كثيراً ما بات يتردد على مسامعنا بعد انطلاق الثورة السوريّة سنة 2011 عبارات مثل “ فسيفساء سورية، مجتمع فسيفسائي، النسيج الفسيفسائي السوري، اللوحة الفسيفسائية السورية”، وغالباً ما يتم طرح ذلك ضمن محاولات تأطير تلك المصطلحات وإعطاءها صبغة “سياسية” ومحاولة ترجمتها كبنود ومقترحات لعقد اجتماعي وبنود دستورية بصيغة فاقعة لا تتناسب مع الواقع الديموغرافي والتاريخي والجغرافي السوري، يتمسك عادةً بهذا الطرح بعض الشخصيات والجماعات السياسية التي تقدم لها كممثلة لبعض الأقليات الدينية والإثنية السورية، وتسعى من خلال نشاطها وخطابها إلى تعويم وإنكار وجود هوية حضارية وثقافية جامعة للسوريين، مقابل تمسكها بتعريف تفسها بدلالة انتماءاتها الفرعيّة (طائفية- إثنية- دينية)، يأتي ذلك ضمن طموحات سياسية يغيب فيها المشروع الوطني تماماً، ويتم فيها تجاهل المشتركات بين معظم مكونات الشعب السوري وأقصد هنا “الهويّة الجامعة”، وقد بالغت بعض الأصوات في تلك الأطروحات، إلى حد أن بعضها بات يقترح تعريف سورية بوصفها: (مزيج من القوميات والمذاهب والطوائف)، وبالتالي مزيج من الشعوب والهويّات والانتماءات، بل البعض بات يقترح رايات وأعلام ويرسم حدود لكيانات سياسية لاثنيته وطائفته دون أي اعتبارات للجغرافية والديموغرافية والتاريخ. يذكرنا ذلك بحقبة الانتداب الفرنسي، فقد حاولت فرنسا ضمن سياساتها الأثنية، إلى تقسيم وتصنيف الشعب السوري وفق انتماءات مكوناته الأثنية والمذهبيّة والدينيّة والعشائريّة، وبالتالي إنشاء خارطة أثنية في الذهنية الجمعية للسوريين، ومحاولة تعزيزها وإيقاظ التمايز داخلها. وكانت تسعى لنشر دعاية مفادها بأن الأقليّات الطائفية لها خصوصيات، بل ولا تشترك مع الأكثريّة في أصولها العرقيّة أو التاريخيّة أو انتمائها الديني، وكان مستشار المفوضية العليا “روبير دو كاي”، أحد أبرز الداعين لهذه الفكرة، حيث كان يرى بأن سوريّة “لم تعد تشكل وحدة سياسية متكاملة منذ سقوط الدولة الأمويّة، وباتت عبارة عن مجموعة أقاليم تضم أديان وأعراق متباينة”، ورأى بأنه “يجب أن يتم جمعها بصورة تدريجية في نظام فيدراليّة تشرف على تأسيسه فرنسا”.
(ريموند أوزوكس) أحد المدافعين عن السياسية الانتدابية ومعاصراً لها، حاول كذلك رسم ملامح لهوية سورية جديدة بمفهوم انتدابي يتجاوز حتى حقيقة البعد التاريخي لسورية، يقول: “ما يسمى (سوريا) تعبير مبهم لا يشكّل وحدة، بل فسيفساء من التقاليد والمعتقدات، والاتجاهات المتباعدة” انتهى الاقتباس.
خارج إطار الدعاية الفرنسية ومن كان يدور بفلكها، لم يتبنَّ أي أحد في الحقل العلمي والاجتماعي تلك المفاهيم، فقد عاش الشعب السوري تجربة ديمقراطية إلى حد كبير في ظل الغياب الفرنسي ( قبل حقبة الأسد)، أكدت على الأرضية المشتركة الأعمق في وجدان الشعب السوري. وقد انتقد “هامسنلي لونكريك” ما حاولت فرنسا تكريسه من تشويه لواقع المجتمع السوري باستغلال وجود تنوع بالفعل في مسألة وجود الطوائف الدينية والأقليات اللغوية، يشير إلى ذلك بقوله: “أنَّ الانطباع السائد حول سوريا بوصفها” فسيفساء من الأقليّات“يمكن أن يكون مضللاً، وذلك ليس لتجاهله الغلبة الكبيرة للسكان المسلمين السنة فحسب، بل ولتشديده على نحو غير مطابق للواقع على العناصر التي تفصل الأغلبيّة عن بقية السكان، وتقليله من شأن الأرضية المشتركة الواسعة التي يلتقي عليها الجميع” على حد وصفه. مضيفاً أنه: “إذا كان قد وجد حيز لسياسات الخصوصيّة المسيحيّة، فقد وجد حيز كذلك للتفكير وفق خطوط سورية تعبّر عن الوحدة الجوهرية للبلاد، والعهود الطويلة من التعايش، والأصول السلالية المشتركة، وتراث العروبة العظيم المشترك”.
الكاتبة الفرنسية فالنتين دي ساينت أيضاً ذهبت بذات الاتجاه، حيث أكدت بأنَّ الذين يدّعون بأن سورية يقطنها أناس من مختلف الأجناس ويحاولون إثبات ادعاءاتهم بالإشارة إلى الطوائف الدينية، والإيحاء بأن اتباع كل من هذه الطوائف يُشكل شعباً منفصلاً، هو في الواقع متعارض مع الحقائق، وتنكره الوقائع والحقائق التاريخية من جميع النواحي، ويمكن للباحث الحقيقي إدراك بأن السوريون يشكلون أمة متجانسة تتحدث اللغة نفسها “اللغة العربية”، ويعيشون نفس الحياة، ولهم نفس التقاليد، وينتمون إلى نفس العرق، أما الغزاة الذين نجحوا في الوصول إلى سورية وغمرت موجاتهم البلاد، فإنهم مروا فيها فقط، أما العناصر الأسيوية الكردية والتركية والشركسية التي تحالفت مع العنصر السوريّ منذ سيطرة العباسيين، فقد اندمجت تماماً في المجتمع، ولم تحافظ على أي خصوصية تميزها.
يتفق غسان سلامة مع هذه الآراء فيقول: “على مستوى الهلال الخصيب ككل، لا يخلو الأمر من أكثريات واضحة تمنع عملياً تطبيقاً متسرعاً لفكرة الموزاييك (الفسيفساء) على مجتمعاته، فالأكثرية الساحقة من سكان المنطقة تتكلم اللغة العربية على الرغم من وجود قديم للغات الكردية وحديث للغة العبرانية (داخل دولة إسرائيل) وعلى استمرار بعض اللغات السامية، كالسريانية ولو بصورة محدودة للغاية، والأكثرية الساحقة تنتمي دينياً إلى الإسلام بمذاهبه السنيّة، على الرغم من وجود أقليات مسيحية ويهودية وإسلامية غير سنية ويزيدية. والأكثرية الساحقة تنتمي ثقافياً إلى هذه المنطقة”.
هذه الآراء جميعها هي من صميم الواقع السوري، ويمكن لأي إنسان بسيط الإقرار بصحتها، وهي تفنّد الآراء الأخرى التي كانت قد ظهرت لأول مرة زمن الاحتلال الفرنسي، قبل أن يُعاد استردادها مع بدء الثورة السورية، والتي تتمثل في محاولاتها الدائمة لإظهار السوريين كشعوب منقسمة متباينة، في محاولة لتعويم هويتها وتغييبها، وكذلك إنكار ارتباطها العضوي الحضاري والتاريخي والثقافي بوعائها العربي والإسلامي.