نوار الماغوط – العربي القديم
بالعودة إلى العنوان المستفز لندوة حرمون الذي أسقط مصطلح الثورة لصالح حرب أهلية والذي سارع المشتغلين لدى مؤسسات عزمي بشارة الى التبرير واللعب على المفاهيم والمصطلح وما يجري في سوريا بين كونه ثورة ضد نظام قمعي وبين توصيفه كحرب أهلية، وهو موضوع حساس بين السوريين.
فواز حداد، روائي سوري، يعبر عن تقديره لعزمي بشارة ولما يقدمه للسوريين، مشيرًا إلى أن نقد بشارة يجب أن يكون متزنًا وأن يستند إلى الحقائق. حداد يرى في وسائل الإعلام السورية مثل “تلفزيون سوريا” متنفسًا حيويًا للسوريين، حيث يعتبرها وسيلة مهمة لصوتهم في مقابل الاعتماد على منصات مثل فيسبوك.
من جهة أخرى، يقدم برهان غليون، السياسي السوري، رؤيته حول الثورة السورية، معتبراً أنها جاءت كرد فعل على نظام الأسد الذي يشعل الفتن الطائفية والقبلية للبقاء في السلطة، وأنها ثورة متعددة الأبعاد: سياسية، اجتماعية، وطنية وأخلاقية.
أما نادر جبلي من مركز كواكبي في حرمون، فيشير إلى أن اختيار عنوان كتاب سامر قد يكون غير موفق نظراً لحساسية الموضوع، لكنه يوجه نقده للذين يهاجمون المركز دون فهم أو اطلاع على عمله، مشددًا على أن هدف المركز هو خدمة الثورة السورية وقضية الشعب السوري.
حسام الدين درويش، باحث في مركز تفكر وحرمون، يناقش مفهوم “الحرب الأهلية المدولة” حيث يشير إلى أن الحرب في سوريا أخذت طابعاً دولياً منذ تدخل قوى أجنبية لصالح النظام السوري، مما يعقد المشهد ويضعه في إطار أكبر من مجرد نزاع داخلي.
في عالمنا السياسي اليوم، أصبح من المعتاد أن ترى أناسًا يقفزون من موقف إلى آخر كما لو كانوا يتسابقون على ظهر حصان هائج في سيرك. من يدعي أنهم حماة الثورة باتوا يعزفون على أوتار الوطنية كما يعزف العازف على بيانو فارغ ؛ النغمات ليست ذات أهمية طالما هناك جهات مستعد لإلقاء بعض النقود في قبعتهم. وبينما يحاول الجميع اقتناص قطعة من “الكعكة الوطنية”، لا يزال الشعب يتساءل: هل بقي شيء لنا في هذا المزاد العلني؟
في إحدى زوايا هذا السيرك الكبير، يمكنك أن ترى مجموعة من المثقفين الذين يتبادلون التحيات بأدب مصطنع، في حين أن أعينهم ترقص بين أيديهم وحقائبهم؛ هل من عائد جديد؟ هل سيفتح مركز أبحاث جديد؟ هؤلاء المثقفون الذين كانوا يرفعون شعارات الثورة، باتوا اليوم يهرولون نحو مراكز الأبحاث التي يديرها أشخاص لديهم من الأموال ما يكفي لشراء ولاء الفيل نفسه. بالطبع، ليس كل المثقفين كذلك، لكن في سوق المزايدات الوطنية، من الصعب التفريق بين البائع والمشتري.
الآن، دعونا نتحدث عن الإعلام، تلك الماكينة العجيبة التي تستطيع تحويل الحابل إلى نابل، والشعارات إلى عباراتٍ جميلةٍ تليق بوضعها على قمصان تُباع في أكشاك الأعياد الوطنية. الإعلام الذي كان يدعي أنه صوت الثورة أصبح يشبه العزف المنفرد على الكمان في حفل رقص جماعي. كلما كان هناك عنوان مثير للجدل، ترى الإعلام يهرع إلى الدفاع عنه لكن بعد أن يحصل على أجره من الممولين. هؤلاء الإعلاميون الذين كانوا يتغنون بحرية التعبير باتوا يتقنون فن الصمت المدفوع أو الغناء النشاذ طالما حرية الكلمة يمكن أن تصبح سلعة تُباع وتشترى في سوقٍ لا يشهد إلا للمزايدات؟
تجد هذه النخب يتقافزون من قناة إلى أخرى ومن مؤتمر إلى آخر، حاملين شعارات ملونة تتغير حسب لون الدولار. هؤلاء الذين أصبحوا يدعون أنهم الحراس على بوابات الحرية والديمقراطية، بينما هم في الواقع يقفون على أبواب مشغليهم الاجانب أو ربما على أبواب السفارات ينتظرون تأشيرة جديدة. ليس لأنهم يحبون السفر، بل لأن الوطنية أصبحت مهنة يمكن ممارستها من أي مكان في العالم طالما كانت الفيزا في الجيب والراعي مضمون.
قد يتساءل البعض: لماذا كل هذا الهجوم على هذه “النخب “؟ أليس من حقهم أن يبحثوا عن رزقهم؟ بالطبع، لهم الحق، بل لهم الحق أيضًا في تغيير مواقفهم بقدر ما يشاؤون طالما أن التبرير جاهز والجمهور مستعد لتصديق أي شيء. لقد أصبحنا في زمن يُعذر فيه المرء إذا باع مبادئه، طالما أنه يستطيع أن يشرح ذلك ببراعة.
لكن أين هو الشعب في كل هذا؟ أين هم أولئك الذين خرجوا إلى الشوارع يحملون أرواحهم على أكفهم؟ أين أولئك الذين فقدوا كل شيء من أجل حلمهم بوطن حر؟ للأسف، يبدو أن الشعب هو الخاسر الأكبر في هذا المزاد. إنهم يشاهدون من بعيد ويستمعون إلى وعود براقة وشعارات فارغة، بينما يتلاعب البعض بمصيرهم وكأنهم قطع شطرنج على رقعة لعبة دولية.
هؤلاء الذين يصرخون بصوت عالٍ في المؤتمرات الدولية عن أهمية الديمقراطية وحقوق الإنسان، بينما يتجنبون بأناقة الحديث عن الثورة السورية وتجاوزات المعارضة التي تُرتكب باسم هذه الثورة إنهم يُذكِّرونك بتلك العروض البهلوانية في السيرك، حيث يقوم البهلوان بتقديم حركات مذهلة بينما الجميع يعرف أن هناك شبكة أمان تحته، حتى لو سقط، فلن يتأذى.
وعندما ننظر إلى جزء من المجتمع السوري بمختلف تنوعاته الثقافية ، نجدهم مراقبون يتابعون ما يحدث كما لو كان عرضًا مسرحيًا ويكتفون بالتصفيق عندما تنتهي الفقرة التي تثير إعجابهم. ويرمون ببعض التعليقات، وملايين اللايكات كنوع من المشاركة بينما الثوار الحقيقيون و النخب المثقفة الحقيقية تتعرض للتهميش و الابعاد
وهنا نصل إلى النخبة الثقافية والسياسية التي من المفترض أن ترفع صوتها عاليًا ضد الظلم والطغيان، أصبحت اليوم تُحني رأسها أمام العواصف المالية والسياسية. ليس لأنهم فقدوا ضميرهم، بل لأنهم وجدوا أن الضمير يمكن أن يكون مكلفًا للغاية. لقد أصبحت المعارك الثقافية مجرد ألعاب كلامية تُدار من مكاتب مكيفة، حيث يُناقشون قضايا الشعب وكأنها معادلات رياضية يمكن حلها بضغط زر.
يجب أن نُذكِّر أنفسنا بأن المزاد مستمر. كل شيء يُباع، وكل شيء يُشترى. الوطنية أصبحت سلعة في سوق مفتوح، والشعب هو المشتري الوحيد الذي لا يمتلك ثمنًا لها. إنه مشهد كوميدي في ظاهره، لكنه مأساوي في جوهره. ووسط هذا الفوضى، يبقى السؤال: هل هناك أمل؟ هل يمكن أن يأتي يوم يتوقف فيه هذا المزاد ويعبر عن الوطن أصحابه الحقيقيين؟
ربما، لكن ليس قبل أن يدرك الجميع أن الوطنية ليست شعارًا يُرفع في المناسبات، ولا هي مهنة يُزاولها البعض لتحقيق مكاسب شخصية. الوطنية هي شعور عميق بالانتماء والمسؤولية، وهي التزام بأن نجعل هذا الوطن مكانًا أفضل لأجيال قادمة.
وفي الختام، نقول لأولئك الذين يعتقدون أن الوطنية تُباع وتشترى: “راحت السكرة وجاء وقت الحساب”. ربما يكون الشعب بطيئًا في رد فعله، لكن عندما يستفيق، فإن صوته سيكون أعلى من أي مزايدة. سوريا ليست فكرة عابرة في مزاد علني؛ سوريا هي الحقيقة التي ستبقى، حتى بعد أن ينتهي هذا العرض الساخر وتغلق أبواب السيرك.