مع صدور البيان النهائي للقاء عمان الذي جمع وزراء خارجية مصر والأردن والعراق والسعودية بالإضافة إلى وزير خارجية نظام الأسد، تتعزّز القناعة لدى الكثيرين ممن كانت تراودهم بعض الشكوك بجدوى الردّة العربية تجاه الأسد، أو ممّن كانت لهم تخمينات توحي بأن تلك الانعطافة العربية لم تكن عبارة عن عملية استعادة الأسد للحضن العربي بقدر ما كانت عودة بعض الحكام العرب إلى الأسد، ليس لزوال الأسباب التي دعت جامعة الدول العربية إلى مقاطعة الأسد، بل لأسباب عديدة، ولكن أبرزها وأهمها على الإطلاق هو أن الأسد قد انتصر على شعبه، كما ذكر ذلك قبل أيام أحمد أبو الغيط الأمين العام لتلك الجامعة البائسة، التي لم تكن يوماً في خدمة قضايا الشعوب العربية.
ليس مهماً لدى القادة العرب ما نتج عن هذا الانتصار من تداعيات، فالذين قُتلوا ويتجاوز عددهم المليون مواطن سوري، يرحمهم الله ولن يعودوا، والذين تهجروا أو نزحوا ويقدر عددهم بثلاثة عشر مليون مواطن، لهم الله فقد وسعت رحمته السموات والأرض، ولكن الأهم من ذلك كله -وفقاً للحكام العرب- هو عروبة سوريا وهويتها القومية وسيادة الدولة السورية، ذلك أن كل قيم العروبة والسيادة بات يختزلها بشار الأسد بشخصه، والحرص على سلامته واستمرار نظام حكمه هو حرص على الهوية القومية للبلاد، تُرى هل بات السوريون يحدثون أنفسهم بالقول: هل باتت العروبة لعنة تحصد أرواحنا ومستقبل أجيالنا القادمة؟
على أية حال فإن ما تضمنه البيان النهائي لاجتماع عمّان يؤكّد مجمل التوقعات التي بدأت إرهاصاتها في الأيام الأولى التي أعقبت زلزال 6 شباط/فبراير، ثم تحولت هذه الإرهاصات إلى أفكار ومساعٍ عملية مع المصالحة السعودية-الإيرانية، حين بدا آنذاك أن نظام الأسد هو ورقة لتثقيل مطالب إيران بالدرجة الأهم، وبهذا تكون المطالب العربية بإبعاد الأسد عن الحضن الإيراني قد انقلبت إلى عكسها، إذ بات نظام الأسد هو بوابة العرب إلى إيران، إلا أن هذه الحقيقة ربما تكون صادمة للمشاعر، على الأقل لمشاعر شعوب الخليج التي تصدّعت آذانها على مدى عقود من الحديث عن الخطر الإيراني وما يمكن أن يشكله من تهديد لاستقرار المنطقة، أما على مستوى المشهد السوري، فيمكن الوقوف بإيجاز شديد عند ثلاث مسائل تضمنها بيان عمّان:
1- يشير البيان بوضوح إلى أن الآليات الإجرائية لإعادة العلاقات بين الأسد وأقرانه العرب تقوم على التفاهمات والحوار بين الأطراف العربية والدولية وكذلك عبر التنسيق مع الجهات الأممية من أجل تمكين نظام الأسد من السيطرة على كامل الجغرافية السورية لتحقيق مفهوم السيادة أولاً، ثم من أجل محاربة الجهات والجماعات الإرهابية، وكذلك لتعقب ومكافحة مصادر المخدرات بأنواعها وعلى رأسها مادة الكبتاغون التي باتت تفيض من البلاد السورية على البلدان العربية الأخرى، وبالتأكيد لن يتحقق ذلك دون التنسيق المباشر مع نظام الأسد باعتباره الطرف المحاور الأبرز، وهذا يعني ببساطة اعتراف واضح وصريح بأن الأسد هو أحد ضحايا الإرهاب أولاً، كما يعني أيضاً -وهو الأهم- أن نظام الأسد ليس سبباً في المشكلة، إن لم يكن سببها الجذري والأساسي، بل هو جزء أساسي من الحل، وهكذا يصبح القاتل والمجرم ومصدر جميع الموبقات في الأمس، رائداً لمكافحة الإرهاب ومصدراً للأمن والاستقرار وحصانة للهوية القومية وسيادة البلاد.
2- يشير البيان في أكثر من موضع إلى التداعيات الإنسانية للحرب السورية، ولعل ابرزها مسألة اللاجئين السوريين وضرورة تأمين عودة آمنة لهم، وفي التفاصيل الإجرائية يشير البيان إلى ضرورة قيام نظام الأسد بإجراءات عملية ذات صفة قانونية، كإصدار مراسيم عفو أو ما إلى ذلك، مقابل أن تساهم الدول العربية بتأمين الاحتياجات التي تتطلبها عودة اللاجئين، من بنى تحتية وإعادة بناء قطاع الخدمات والتعليم وما إلى ذلك، ولعل هذا يعني أن الأسد بريء كل البراءة من وزر تهجير ونزوح السوريين، بل ربما تهجروا بسبب عقوقهم لسيادة سوريا وعروبتها، أو لأنهم إرهابيون وفقاً للأسد، وحين يعفو عنهم الحاكم فهو يكون قد تقدم بخطوة فيها الكثير من المنّة، بل ربما تكون مكرمة قد تفضل بها على من فرّوا بأرواحهم من قصف براميله وسلاحه الكيماوي، ومن حقه حينئذ أن يُكافأ على خطوته تلك بخطوة من جانب العرب، ولن تكون سوى المزيد من الأموال التي لم يخفِ مطالبته بها فيصل المقداد حين صرّح بوضوح أن الحكومة السورية غير قادرة وحدها على تحمّل الأعباء التي توجبها عودة اللاجئين.
3- ثمة وقفة خجولة في البيان حيال مسألة المعتقلين والمغيبين والمخطوفين، وربما حرصت أطراف لقاء عمان على ألّا تستفز مشاعر الأسد بالحديث عن وجود “135 ألف معتقل ومعتقلة: في سجون النظام، وفقاً للشبكة السورية لحقوق الإنسان، لذا آثرت أن يكون الحديث عن المعتقلين حديثاً عاماً، دون الإشارة إلى مسؤولية جهة بعينها، بل طالب البيان جميع الجهات المتصارعة في سوريا بتبادل الأسرى والمخطوفين، وبهذا يصبح نظام الأسد مثل أي جهة أخرى اعتقلت عدداً من السوريين، وكذلك تتساوى مسؤوليته مع جميع سلطات الأمر الواقع في سوريا، وبالتالي كل ما هو موثق من حالات اعتقال، وكل ما هو موثق من مجازر، كمجزرة التضامن وسواها، يتبين أنه محض افتراء على نظام الأسد.
ربما كانت مصالحة الأسد وإعادة تعويمه عربياً وإقليمياً بمعزل عن صراعه مع شعبه، مبعث خذلان كبير لقضية السوريين، ولكنها لن تكون أشد خذلاناً وإيلاماً من تبرئته ومكافأته على إجرامه، ليس بحق السوريين فحسب، بل بحق الإنسانية جمعاء.
بقلم: العقيد عبد الجباري عكيدي
المصدر: صحيفة المدن