المحامي بسام العيسمي
ما دفعني للإضاءة على هذا المسار الكارثي، هي تصريحات هاكان فيدان وزير خارجية تركيا بأن أولوية بلاده هي منع نشوب صراع جديد بين النظام السوري والمعارضة المسلحة (بناء على تصوّر رسمه مسار أستانا بين تركيا وروسيا وإيران).
وأرجع السعي التركي لمنع حدوث صراعات لعدة أسباب، منها منع موجات جديدة من الهجرة الى بلاده، وأن بيئة يسودها الصمت وخالية من الصراعات ستؤدي إلى نسيان الكراهية بين الجانبين.
وحديثه عن مصالحة تعمل عليها بلاده مع النظام السوري وعلى مستويات متعددة
ولكن ماهو التصوّر الذي رسمه مسار أستانا الذي يريد الوزير التركي فرضه؟ وهل نسيان الكراهية وإنهاء الصراع يأتي بالغَلبة وبيع كل آلام وتضحيات السوريين بالمجان؟
هل نسيان الكراهية ممكن بدون تحقيق الحد الأدنى من طموح الشعب السوري في نيله الحقوق والكرامة والعدالة؟
هل يكون ممكناً بالقفز فوق مبدأ العدالة الانتقالية؟
هل يمكن نسيان الكراهية بتعويم نظام دموي مجرم من جديد وسكينه القذرة لازالت تحزُ بأعناقنا؟ ويشرب أنخاب دمنا الذي سفكه على بقايا وطن مدمّر؟ نهب خيراته، وباع ثرواته وأصوله السيادية للأجنبي؟ وهجّر نصف سكانه وملئ أرضه مقابر جماعية بأجساد السوريين؟
لنرى ماهو التصوّر الذي رسمه مسار أستانا للحل في سورية وهل فيه شيئ من الإنصاف للسوريين؟ وهل يأتي في سياق جنيف والعملية السياسية، أم هو انقلاب عليها؟ سأحاول الإجابة وبشكل مختصرعلى مجمل هذه التساؤلات من خلال هذه الدراسة الموجزة والمختصرة.
أولاً ثلاثي أستانا ومصالح كل دولة من أطرافه:
مسار أستانا هو مسار مواز لمسار جنيف، لكل دولة من أطرافه الثلاث لها مصالحها وأهدافها وغاياتها منه. والتي قد تختلف عن الأخرى كثيراً أو قليلاً، وسأعُرض وبشكل موجز لأهم المصالح والأهداف التي أرادتها كل دولة منه.
تركيا:
حُلم انبعاث العثمانية الجديدة راودت أردوغان حين انطلاقة الربيع العربي إذ تبنت تركيا المشروع الإخواني بكل ما ينطوي عليه من أخطار وتهديد للدولة الوطنية في الإقليم .
فبنى أردوغان استراتيجيته بالتدخل في سورية خاصة، وبقية الدول التي امتد إليها الربيع العربي عامة بمستويات مختلفة. ومن بوابة الإطاحة بالنظم القائمة لصالح الإسلام السياسي. الذي سيضعه بموقع الأب الروحي له في المنطقة بعد وصوله لمواقع السلطة فيها بهدف تثقيل مكانة ووزن تركيا ونفوذها الإقليمي بمواجة القوتين الإقليميتين إيران وإسرائيل.
وأيضاً لتعزيز مكانتها ودورها على المستوى الدولي، لاعتقاده بأن الربيع العربي سيعيد تشكيل دول المنطقة من جديد، وكان طموح أردوغان الشخصي في أن يلعب دوراً كبيراً في هندسة النظام الجديد بدعم ومساعدة الولايات المتحدة.
وهذا مادفعه لمحاولة تصفية وتحييد المعارضة التي تشكّل خطراً عليه، ومعوّقة لطمواحاته ومايخطط له مثل فتح الله غولن المتهم بأنه العقل المدبّر لمحاولة الانقلاب الفاشلة التي وقعت في تركيا في شهر يوليو/ تموز عام 2016، وعبد الله غول الرئيس السابق لتركيا قبل ولاية أردوغان.
لكن الفشل الذريع للمشروع الإخواني في المنطقة إن كان في مصر وليبيا وتونس وسورية وتراجع شعبيته بشكل عام جماهرياً في بقية دول المنطقة، (وعلى سبيل المثال كان له أكثر من مئة مقعد في البرلمان المغربي أما في الإنتخابات الأخيرة لم يحصل إلّا على 11 مقعداً ).
إذ تبين بأن هذا التيار غير قادر على بناء دول مستقرة ويفتقر لثقافة الدولة الحديثة.
إضافة الى فشل أردوغان أيضاً في الإمساك بكل خيوط الصراع وتشابكاتها المتشعبة التي ولّدها الربيع العربي عموماً، وفي المسألة السورية خصوصاً لانهدام الحدود الوطنية للصراع فيها وتدويله وتعدد الفاعلين على ساحتها.
إلى أن جاءت حادثة إسقاط الطائرة الروسية من قبل قوات الدفاع الجوية التركية في 24 نوفمبر لعام 2015، والتي أراد منها أردوغان توجيه رسالة لموسكو بأن سورية هي منطقة نفوذ له تتعلق بأمنه القومي، وهو الماستر الذي يملك القرار فيها ويوزع الأدوار وينسقها بين اللاعبين على أرضها، ولاختبار الموقف الأمريكي والغربي، وإلى أي حد يمكن مساعدته ودعمه لمشروعه معتمداً على عضوية تركيا في حلف الناتو، وموقع تركيا الجيوسياسي في المنطقة وأهميته للغرب.
وعلى خلفية ذلك الحدث نشبت أزمة بين تركيا وروسيا لكن (حساب القرايا لم يُطابق حساب السريا) كما يقول المثل الشعبي، خذلته حينها الولايات المتحدة وتركته وحيداً في مواجهة الروس، ما جعله يعيد حساباته ويعمل على إعادة توصيف وتقييم مصالحه وتحديد أولوياته من جديد، فأسرع لمصالحة بوتين والتنسيق معه ومع إيران وتفاهمت الأطراف الثلاثة على اقتسام مناطق النفوذ والمصالح في سورية بعيداً عن أي اعتبار للمصالح الجوهرية والحقيقية للسوريين.
أطبقت تركيا على قرار ما يسمّى بالمعارضة الخائبة والفاقدة لرشدها السياسي والقابلة للتبعية والإرتهان وصادرته بالكامل لتثقيل دورها كطرف رئيسي في معادلة الصراع في سورية. وتحولت هذه المعارضة الهزيلة المدنية الممثلة بالائتلاف وملحقاته كمؤسسة، والفصائل العسكرية إلى أدوات تابعة تستثمر بها لخدمة مصالحها وسياساتها، ولا نُبالغ إن قلنا بأنها لم تنظر لهم يوماً بأصحاب قضية، فجوهر هذه العلاقة كانت محكومة بعلاقة التابع بالمتبوع.
وإيران وروسيا أيضاً تقاسمتا قرار نظام طغمة الأسد، في هذا السياق جاءت أستانا التي أرادت منها تركيا تسهيل وتوسيع مطارح نفوذها وتدخّلها العسكري بالشمال السوري لمواجهة المخاطر التي قد يشكلها وحسب ادعائها حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي (ب ي د) بكونه الفرع السوري لحزب العمال الكردستاني “ب ك ك” ، والذي هو في حالة عداء مع تركيا التي تصنفه كمنظمة إرهابية، لما يشكله بزعمها من خطر على أمنها القومي، وهو أيضاً مدرج على قائمة الإرهاب الأمريكية عام 1997، والبريطانية عام 2000، والاتحاد الأوربي عام 2002.
هذه هي البوصلة التي اعتمدتها تركيا لتحديد سياساتها وممارساتها على الساحة السورية، فمسار أستانا سهّل لها القيام بمجموعة من العمليات العسكرية داخل الأراضي السورية، لم يكن لها ذلك لو لا مسار أستانا وإعادة تصويب علاقتها مع الروس.
أهمها عملية درع الفرات في شمال وشرقي مدينة حلب في 24 آب لعام 2016، وغصن الزيتون في كانون الثاني من عام 2018، حيث استولت من خلالها على مساحات واسعة من الأراضي التي كانت تحت سيطرة حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي وذراعه العسكري “قسد”، وعملية نبع السلام في تشرين الأول لعام 2019 .
روسيا:
هدفت من خلاله اغتيال العملية السياسية في سورية والقائمة على بيان جنيف1 والقرار 2254، والإنقلاب عليهاء وسحب الملف السوري من الأمم المتحدة والإستفراد به لتعيد ترتيبه وتفصيله بما يستجيب لمصالحها وأهدافها.
وبعد أن تُنجز كل ذلك تعود به من جديد للأمم المتحدة لتتبناه هذه الأخيرة كمولود غير شرعي، بكونه ولد من خارج الرحمين الوطني السوري والدولي، وتُسبغ عليه الشرعية الدولية المستندة لقبول السوريين به نظام ومعارضة، هذه المعارضة الهلامية الرخوة والفاقدة لرشدها السياسي التي قبلت المشاركة به وسوقها إليه لإكسابه شرعية مزورة.
وبهذه الحالة لا تملك الأمم المتحدة حق الإعتراض على مايوافق عليه السوريونؤ على مبدأ (إذا كان القاضي راضي)، وأقلها تُعفيها أي للأمم من الحرج الأخلاقي والتقصير العقدي المُخجل لواجباتها والتزاماتها إزاء الشعب السوري.
كما وأرادت أيضاً توظيفه لاستثمار نتائج إنجازاتها العسكرية على الأرض في حربها على السوريين في سياق بنك الأهداف الكلية لموسكو. والبوابة السورية كانت فرصتها لتعزيز وجودها وتموضعها من جديد ليس في سورية فحسب، بل وفي منطقة الشرق الأوسط برمتها، والوصول للمياه الدافئة، بما يؤهلها للعودة الى الساحة الدولية، فضلاً عن أطماعها الإقتصادية للإستيلاء ونهب أكبر قدر من الموارد والثروات السورية واستنزافها في مجال النفط والطاقة والغاز والموانئ والمطارات والأصول السيادية السورية تحت يافطة عقود ومعاهدات طويلة الأجل، مستغلة ضعف نظام طغمة الأسد وانعدام حسه الوطني، واستعداده لبيع نصف سورية مقابل الإحتفاظ بالكرسي.
هذه الأهداف المتعددة لموسكو لا تتحقق من خلال عملية سياسية تٌفضي لعملية انتقالية بقيادة سورية وبإشراف ومراقبة الأمم المتحدة. للإنتقال الى نظام جديد يحقق الحد الأدنى من تطلّعات السوريين الى الحرية والكرامة والحقوق، لذلك كان لابد من إجهاض مسارات التغيير الحقيقي والآمن التي يقودها السوريون تحت رعاية الأمم المتحدة، في سياق العملية السياسية التي تقوم على بيان جنيف واحد لعام 2012 . وقراري مجلس الأمن 2254 لعام 2015 والقرار رقم 2118 لعام 2013 وباقي القرارات ذات الصلة.
فبدأت في قلب الأوضاع الميدانية لصالح النظام على الأرض، وأعادت له غالبية المناطق التي خسرها بقوة السلاح والتوحش، ومن خلال خديعة مايُسمى بالمصالحات ومناطق خفظ التصعيد التي عملت على تحييدها وتجريدها من السلاح كمقدمة للإستفراد بها وإرجاعها لسلطة النظام الذي لم يكن يسيطر في العام 2015 أي قبل تدخلها العسكري المباشر على أكثر من 17%من الأراضي السورية، وذلك سعياً منها للإطباق على سورية بالكامل بكل مفرداتها وثرواتها ودماء أبنائها لتكون رهينة بيدها للمقايضة عليها مع الولايات المتحدة في ملفات أخرى، ولتعزيز دورها وثقلها في الإمساك بمعادلات الصراع في المنطقة، بما يخدم طموحها بالعودة للمسرح الدولي واستعادة بعض الدور الذي كان للإتحاد السوفيتي قبل سقوطه.
– إيران :
التي زادت من تغلغلها في مفاصل المؤسستين الأمنية والعسكرية لنظام الأسد . وحشدت كل مليشياتها الطائفية ومرتزقتها لقتال السوريين وحماية النظام من السقوط منذ الإسبوع الأول لانتفاضة السوريين في العام 2011 . في سياق مشروعها الإمبراطوري القومي التوسعي لإعادة أمجاد الإمبراطورية الفارسية والمغلف بقفازات دينية . هذا المشروع السرطاني القذر هو أخطر ما تواجهه المنطقة برمتها .
إذ يشكّل تهديداً كيانياً لدولها , ويعمل على تخريب نسيجها الإجتماعي وتغييب الهوية التاريخية والثقافية لشعوبها . ونشر الفوضى والجريمة والإنحلال لكل البنى المجتمعية والأخلاقية فيها .
وإلى أين يمتد نفوذها تصنّع أذرعاً سامة تكون أقوى من الدولة كما في العراق واليمن ولبنان . وهي تفاخر بأنها سيطرت على اربع عواصم عربية . تحت شعارات الممانعة الخادعة والكاذبة نصرة لفلسطين وتحرير الأقصى . وسورية بالنسبة لمشروعها هي درّة التاج والجسر الواصل بينها عبر العراق الى سورية ومنها للبنان والمتوسط . وخسارتها لسورية هو تهديد جدي لمشروعها
كما أنها وإضافة لذلك تتقاسم الخيرات والثروات السورية والأصول السيادية والمرافق الحيوية مع روسيا . وفي الزيارة الأخيرة للرئيس الإيراني الى نظام الأسد في أوائل الشهر الخامس من العام الماضي 2023 . وقّع معه على 51 اتفاقية تتعلق بمختلف القطاعات الزراعية والإنتاجية والثروات والمنشآت الحيوية والأصول السيادية السورية المتبقية والتي لم يبعها الأسد لتاريخه .
ولا ننسى هنا دور اسرائيل أيضاً كطرف ولاعب اساسي في المشهد السوري من خلف الستار . ولم يكن لروسيا أن تتدخل عسكرياً في سورية لولا تنسيقها معها . وهذا مايذكّرني بتصريح وليد المعلم قبل موته بأكثر من عام حين قال ( من يريد الإعتداء على سورية عليه التنسيق معنا ؟ ) وفعلاً قال ذلك بالحرف . قد تكون زلة لسان منه بغير قصد . لكنها وبكل الحالات فضحت حقيقة عصابة النظام . وها هي إسرائيل تقول أيضاً من يريد الإعتداء على سورية يجب عليه التنسيق معها . لذلك نسّقت روسيا دخولها العسكري في سورية مع اسرائيل كون هذه الأخيرة تتشارك مع نظام الأسد بالعداء لسورية والسوريين . لكن الإحتلال الداخلي هو الأشد خطورة من الاحتلالات الخارجية بعشرات المرات . لاخطر على سورية الأرض والشعب والموارد والمكانة والتاريخ والمستقبل أشد من خطر هذه العصابة المجرمة اللاوطنية .
ماحصدناه من مسار استانا.
الطبيعي أن الدول الثلاثة الضامنة لمصالحها التي أنشأت ورعت مسار استانا وكان أخطر ثماره السامة هي
اللجنة الدستورية التي أتت في سياقاته وانبثقت عن مؤتمر سوتشي . وهي في حقيقتها فكرة إيرانية كما صرّح بذلك جواد ظريف في ملتقى الدوحة وفق صحيفة واشنطن بوس . قال :
(..اللجنة الدستورية هي فكرة عملنا عليها لسنوات ..).
فاستانا بحق هي الرصاصة التي تم تصويبها الى جسد الثورة لقتلها ودفنها .
استانا واحد جائت بعد تسليم حلب للنظام .ويقول رئيس وزراء تركيا السابق أحمد داود أوغلو في مقطع فيديو نُشر على النيت بتاريخ 18|8|2021 ( حلب سقطت بيد النظام السوري بتسهيل تركي مقابل الإذن والإجازة الروسية لتركية بعملية درع الفرات . وأكد نفس الكلام على قناة (هابر تورك ) التركية .
في استانا 2 سٌلّمت داريا .
آستانا 4 سقط حي تشرين والقابون . واقترحت روسيا مناطق خفض التصعيد في درعا وأدلب وحلب واللاذقية وحمص .
تسليم الزبداني والقلمون الشرقي في استانا 5 و 6.
تسليم القلمون الغربي في استانا 7.
استانا 8 أثمر عن مؤتمر سوتشي الذي أنتج المولود المشوه واللقيط المسمى باللجنة الدستورية وسٌلمت أيضاً الغوطة الغربية .
في استانا 10 و11 تم تسليم درعا والقنيطرة .
في استانا 12 و 13 سُلمت حمص وريف حماه .
وتم تسليم منطقة جنوب أدلب سراقب ومعرة النعمان في استانا 14 . بقيت إدلب لأهميتها لأمن تركيا . وما عداها أعادتها الدول الضامنة للنظام .
هذه بعض من انجازات استانا والدول الضامنة ليس للسلام والأمن في سورية بل كانت ولا زالت ضامنة لمصالحها . ولاستدامة قهرنا ومعاناتنا وكوارثنا .
لكن نتسائل أين الضامن “والحليف “التركي من كل الذي حصل؟ وما هو الدور الذي قام به من موقع الحليف والداعم للثورة ؟.
المسار السياسي البديل لجنيف الذي ولد في استانا
والهادف لتصفية الثورة وإعادة تعويم النظام.
شعرت روسيا بأن الوقت أصبح ملائماً وناضجاً للخوض في المسار السياسي البديل لجنيف , لتستثمر سياسياً بما حققته عسكرياً على الأرض ,لاستكمال انقلابها على العملية السياسية . وبالرغم من أنها قالت بأن آىستانا مسار عسكري لايتدخل بالسياسة . ومع ذلك طرحت في الجولة الثالثة منه في 14 آذار لعام 2017 اقتراحات بوضع دستور جديد لسورية . لأنها أيقنت بعدم قدرتها على خطف القضية السورية وتحقيق أهدافها التي ترنو لها وقوننة النهب والسلب للموارد والأصول السيادية السورية من خلال المسار العسكري فقط . لذلك أرادت أن تٌفصّل مساراً سياسياً جديداً إنقلابياً على جنيف
لكن مشروع الدستور حينها لاقى رفضاً قاطعاً وشاملاً من الشارع السوري ماجعلها تتراجع عنه لشعورها بأن الظروف لم تنضج بعد . فكان لابد ومن وجهة نظرها المضي قُدماً في تطويع المعارضة السياسية والعسكرية أكثر بهدف الإستجابة للمتغيرات الميدانية والإقليمية .. فكان مؤتمر الرياض ( 2 )الذي عُقد في 23 |11 لعام 2017 . واحدى نتائجه كانت إعادة تشكيل هيئة التفاوض لتصبح أكثر قابلية للإستجابة لشروط ومستحقات الإنقلاب على جنيف والعملية السياسية من خلال سوتشي لإنجاز تسوية تعيد تعويم النظام من خلال تقزيم العملية السياسية بالقفز فوق هيئة الحكم الإنتقالي المخولة بكافة الصلاحيات التنفيذية كبوابة للعملية السياسية المستندة لبيان جنيف 1 والقرار 2254 .
واختصارها بإصلاح دستوري أو كتابة دستور جديد وانتخابات , وحكومة تُعطى فيها بعض شخصيات المعارضة المنبطحة بعض الحقائب الوزارية الهامشية . وكفى الله المؤمنين شر القتال .
وللتذكير بأن قرار مجلس الأمن رقم 2254 لعام 2015 . حدد وبدقة تراتبية المراحل الثلاث للعملية السياسية والمضبوطة زمنياً خلال 18 شهراً حسبما وردفي البند 4 منه والذي جاء فيه :
(..آ- يعرب مجلس الأمن عن دعمه لعملية سياسية بقيادة سورية تسيرها الأمم المتحدة , وتقيم في غضون فترة مستهدفة مدتها 6 أشهر حكماً إنتقالياً ذا مصداقية ويشمل الجميع .
ب- وتحدد (والمقصود “هيئة الحكم” ) جدولاً زمنياً لصياغة دستور جديد .
ج- ويعرب كذلك عن دعمه لانتخابات حرة ونزيهة تجري بالدستور الجديد في غضون 18 شهر تحت إشراف الأمم المتحدة ).
ولم يكن صدفة وبالتزامن مع انعقاد الرياض 2 وبنفس التوقيت عُعقدت قمة سوتشي الثلاثية بين الرؤساء الثلاثة الروسي والإيراني والتركي والتي هدف الروس منها وضع الأسس لتسوية سياسية تحفظ مصالح الأطرف الثلاثة وترسّخ نفوذهم في سورية على حساب دماء السوريين . وكان تصريح وزير خارجية روسيا سيرغي لافروف حينها واضح الدالة والقصد في تعليقه على استقالة د. رياض حجاب وسهير أتاسي ومحمد صبرا وغيرهم من أعضاء الهيئة المنحلة بالقول :
(إن تراجع شخصيات المعارضة ذات التفكير المتشدد عن لعب الدور الرئيسي سيجعل من الممكن توحيد هذه المعارضة غير المتجانسة في الداخل والخارج حول برنامج معقول وواقعي وبنّاء بشكل أكبر ).
أن هذا التصريح يكشف بما لالبس فيه السياقات التي أتى فيها المؤتمر ولماذا تم استبدال هيئة المفاوضات وتوسيعها بإدخال منصتي موسكو والقاهرة لها بأربعة أعضاء لكل منصة .؟ فكل ذلك تم بتدبير ورغبة روسية هدفها مزيد من احتواء المعارضة وإضعافها لتكون قابلة لكل ماتريده موسكو وتسعى له .
وفعلاً وبعد خمسة أيام من تشكيل وفد التفاوض الجديد المنبثق عن الرياض 2 , ذهب الوفد بحلته الجديدة التي ضمت منصتي القاهرة وموسكو برئاسة نصر الحريري لحضور جنيف 8 بتاريخ 28|11 2017 . استمرت هذه الجولة 4 ايام واتسمت بتعتيم إعلامي لما يدور فيها . وفي تقرير للعربية نسبت المعلومات الواردة إليها كتسيريبات من داخل الإجتماع وأنا أنقله هنا على مسؤوليتها : بأن ديمستورا خاطب وفد المعارضة قائلاً لهم لقد فقدتم الدعم الدولي ولم يعد التمسك بحرفية القرار 2254 ذات جدوى وطرح عليهم الموافقة على خطته والتي سيطرحها على بشار الأسد بمناقشة سلة الدستور وتجميد البحث في باقي السلال الأخرى ؟
بالطبع هي خطة روسيا بامتياز تم تحضيرها في مطابخ استانا . وموقف المبعوث الدولي أعتقد كان تحت ضغط الروس أو مالأهم . وفي كلتا الحالتين يفقده ذلك حياديته المطلوبة لممارسة مهمته المنوطة به. وطبعاً هذا مخالف لمنطوق القرار 2254 . وطبعاً لم يكن هذا ليمر بدون قبول المعارضة . وفعلاً قبلت فيها وبكل غباء وسذاجة ؟ وأقل مايمكن أن يٌقال فيه, بأنه تفريط مجاني لحق مُنح لها بموجب قرار مجلس الأمن لايستطيع أحد ان يجبرها على أن تتنازل عنه ؟ وليس من حقها أصلاً التنازل عنه لأنها غير مفوضة بذلك . ومهّد لهذه الخطوة وفتح الطريق أمامها خطوة سابقة كانت قبول وفد المعارضة في جنيف 4 المنعقد في 23شباط لعام 2017 . خطة ديمستورا بتفتيت جنيف إلى سلال أربعة وهي سلة الحكم .. سلة الدستور ..سلة الإنتخابات .. سلة الإرهاب ..( وهذه الأخيرة فرضها النظام ولاوجود لها في صياغة ومنطوق القرار2254) . على أن تكون السلال الأربعة على مستوى واحد يٌبحث سلة منها بغض النظر عن التراتبية التي وردت بالقرار ؟ بحجة كسر الجمود الحاصل في المفاوضات لتعنت وفد النظام ورفضه مناقشة أو بحث أي مسألة تتعلق بهيئة الحكم الإنتقالي . وطبعاً هذه الخطة أرى فيها مكرمقصود لذاته ومكيدة مبّرة لمعارضة لازالت تحت سن الرشد السياسي . وأعتقد كانت استجابة للضغوط الروسية لتفتيت القرار 2254 . وتجاوز تراتبية مراحله الثلاث والتي تبدأ بهيئة الحكم الإنتقالي . ومع الأسف قبول وفد التفاوض بهذه الخطة الخديعة هي سذاجة فاقعة تكشف بأنه غير مؤهل لحمل أمانة تمثيل الوجع والحلم السوري .
وهذا ما فتح أمام الروس وأطراف استانا أول ثغرة في الجدار للإنقلاب على العملية
السياسية وتعطيلها, وطرح السلة الدستورية مقدمة على سلة الحكم الإنتقالي .
وفي ظل إرادة دولية رخوة , وموقف أمريكي ضبابي غير حاسم .ومعارضة قاصرة رخوة بائسة يمكن أن
تفهم بأي شيئ إلّا في السياسة ! تم سوقها وممثلي النظام (لسوتشي )والذي سُمّي بمؤتمر الحوار الوطني السوري في منتجع سوتشي والذي عقد في 30 كانون الثاني ” يناير لعام 2018 .بلمة تجميعية من السوريين غالبيتهم من أزلام النظام وشبيحته . فكل دولة من الدول الثلاث الضامنة أحضرت أدواتها والتابعين لها من شخصيات هزيلة الى مؤتمر سوتشي . وأصدق كلمة قالها المرحوم لؤي حسين رئيس تيار بناء الدولة حينها بتصريح صحفي من داخل المؤتمر.
( أن الدول الضامنة تركيا وروسيا وإيران هي التي تتحكم بالواقع السوري..وأضاف بالتأكيد إن هذا المؤتمر يقوم على جثة مفاوضات جنيف ).
وكانت إحدى ثمار سوتشي السامة هي اللجنة الدستورية الكارثة التي انخرطت بها لمة المعارضة الفاقدة لرشدها السياسي وقرارها . والتي قاطعت مؤتمر سوتشي مسايرة للمزاج الشعبي السوري لكنها أخذت بكل مخرجاته وأهمها الإنخراط باللجنة الدستورية ؟ . مما يتبين لنا ضحالة وهزالة هذه الجوقة المسماة معارضة والتي انخفض سقفها وفعاليتها الى دور ثانوي في إدارة الأزمة الناجم عن صراع الإرادات العربية والإقليمية للدول الراعية بما تقتضيه مصالح هذه الأخيرة . وليس استجابة لدماء السوريين وحلمهم بالحرية . وكل كلام آخر يصبح ثرثرة لاطائل منه ..
والخطر الحقيقي يكمن فيما إذا نجحت الأطراف الثلاثة باستمرارية خطف الملف السوري الى هذاالمسار الكارثي والخياني , والذي استنبت اللجنة الدستورية السامة. والهادف لإعادة تعويم وشرعنة النظام بمسرحية هزلية وفق أهداف رُعاته وأطرافه , وبشهادة زور من المجتمع الدولي والأمم المتحدة . مبنية على توافق وقبول النظام والمعارضة به وبنتائجه .
ماذا يعني هذا لو حصل ؟ اول مايعنيه هذا هو شرعنة نهب روسيا وإيران للموارد والثروات والموانئ والأصول السيادية السورية التي فرّط بها نظام العمالة والإجرام وباعها لهما مقابل الكرسي تحت يافطة عقود واتفاقيات لخمسين عاماً قادمة ؟ تحت حجة بأن كل هذه الإتفاقيات صحيحة ولايٌطعن بشرعيتها بكونها تمت بين طرفين كاملي السيادة .لأن هذا المسار هو في حقيقته اغتيال للعملية السياسية الهادفة للتغير الديمقراطي أي إحداث تغيير بنيوي وجوهري في طبيعة السلطة والدولة والمجتمع يضرب مواقع التحكم والشمولية والإستبداد بكل مفاصلها عبر الإنتقال من هذا النظام لنظام جديد . أمّا مسار استانا الذي أنتج اللجنة الدستورية من خارج الرحم الوطني السوري تم تفصيله وبعناية فائقة ومكر ليكون الإنتقال من النظام الى النظام نفسه ؟ مع بعض المساحيق التجميلية في المظهر دون أن تطال جوهره وبنيته . أو مايعنه هذا هو إسقاط حق السوريين في الإدعاء بإلغاء كل الإتفاقات والمعاهدات التي باع بموجبها بشار الأسد ثروات السوريين لروسيا وإيران؟ . لأنه وبكل بساطة في غياب سلطة الحكم الإنتقالي سيكون النظام هو المرجعية الوطنية الشرعية التي قادت الإنتقال الصوري والمزيف ؟ وبكون السلطة التي ابرمتها احتفظت بشرعيتها بل تم التأكيدعليها وإعادة تدويلها. هذا يعني بأن كل هذه الإتفاقيات كما أسلفنا صحيحة ومُلزمة لأطرافها التي تملك حق إبرامها. فأي طعن بصحتها أومطالبة بمراجعتها يُصبح ضرب من الخيال . ويعني أيضاً بيع لكل دماء الشهداء وتضحيات السوريين عبر كل هذه السنوات .
فهل يعي هؤلاء المقامرون القاصرون الصغار والسذّج ؟ هؤلاء اللمة الكريهة من المعارضة الرخوة والهزيلة ممن انجذبوا لمسار استانا الخيانة ؟ وشاركوا في مايُسمى باللجنة الدستورية ماذا يفعلون ؟ وماذا ستكون نتيجة أعمالهم ؟
إذا نجح هذا المسار لاسمح الله سيكونون هؤلاء بموقع الشراكة الجرمية الكاملة مع نظام الأسد في بيع ثروات البلد وأصولها السيادية . والخنجر المسموم الذي طعن الثورة في ظهرها من الخلف , وباع كل آلام وقهر ومعاناة السوريين . رغم احترامي لبعض منهم والذي أعرفهم عن قرب, ولم اشك يوماً في وطنيتهم . لكني استغرب كل الإستغراب ضياعهم للبوصلة والإستدلال الصحيح إلى هذا الحد الفاضح . فمنهم من عاتبني لمهاجمتي وفضحي لخطورة هذا المسار واللجنة الدستورية منذ البدايات لكونهم جزء منها ؟ ومنهم من قاطعني . ومنهم من اشتكاني لبعض الأصدقاء المشتركين لأتوقف عن ذلك ؟ لكن المسألة ليست شخصية أبداً البلد وتضحيات الناس وآلامهم هي فوق كل اعتبار . آمل أن يصحى هؤلاء من خدرهم ويعودا لرشدهم قبل فوات الأوان .
وأخيراً نقول للسيد فيدان مع حرصنا على أطيب العلاقات مع تركيا . ليس لنا أية مصلحة بخلق عدوات مع أي دولة ؟ وكيف مع تركيا ؟ وهي الدولة الجارة التي تربطنا بها علاقات تاريخية طويلة. وحدودنا المشتركة معها تمتد لأكثر من 700 مئة كم . خلا عن أنها استقبلت الملايين من السوريين , الهاربون من الموت . نحن لاننكر الجميل أبداً . ونقدّر لها هذا الموقف . لكنني وكل السوريون نعتقد جازمين بأن مصلحتكم الحقيقية هي مع الشعب السوري , وليس مع نظام عصابة مافيوية مجرمة , لابد وأنه زائل وسيتم ترحيله لمزابل التاريخ .
كيف تريدنا أن ننسى من قتلنا ؟ ومن ملئ الجغرافية السورية بالمقابر الجماعية لحرائرنا وأحرارنا ؟
كيف ننسى من دمر مدننا وقرانا , ونهب خيراتنا , وباع ثرواتنا للأجنبي .
من قتل شبابنا في سجونه جوعاً وتعذيباً . وهجّر نصف السوريين للخارج ؟
كيف ننسى من قتل اهلنا بالبراميل المتفجرة والأسلحة الكيماوية المحرمة دولياً.
الخلاف مع النظام ليس خلافاً على السلطة وكرسي الحكم ؟بل الخلاف على وطن بحاضره ومستقبله ومستقبل ابنائه. خلافنا مع النظام هوخلاف بين شعب يسعى للانعتاق من الإستبدد لنيل حريته وكرامته وحقوقه وأمنه كبقية شعوب العالم . وبين عصبة لاوطنية آثمة مجرمة فاسدة دمّرت البشر والحجر وهاهي تبيع الوطن بكل مفرداته قطعة قطعة للأجنبي.
نحن نُدرك بأن الأوطان لاتُبنى بالحقد والإنتقام ؟ بل بالصفح والتسامح . وفي التحولات الكبيرة والمصيرية
نتعالى على جراحنا لأجل مستقبلنا ومستقبل أطفالنا . من أجل أن نعيش بسلام وأمن وحرية , مواطنون كرماء لاعبيد في وطن يحفظ كرامة أبنائه . نحن نصفح نعم ولكن لن ننسى .
لكننا نصفح حينما تتحرر أعناقنا من سكين القاتل . حينما يتنحى المجرمون الذين أوغلوا بدمائنا ونهبوا خيراتنا وقتلو اطفالنا ودمّروا مدننا وقرانا عن المشهد.
نصفح ولاننسى حينما يُفتح أمامنا طريق الخلاص والحرية , ويصبح الإنتقال سالكاً ومفتوح امامنا للعبور . الى الضفة الأخرى تعبّده العدالة الإنتقالية التي تٌبلسم الجروح . كما جرى في جنوب أفريقيا .. في راوندا وغيرها من البلدان التي دفعت شعوبها فاتورة الحرية . نريد أن نعيش بأمن ومحبة وسلام في مجتمع خال من الحقد والإنتقام .
إذا أردتم مصالحة النظام صالحوه هذا شأنكم وحقكم . أما نحن دمائنا وشهدائنا وآلامنا هي مقدسة غير قابلة للبيع ولا للتدوال في مطابخ التسويات والمصالح الإقليمية .