لم يكن بإمكان الأسد أن يقدّم سردية للقضية السورية غير تلك التي سمعها و شاهدها السوريون والمعنيّون بهذه القضية. لقد كان هاجسه الأساس في لقائه مع محطة “سكاي نيوز- عربية” أن يظهر قوياً، متماسكاً، غير خائف، متناسق و منسجم السردية؛ بحيث وصل إلى القول مضطراً بأنه إذا ما عاد إلى 2011، سيفعل الشيء ذاته.
لقد استلزم الظهور بهذا المظهر تضييع فرصة (و ربما فُرصاً) ذهبية تهيأت لتمنحه إمكانية طي صفحات سوداء يستحيل طيّها؛ فوجد نفسه – كي يحقق هدف إثبات القوة والتماسك والتناسق – يغلق كل الأبواب على ذاته في غرفة مليئة بالغاز السام، اختفت مفاتيحها يمكابرته واستكباره و انفصامه.
يعرف أن الداخل السوري مرهق و ممزق نفسياً واجتماعياً و اقتصادياً؛ و أن الأمنية الأساس عند هذا الداخل إما تغيير الحال أو الخروج من البلد؛ إلا أن توصيفه وإغراقه لهذا الداخل بأنه شعب وطني يدافع عن بلده قد يطيّب خاطر هذا الداخل و يوقف أوجاعه؛ و لكن فاته أن مستشارته الخاصة قالت يوماً في مقابلة تلفزيونية إن لا فضل ولا جميل لهذا الشعب بالدفاع والتضحية، لأنه يدافع عن نفسه.
استلزم الظهور بمظهر القوة ذِكْره العابر لكل من روسيا و إيران المسؤولتين عن إبقائه بالسلطة. و لولا خوفه من الإقرار بمسؤوليتهما عن بقائه – كإقرار بالضعف – و خشية من ردة فعلهما و غضبهما، لكرر ما قالت بعض أبواقه الإعلامية من أن لهما مصالح، و هو من ساهم بوجودهما السياسي الوازن في الساحة الدولية. و من هنا ركّز على الدور الحاسم للشعب في استمراريته، متغافلًا عن تصريحات الروس والإيرانيين، بأنه لولاهم، لسقط.
للامعان بالانفصال عن الواقع، و الظهور بمظهر القوي، ضرب “النظام” بعرض الحائط فرصة ذهبية عَمِلَ بوتين على تهيئتها لتقاربٍ مع تركيا، يفتح أمامه آفاقاً تعطّل ثقل و فاعلية عشرة ملايين و نيّف لن يجدوا مخرجاً أمامهم إلا الضياع أو العودة لتحت جناحه الدموي بحكم الضغط والاضطرار.
أما الباب الأخطر الذي أوصده، فكان باب العرب الذين هيئوا له الفرصة التاريخية لطي صفحة دموية مريرة. لقد فعل ذلك عندما وصّف التقارب والعلاقات معهم بالشكلي؛ وقام بتتفيه خطواتهم، و اشتراطه تقديم الأموال؛ و كأنهم يكفّرون عن أفعال ارتكبوها بحق سوريته. و إن كانوا يسعون لردع آفة “الكبتاغون، التي تجتاح بلادهم، فهو لم يعدَهُم بذلك، بل اعتبرهم في مقابلته مشتركين بالمسؤولية عن تلك المخدرات، التي رأى فيها نتيجة للارهاب والمؤامرة الخارجية التي تشير تلميحاته و وحسب سردياته السابقة
بأنهم كانوا جزءاً منها،
و بفعل هاجس الظهور بمظهر القوة، و انسجاما مع سردية “المقاومة”، اعتبر أن الاستهداف الإسرائيلي لمواقع إيرانية في سوريا، استهدافًا لسوريا؛ رغم أن هناك تسريبات تفيد بان منظومته كانت تسرب بعض احداثيات مواقع وأشخاص واجتماعات بعينها تخص إيران. إلا أن إغراء /الاستهداف من قبل إسرائيل/ جعله يعتبره استهدافاً لسوريا، كي يكون “القوي المقاوم الممانع”.
إن الإصرار على السردية ذاتها في تصوير ما حدث ويحدث في سوريا ولها كنتيجة للارهاب و المؤامرة كونية، و تنصّل منظومة الاستبداد من كل ما حدث، بما في ذلك المخدرات، دليل قاطع على المبدأ الإلغائي في صراع تعتبره هذه المنظومة صراعاً وجودياً: { إما بقاء هذه المنظومة، أو الفناء} عملاً وانسجاماً مع شعاراتها الأساسية: {الأسد أو لا أحد} و {الأسد أو نحرق البلد}. من هنا تعتبر هذه المنظومة أنها فازت برهانها، حيث بقي الأسد، واحترق البلد؛ ولكن يغيب عن هذه المنظومة أن احتراق البلد قد حرق المنظومة أولاً؛ فهي جثة متفسخة بانتظار الدفن فقط.
لقد شهدنا في مقابلة الأسد مع المحطة الإماراتية خطاباً انتخارياً رعديداً بلا عقل أو رُشد أو هداية؛ حيث كانت هذه المقابلة الفرصة الذهبية، ولكنها ضاعت. و ربما صدمت أصحاب المحطة كما صدمت بعض الصامتين على ضفة النظام ذاته. لقد أتى ذلك بفعل توازن الطبيعة، التي لا بد تتدخل في لحظة لا نحسبها.
إن أخطر ما أتى في هذا اللقاء الفضيحة، والذي سعى رأس النظام من خلاله أن يثبِت قوته، لا تكذّبه وتثبت زيفه الجهات المعارضة للنظام، بل “حاضنته” التي سمّاها يوماً الشعب “المتجانس”، حيث دمّر حياته و خنقه ليبقى وطغمته بالسلطة. و من هنا، تراه جعل طريق القوة المَعْبَرَ الوحيد للخلاص من غرفة الغاز السام التي وضع سوريا فيها . ولن يكون ذلك بفعل مَن يرفض الأسد من السوريين فقط (بما في ذلك مَن هم محسوبين عليه- وها نحن نشهد ارهاصات لذلك التوجه)، بل بدعم يتجاوز الداخل ، بحكم أنه أصبح خطراً يتجاوز الحدود السورية.