخونك.
لماذا لا يمكن الاستمرار في الحياة من دون مبدأ الثقة؟
الثقة لا تقتصر دائمًا على الأصدقاء أو الصداقة؛ هي في الواقع موجودة وحاضرة حتى في الحد الأدنى من حياتنا الاجتماعية، حتى وإن لم نستحضرها في كل موقف، إلا أنها في الحقيقة موجودة طوال تحركنا في المجتمع، ففي كل موقف اجتماعي نمر به نجده يتطلب منا قدرا من الثقة يجب أن نشعر به وإلا سنكون غير قادرين على التفاعل الطبيعي في المجتمع. مثلا، نحن نكون كل صباح على ثقة في أن إطار السيارة التي نركبها لن ينفجر، وأن السائق الذي لا نعرفه شخص ماهر ومتخصص، وأن السيارة مجهزة لتلبية شروط الطريق أثناء الانطلاق عند الضغط على دواسة الوقود، حتى أننا على ثقة في أن سائقي السيارات القادمة يعرفون قواعد المرور ولن يصطدموا فجأة بالسيارة التي نركبها، ونحن نثق أيضًا في أن حبل المصعد الذي نركبه لن ينقطع، ومن ثم لن يسقطنا أرضًا.
في الواقع، نحن لا تكون لدينا دراية تامة عن أي من هذه الأمور، وربما يكون السائق الذي يقودنا لا يحمل رخصة وقد يكون يحمل رخصة لكنه لم ينم أو قد أصيب بالدوار في ذلك اليوم، وربما تكون مكابح السيارة قد تعطلت. إلا أننا نتصرف بافتراض أن كل شيء يسير على ما يرام، من دون أن نعرف أو حتى أن يخطر على بالنا أنه ليس كذلك، ولا نحاول التأكد من ذلك قبل أي تفاعل اجتماعي نقوم به، بل نواصل حياتنا اليومية من دون حاجة إلى التشكيك بهذا التخوف في أي من الخيارات المعروضة علينا.
وبالتالي؛ تكون فكرة الثقة منغرسة ضمن منظومة تفاعلية، تستمد أهميتها من عمقها التاريخي حيث كانت العلاقات الاجتماعية والاقتصادية في المجتمع التقليدي الذي يتسم بالبساطة والتجانس تقوم أساسا على الثقة وتنتهي بفقدانها؛ فقد كانت الثقة مفهوما آخر لعادات المجتمع وتقاليده وقيمه الصلبة، ويلتزم بها الأفراد والجماعات إما انسجاما مع ثقافة المجتمع، أو خوفا من النفي الاجتماعي، ولطالما مثلت الأداة الأساسية للتماسك الاجتماعي وكان دائماً العائد منها على الفرد والمجتمع كبيرا؛ فهل تقلل حدة النزاع، وتمنح الإحساس بالرضا، ويكتسب الناس باختلافاتهم مكاناً في المجتمع بهذه الثقة التي يمنحونها لا إراديا لبعضهم البعض كل يوم.
طالما عُدّ حساب “معامل الثقة بين الناس” في أي مجتمع من المجتمعات أحد مؤشرات قوة ذلك المجتمع
الثقة بين الناس تجعل الناس ينظرون لبعضهم البعض نظرا يتسم بالنبل، ويغلبون مصالح الآخرين والمصالح العامة على الخاصة، وهي ما تحقق التجانس الاجتماعي، وتحسن المزاج العام، وتقلل حدة التوترات والقلق التي أصبحت سمة ظاهرة مع تعقد المجتمعات الحديثة، وتخفف العبء عن مؤسسات الضبط الاجتماعي كالأمن والقضاء والرقابة البلدية والتجارية والصحية والغذائية؛ وهذا بدوره يجعل هذه المؤسسات قادرة على تحقيق المزيد من الرفاهية والأمان لمجتمعاتها.
الثقة يمكن عدّها البند الأول من بنود التعاقد بين أي طرفين، سواء كانت هذه الأطراف أناسا عاديين في احتكاكاتهم اليومية مع بعضهم، أو جهات متعاقدة في أعمال تجارية، أو بين الناس وحكوماتهم. وهذا يعني وجود الثقة في شبكة معقدة من الأخلاقيات والقيم الاقتصادية والاجتماعية وعلى مستويات فردية أو مؤسسية؛ ولذلك تعتمد قدرة الأفراد على التواصل والاستمرار على مدى اشتراكهم في الاتفاق على القيم والمعايير الأخلاقية ومدى قدرتهم على إخضاع المنافع الشخصية الضيقة للمصالح الجماعية الأشمل، وهذه القيم المشتركة لا تتم إلا بوجود عنصر الثقة.
لذلك تبدو الثقة شكلا من أشكال ممارسة التضحيات المتبادلة من أجل تقييد السلوك الأناني الذي يفسد تماسك المجتمعات.
من دون هذا الشعور بالثقة من غير شك لا يمكننا في الحقيقة حتى أن نعيش حياتنا الطبيعية. بالطبع، ونحن نمضي في حياتنا الاجتماعية نثق في طريقة ما بالعديد من الأشخاص الذين نلتقيهم ولا نعرفهم، لكن هذه الثقة هي في الحقيقة ثقة في حدود علاقة معينة.
ففي الأمور التي تتطلب قدرًا من المشاركة أكبر قليلًا، وفي الأوضاع التي تكون فيها المسافة مغلقة أكثر قليلًا، نتوقع من الأشخاص الذين نأخذهم إلى مساحاتنا الداخلية قدرًا أكبر قليلا من الموثوقية، فنختار الأشخاص الذين يبدو أنهم يستحقون هذا الشكل من الثقة، كأننا نرقّيهم إلى مستوى أعلى في حياتنا الاجتماعية.
هناك من يحبون أن يلعبوا في كل ما يمكنه أن يدمر ثقة الناس في بعضهم البعض، مما يجعلهم في حالة تربص مستمر؛ وهذا بدوره يجعل الحياة لا تطاق، ويفعلون ذلك من خلال الإعلام والتصريحات المستمرة التي تدور كلها حول التخوين وعدم القدرة على التخلي عن تلك الأنانية.
الحفاظ على الثقة لا يتأتى إلا من خلال الحفاظ على الموارد والقنوات التي ستصلح علاقة الثقة المفقودة. هذه القنوات ومصادر بناء الثقة هي الأعمال الجماعية التطوعية والأنشطة التي تنشئ معارف قريبة وشبكات اجتماعية، مثل: الأسرة والجماعات والجمعيات والوقف والمؤسسات
ولطالما عُدّ حساب “معامل الثقة بين الناس” في أي مجتمع من المجتمعات أحد مؤشرات قوة المجتمع. وفي الفترة الأخيرة، كان هناك حديث بين علماء الاجتماع الأميركيين عن تصاعد كارثة اجتماعية في القرن الأخير هي الشعور بفقدان الثقة.
وربط هؤلاء العلماء بين الثقة وما أسموه “رأس المال الاجتماعي” (Social Capital) من خلال دورة حياة الثقة، إذ تبدأ بمفهوم رأس المال البشري الذي يقوم على أساس أن رأس المال أمسى يتجسد في المعارف والمهارات التي يمتلكها البشر، وليس في الأراضي والمعامل والأدوات والآلات كما هي الحال في الاقتصاد التقليدي. ويؤكد عالم الاجتماع جيمس كولمان -وهو من المنظرين الأساسيين لرأس المال الاجتماعي- أن جزءا مهما من رأس المال الاجتماعي موجود في شبكة العلاقات الاجتماعية ومرتبط بقدرة الناس على التواصل في ما بينهم، وهو عنده أمر حاسم وبالغ الأهمية لكل جانب من جوانب الوجود الاجتماعي، وليس للحياة الاقتصادية فقط، ولذلك تعتمد قدرة الأفراد على التواصل على مدى اتفاقهم على القيم والمعايير الأخلاقية ومقدرتها على إخضاع المنافع الشخصية الضيقة للمصالح الجماعية الأشمل، وهذه القيم المشتركة لا تتم إلا بوجود عنصر الثقة.
يرصد عالم الاجتماع التونسي “المنصف ونَّاس” في كتابه “الشخصية التونسية” ظاهرة تفكك الثقة بين الفرد التونسي والمؤسسات؛ مما أنتج ظاهرة انتشار “الشللية” داخل مؤسسات تتبادل المنافع الخاصة في ما بينها، وتسعى للهيمنة على الموارد المادية والاجتماعية والرمزية، ومن ثم تسود قيم الواسطة والمحسوبية، وتنتشر ظاهرة اعتماد الشتيمة في مواجهة الخصم بدل المحاورة، وتفضيل أسلوب الالتفاف على المشاكل بطرق غير قانونية.
وبالتالي، فإن الحفاظ على الثقة لا يتأتى إلا من خلال الحفاظ على الموارد والقنوات التي ستصلح علاقة الثقة المفقودة. هذه القنوات ومصادر بناء الثقة هي الأعمال الجماعية التطوعية، والأنشطة التي تنشئ معارف قريبة وشبكات اجتماعية مثل الأسرة، والجماعات، والجمعيات، والوقف والمؤسسات. يؤدي الانخفاض في هذه الأنشطة إلى تجفيف الثقة في المجتمع؛ ومن ثم الصداقة، ويصبح المجتمع مكونًا من أفراد منعزلين ووحيدين جدا لا يثق بعضهم في بعض؛ ولن تنبثق من مثل هذا المجتمع أي طاقة للمبادرة من شأنها أن تفيد البشرية وتخلق الأمل.
وعندما ينتشر على نطاق واسع الفكر القائل إن أي شخص يدخل علاقة يمكن أن يخدعك في أي لحظة، وإن الشخص الذي يتحدث إليك على الأرجح يكذب، وإن كل الأشخاص يعملون على نحو سيئ ويغشون، فإن كل من لديه هذا الفكر يختلق لنفسه مبررًا من أجل تكرار الخداع والأكاذيب والحيل ذاتها؛ وحينها ينشأ ما يسمى “مجتمع الرداءة”.
في هذا المجتمع، يبدأ الجميع الاحتفاظ بملفات سيئة للآخرين، وعندما تُفتح الملفات التي يحتفظ بها الجميع عن الجميع عندما يحين الوقت، فهذا يكون بالنتيجة كأنه تنافس على مَنْ مِنْ المتنافسين سيصل للقاع أسرع.
عندما تبدأ الاتهامات المتبادلة لا يبقى أي معنى لتحديد من على حق ومن على خطأ، ومن أكثر قذارة ومن أقل قذارة. وعندها يبدأ ضمير الجميع التلوث بمجرد استخدام مزاعم الفساد كأداة سياسية وحشية من دون التمحيص في أصلها.
تتلوث آذان من يسمع هذه الإشاعات، وأعين من يراها، وقلب من يشعر بها، وعقل من يفكر فيها. والاتهام الذي يُنظر إليه على أنه طريقة بسيطة للتغلب على الخصم يتحول بعد مدة ويضرب المجتمع بأسره.
ولسوء الحظ، فإن للشر داخل مجتمع الرداءة ميزة الانتشار والعدوى، لذلك هناك فرق بين الشر الذي يرتكب ويبقى داخل حدود الفرد والشر الذي يرتكب علنًا (في المجال العام) ليؤذي الجميع.
فالشر الذي يمكن تحمله في المجال الفردي عندما يحدث علنًا يصبح أمرًا طبيعيا، ويوقظ الفتنة النائمة، وبعد مدة يراه عدد كبير من الناس أمرًا طبيعيا ويفعلونه علانية وبلا خجل.
هذا الاتجاه يؤدي إلى تآكل يصعب إصلاحه، إذ لا يعيش أعداؤك فقط في الهيكل المتآكل، بل أنت تكون هناك أيضًا، وعندما ينهار يكون الكل تحت المبنى، ويلقى الجميع حتفه.