إبراهيم الجبين
لم تكن زلة لسان أفلتت من بنيامين نتنياهو، رئيس الوزراء الإسرائيلي، حين كرّر القول إنه لن يسمح لغزة بأن تكون في اليوم التالي للحرب الإسرائيلية عليها “حماس ستان” أو “فتح ستان”.
وما يعكسه استعمال نتنياهو لتلك التعابير، هو رؤيته القائمة على فهم قديم يريد أن يغادر أصحابه، يرى الشرق الأوسط عبارة عن “عرب ستان” و”كرد ستان” وترك ستان” وهو باستخدام هذه النعوت، لا يستثني نفسه وكيانه الذي يريده أن يبقى حارة يهود مغلقة، “غيتو” أو بكلمات أخرى “إسرائيل ستان”.
لكن من بقي في إسرائيل نفسها، وفي العالم المحيط بها، يؤمن بمثل هذا التفكير الذي يستجلبه نتنياهو من إرثه الشخصي ومعلميه الكبار، زئيف جابوتنسكي الذي كان من أشد معارضي أي تفاهم بين اليهود والعرب، كما حين اصطدم مع حاييم وايزمن واتهمه بـ “إضعاف القضية اليهودية” ليبقى صاحب الفكر المهيمن على جيل جاء بعده، من بين أفراد ذلك اللجيل والد بنيامين نفسه والذي غيّر اسمه واسم عائلته من ناثان ميليكوفسكي إلى “بن صهيون نتنياهو” التي تعني بالعربية “عطا الله”. والذي واصل الإيمان بنظرية جابوتنسكي التي ترفض حدود إسرائيل التي نص عليها قرار التقسيم الأولى، وتطالب بإسرائيل من الفرات إلى النيل.
ثقافة رئيس الوزراء الإسرائيلي كلها تم تأسيسها في خارج الشرق الأوسط وإسرائيل، ووقعت تحت تأثيرات عديدة، لا تزال تؤمن بأن الصراع العربي الإسرائيلي هو الاستثمار الأفضل للجميع، الغرب، الطبقة السياسية الحاكمة في إسرائيل، إلى جانب الأنظمة العربية التي طبّعت مع إسرائيل علناً أو تلك التي تنسق معها سرّاً. وتتمحور هذه الرؤية حول كلمة السر “لا يجب أن يتغيّر أي شيء تم تثبيته من قبل”.
هذه الثقافة القديمة، التي مثلها بجدارة وعناد النظام الرسمي العربي الذي عصفت به رياح التغيير، منذ العام 2011 ولا تزال آثارها لم تهدأ حتى اليوم، هي التي قادت نتنياهو إلى هندسة الإبقاء على نظام الأسد بالتنسيق مع حلفائه في الكرملين، مبكراً، وهي ذاتها التي قادته إلى المغامرة في السماح لإيران بالاقتراب أكثر وأكثر من الحدود الإسرائيلية غير المعروفة حتى اليوم، وبحساباته فإن إضعاف الدول العربية وتحويلها إلى “ستانات” سيعزّز استمرار حاجة الغرب إلى إسرائيل كضابط أمن وحارس للشرق الأوسط.
ولكن نتنياهو ودون أن ينتبه، يتصادم بذلك مع نهج كان قد تطور في إسرائيل، وهو الحاجة إلى الاستقرار والازدهار والتنمية وحل الخلفات وإلى الأبد. جيل أنتج سياسيين مؤمنين بحل الدولتين، إسرائيلية وفلسطينية، وتطبيع إيجابي ومثمر مع دول الجوار والكف عن ممارسة دور الكيان المارق الخارج عن السيطرة والذي باتت ترفضه حتى أوساطه اليهودية العالمية الداعمة له.
دور إسرائيل الذي يصرّ نتنياهو على مواصلته يلحق أكبر ضرر بصورة اليهود في العالم، ويجرح وبعمق احتكارهم لشخصية الضحية التي خرجت من بعد الهولوكوست.
في ذروة سعي الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما لعقد اتفاقية رأى هو وفريقه أنها تضبط سلوك إيران وتحد من تسارع مشروعها النووي، استنفر نتنياهو ضد أوباما، وضد الاتفاق النووي، وشن حملة ضد البيت الأبيض، ووصل الأمر به، حسب مصادر خاصة، إلى شتم الرئيس الأميركي واستعمال صفات تشير إلى لون بشرته، بعنصرية ليست مستغربة من نتنياهو.
وذهب أوباما وجاء ترامب ومن بعده بايدن، ومع ذلك فإن نتائج صراع نتنياهو مع الجميع من أجل تثبيت معادلته المستحيلة التي لم يعد مكان في عالم اللحظة الحالي، وصل أخيراً إلى ما تحت قدميه، في يوم السابع من أكتوبر الماضي، حين شنت حماس هجوماً عنيفاً اخترق الحدود والتحصينات الإسرائيلية وأحدث صدمة لم يستفق منها نتنياهو بعد.
منذ تلك اللحظة ونتنياهو يحاول بالقوة بث الروح في مشروعه الذي انتهى ومات، وانطوى معه النمط القديم للتعاطي مع القضية الفلسطينية، وليس الفضل في ذلك كما توحي الكلمات لرؤية حماس أو إيران، بل إلى طبيعة التطور الذي أصاب كل شيء حول المشهد العربي الإسرائيلي.
نحن في عصر جديد، ليس من بين مفرداته نتنياهو، الذي كان الصخرة الكبيرة التي أعاقت الربيع العربي في سورية، وربما في دول عربية أخرى. وهو بطبيعته العنيدة يقامر حين يصر على تلبية مصالح إيران بالحفاظ على ميليشياته والأنظمة التابعة لها في أربع دول عربية، وفي الوقت ذاته يشتكي من خطر إيران على دولته!
رأى نتنياهو أن يبتز الشعب الإسرائيلي مثلما تمرّس على ابتزاز الغرب، وبتخويفهم الدائم من داعش السلفي السني وإيران الشيعية والديموقراطية العربية المجهولة (الشيطان الذي لا يعرفه الإسرائيليون) سيبقى الجميع مثل ثيران تدور في ساقية، ويستمر الصراع.
الآن لا يمكن لهذا أن يستمر، وعلى نتنياهو أن يقتنع أنه تمت هزيمته، لا بقوة خصومه، بل بسبب تخلّف فكره ورداءة قناعاته وعدم ملاءمتها للعصر.
لن يستطيع مواصلة الحرب بشكلها العبثي الحالي، ولن يستطيع إيقافها لأنه حين يوقفها سيجد نفسها خارج الحكومة وفي قفص الاتهام أمام القضاء بتهم عديدة من بينها الفساد والتقصير والتخبّط في اتخاذ القرار والتفريط في حماية المواطنين المدنيين والعسكريين. وكما لن يجرؤ على اتخاذ قرار بوقف الحرب، فهو لن يجرؤ على الموافقة على أي صفقة مع حماس يمكنها أن تعطيها الشرعية وتمهّد لليوم التالي بالفعل بظهور معادلات جديدة وشخصيات جديدة قد تخرج من المعتقلات وتغير “الثبات” الفلسطيني كما في حال أصرت حماس على الإفراج عن القائد السياسي مروان البرغوثي.
كل شيء جديد أمام السيد نتنياهو الذي لم ينجز شيئاً حتى في المشروع الصهيوني سوى لعب دور الصمام الذي يمنع التغيير، فهو لم يتخل يوماً عن رفضه لاتفاقية أوسلو التي يسميها خطأ أوسلو وهي الاتفاقية التي حصل قائدان من أبرز قادة إسرائيل التاريخيين هما بيريز ورابين على جائزة نوبل للسلام جراءها رفقة ياسر عرفات، ولم يتخل كذلك عن رفضه لفتح في الضفة الغربية وإصراره على إضعافها بالسماح لغزة بالعيش منفصلة عنها، وحل الدولتين، ومبادرة السلام العربية، وكل ما تم تقديمه من قبل حول أي صيغة للعيش بسلام.
هذا ما يريده نتنياهو والذي سوف يأخذه معه قريباً حين يرحل ويجرّ معه كثيرين في المنطقة.