إبراهيم الجبين
“نظرية كل شيء”، هذا ليس فقط عنوان فيلم بريطاني شهير من إنتاج العام 2014 ومن بطولة إيدي ريدماين وفيليستي جونز وإخراج جيمس مارش وكتابة أنثوني مكارتن الذي استقى سيناريو الفيلم من كتاب بعنوان «السفر إلى اللانهاية». «نظرية كل شيء» أيضا عنوان لحلم طالما راود شخصا تبدو صورته صورة مطابقة لعالم اليوم. إنه ستيفن هوكينغ أذكى رجل في التاريخ وعالم الفيزياء الشهير وصاحب مذكرات «السفر إلى اللانهاية».
نظرية كل شيء محاولة من هوكينغ لتوحيد القوى الأساسية الأربع الموجودة في الطبيعة؛ يقول العلماء إنه بما أن القوة الضعيفة لها القدرة على تغيير الجسيمات الأولية من شكل إلى آخر، فسينبغي على نظرية كل شيء أن تعطينا فهما عميقا للعلاقات الموجودة بين جميع الجسيمات المختلفة، يمثل الشكل التالي الهيئة المتوقعة للنظريات السابقة.
لكننا لن نتحدث عن الفيزياء الآن بل عن الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية في عالمنا اليوم، عالم ما بعد انهيار الأيديولوجيا وافتضاح المشاريع الدينية وسقوطها المدوي وترهل الليبرالية القيمي وعجزها عن مواجهة العالم، إضافة إلى الخواء الهائل الذي يعيشه اليسار في أنحاء مختلفة من الكوكب. ويتحدث الفلاسفة عن عصر جديد تعيشه أوروبا والغرب عموما تحت يافطة «ما بعد الديمقراطية»، إذن هو عالم ما بعد كل شيء.
◙ لا بد من البحث عن مفهوم آخر حقيقي يلامس الواقع، كما بعد الديمقراطية. ما بعد الديمقراطية يجمع بين الأرستقراطية من ناحية، وبين الحريات الكاملة ممزوجة بغلاسنوست على الطريقة الغورباتشيفية، من ناحية أخرى
بدأ هذا كله في سبعينات القرن العشرين حين طرح السوسيولوجي الأميركي دانيال بل نظريته حول نهاية الأيديولوجيا وسط الحرب الباردة والاستقطاب السياسي الكبير بين الولايات المتحدة ممثلة الرأسمالية من جهة، وبين الاتحاد السوفييتي ممثل الاشتراكية من جهة مقابلة.
لكن كارل مانهايم المعلم السوسيولوجي الأكبر كان قد وصف المفهوم العام للأيديولوجيا بأنه «سمات وبناء تفكير كلي لعصر ما أو لطبقة اجتماعية معينة». وفي الشروحات تعني مجمل التصورات التي تعتنقها هذه الطبقة لتبرير وضعها في المجتمع.
هنا يمكن أن نفهم ضرورة الأيديولوجيا لطبقة ما أو لمجتمع ما، بوصفها هي التعبير الأسمى للأهداف التي يرنو إليها هذا المجتمع أو تلك الطبقة، ولهذا هي ضرورة تكاد تكون ملتصقة بوجود تلك الطبقة أو ذاك المجتمع أساسا.
وإذا قلنا إن الأيديولوجيات التي نعرفها قد سقطت من طبقة ما أو مجتمع ما، فمن الضروري إذن أن تصعد أيديولوجيات بديلة تكون هي العنوان الذي يعبر عن أهداف وسمات تلك الطبقة أو ذاك المجتمع من جديد.
لكن عصر ما بعد الحداثة بصيغه المتجاورة التلفيقية ذات السمات المعقدة أعلن جازما نهاية الأيديولوجيا، على أن يحل محلها تكوين جديد يحمل طابعا مختلفا عما أفرزته الحداثة باعتبارها نسقا فكريا مؤطرا.
ومن المهم هنا ملاحظة دوّنها الباحث المصري السيد ياسين، الذي قفز على الفور، إلى الأنساق التي قدمتها ما بعد الحداثة، والتي اتخذت طابعا مفتوحا. يقول ياسين في الأهرام في مقال يعود إلى خريف العام 2010 «هذه الأنساق الفكرية المفتوحة أصبحت لا تركز على المتن الرئيسي بالمعنى الواسع للكلمة. ولكن على الهوامش التي عاشت في ظلال الإهمال سنين طوالا. بعبارة أخرى انتهي عهد الاهتمام بالطبقات الاجتماعية، وآن أوان التركيز على الشرائح الاجتماعية الطبقية والجماعات الفرعية والأقليات والأفراد”.
• ينشر المقال بالاتفاق مع مجلة “الجديد” الثقافية الشهرية اللندنية
ويتابع “مثلما تحول الاهتمام من التركيز على الأحزاب السياسية العريضة بتنوعاتها الأيديولوجية المختلفة، والتي أثبتت الممارسة الفعلية في نظم ديمقراطية شتى أنها عجزت عن إشباع الحاجات الأساسية للجماهير، وضاع التمايز في خطابها الأيديولوجي، بعد أن ذابت الفروق بين اليمين واليسار بسبب طغيان عصر العولمة وانهيار الحركات الأيديولوجية اليسارية وانهيار نظريات التخطيط الاقتصادي لحساب اقتصادات السوق».
يضيف السيد ياسين أن هذا كله أدى إلى صعود «مؤسسات المجتمع المدني بأنماطها المتعددة والتي تركز على حقوق الأفراد السياسية والاقتصادية والثقافية بعيدا عن شعارات الأيديولوجيات الكلية التي كانت تدعي في ظل مزاعم احتكار الحقيقة المطلقة على حل مشكلات البشر».
إذن لم تعد الأحزاب السياسية قادرة على تلبية إرادة الجماهير ولا مصالح تلك الجماهير، مقابل تزايد الثقة بالجمعيات والمنظمات والنقابات وسائر تشكيلات المجتمع المدني.
تساءل كثيرون في عواصف الربيع العربي الدامي، من الذي يمثل الناس؟ وكيف يمثلهم؟ ولماذا يمثلهم؟ وطرحت كل الأسئلة التي تتصل بصورة أو بأخرى بفكرة التمثيل؛ التمثيل السياسي، التمثيل الديني، التمثيل المجتمعي، التمثيل الطبقي، التمثيل الثقافي.. الخ.
ومع بروز المرجعيات الدينية والعشائرية والطائفية وغيرها، وجد العرب أن طرح أسئلة كهذه أمر لا يليق، فالأصول التي دأبت عليها المجتمعات هي من يحدد هذا التمثيل. فالدولة الوراثية تحكمها الوراثة، والدولة الراديكالية تحكمها الشعارات حتى لو لم تكن تلك الشعارات للتطبيق، ودولة الأنماط المشوهة يحكمها الأمر الواقع، ولذلك فإن التمثيل في كل منها يرتبط بالأقوى وليس بالأجدر بأن يكون صوت الناس ورسولهم إلى المحافل.
لكن الأمر لم يقتصر على العالم العربي وحده، فالغرب أيضا يعاني من أزمة تمثيل، فتراجع الأحزاب والتيارات السياسية المؤطرة ترك الباب مفتوحا على السؤال؛ من يمثل المجتمعات الأوروبية والأميركية في الحياة العامة؟ هل هم رؤساء منظمات المجتمع المدني المنتخبون بلا أطر سياسية؟ أم هم رؤساء الأحزاب السياسية التي لم يعد يؤمن بها من يذهبون إلى وضع أوراقهم في صناديق الانتخابات؟
◙ يمكن أن نفهم ضرورة الأيديولوجيا لطبقة ما أو لمجتمع ما، بوصفها هي التعبير الأسمى للأهداف التي يرنو إليها هذا المجتمع أو تلك الطبقة، ولهذا هي ضرورة تكاد تكون ملتصقة بوجود تلك الطبقة أو ذاك المجتمع أساسا
وتذكر الباحثة نهى خالد أن كثيرين في أوروبا غاضبون من ازدواجية حكامهم «الديمقراطيين» الذين «ضحكوا عليهم» في حربي العراق وأفغانستان، وأنفقوا المليارات لنشر الديمقراطية بينما تشهد بلدانهم لأول مرة تراجعا اقتصاديا وتراجعا في مستويات الرفاهة، وتزايد هيمنة مؤسسات الاتحاد الأوروبي غير المنتخب على حساب الدول القومية الديمقراطية كما يفتَرَض.
وتضيف أن كل هذا «يجعل مبدأ الديمقراطية الذي طالما تغنى به الغرب ناقصا في وجهة نظرهم، بل ويفقِد المنظومة كلها الشرعية، وهو ما يتجلى بتراجع أعداد المصوتين من الشباب في الكثير من البلدان، فالبرلمان ليس يعبر فقط بشكل متزايد عن الأجيال الأكبر سنا، بل وتتضاءل سلطته أصلا لصالح بروكسل».
يجد الشباب الأوروبي نفسه معجبا دون أن يشعر بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين. وهي ظاهرة منتشرة بين أولئك «الغاضبين» حاليا، وهم ليسوا مهووسين بفلاديمير بوتين فعليا، كما ترى خالد، والذي لا تمتلك بلده أي ديمقراطية من الأصل، ولكنهم «معجبون بقدرته على إزعاج الغرب، وكأنهم بالدفاع عن روسيا والضجيج الذي يثيرونه بتعليقاتهم المعادية لحكامهم عبر الإنترنت، والتي تبدو كما لو أنها صادرة من قوميين عرب في الستينات أو شيوعيين قادمين من الصين، يتحدون الثقافة ‘الديمقراطية‘ المزيفة القائمة في نظرهم، تماما كما يصرخ مشجعو الكرة الإنجليز ويتجاوزون الخطوط الحمراء عمدا ليظهروا تحديهم بوجه النظام القائم».
العالم يتغير اليوم، وهو يفقد قيم الديمقراطية شيئا فشيئا، ويرينا ملامح عصر «ما بعد الديمقراطية» بجلاء أكثر، وقد قرأت أن العالم السياسي البريطاني كولين كراوتش هو الذي منح شعبية لهذا المصطلح في كتابه «ما بعد الديمقراطية»، الذي نشر في العام 2004. وذهب كراوتش إلى التبشير بمرحلة جديدة من الديمقراطية، متخذة طابع العولمة، إذا يرى كراوتش أن «الانتخابات بطابعها الديمقراطي لم تعد تمنح للمواطنين المكانة التي يستحقونها». ويضيف «أصبحت القرارات تتخذ في مكان آخر، من قبل آخرين؛ في ردهات اللوبيات، وفي الشركات الكبرى المرتبطة بالنخب السياسية التي تربطها صلات قوية بهذه النخب، مثل منظمة التجارة العالمية».
ويجدر أن يختم المرء هذا المقال باستشهاد قد يبدو غير لائق، فكاتبه هو الباحث نبيل فياض الملتصق أيما التصاق بنماذج الاستبداد والمدافع عن فكرة أن العرب الرعاع كما يسمّيهم لا تناسبهم حياة ديمقراطية تشبه حياة بقية الشعوب، لأنهم أساسا شعوب متخلفة غير قابلة للتطور، كما يؤمن فياض الذي يقول في مقال له بعنوان «ما بعد الديمقراطية وآفاق المستقبل» نشر في العام 2014 «لا ننكر أننا نعمل منذ زمن طويل، بإيحاء من فيشته ونيتشه وألان دو بونوا، على مشروع أسميناه: ما بعد الديمقراطية» فالديمقراطية، كما يقول فياض «إذا انطلقنا من الواقع لا من تخيل الواقع، مفهوم غير قابل للتطبيق. لذلك لا بد من البحث عن مفهوم آخر حقيقي يلامس الواقع، كما بعد الديمقراطية. ما بعد الديمقراطية يجمع بين الأرستقراطية من ناحية، وبين الحريات الكاملة ممزوجة بغلاسنوست على الطريقة الغورباتشيفية، من ناحية أخرى». هذا هو عالم ما بعد كل شيء.