إبراهيم الجبين
دار حديث قبل سنوات عن اعتداء قيل إن شاباً عربياً سورياً قد قام به ضد يهودي سوري (آخر) في مدينة ألمانية، دون أن تقدم وسائل الإعلام معلومات مفصلة تبرهن على ذلك، وهذه الحوادث، وما نشهده من جدال حول العلاقة بين العرب واليهود، تجعل المرء يفكر في مثل هذه الأسئلة. وكنت قد كتبت مقالاً، حول تلك الحكاية، نشر باللغة الألمانية في مجلة Inter Kultur الألمانية في خريف العام 2017واليوم تعود الحاجة إلى ما ورد فيه من حقائق وأسئلة مع أحداث غزّة والقصف اليومي العنيف ضدّ المدنيين الذين يدفعون ثمن القرارات الحمقاء والماكرة معاً للسياسيين.
إن استهداف المدنيين جريمة، مهما كان الطرف الذي ينفّذها، وأياً كان ضحاياها، ولا تحتاج إلى خبراء قانونيين لتشخيصها، فالأخلاق والقيم الإنسانية ترفضها على الفور ودون تردّد. وبالنسبة لي شخصياً، كنت ولا أزال، أجد صعوبة في تصديق هذه القصص التي يجري تردادها، من أن العرب يمكن أن يكونوا معادين لليهود، وأنهم يمكن أن يخلقوا حالة من العنف الدموي تجاه الآخر فقط لأنه يهودي.
حتى نفهم ما يجري اليوم، علينا أن ننظر إلى التاريخ، وبالتحديد إلى الحرب العالمية الأولى. في ذلك الوقت، كان هناك كيان سياسي جديد آخذ في الظهور في الشرق الأوسط. كان اسمه المملكة العربية السورية. وكان الهدف هو الاستقلال.
بدأ النضال من أجل الاستقلال مع مجموعة من المثقفين العرب السوريين الذين سعوا إلى خلق حركة وطنية سياسية لإنقاذ الهوية العربية من الضياع. وكان القلق على هذه الهوية نتيجة لسياسة اتبعتها الدولة العثمانية، ألا وهي “التتريك”. وكانت تلك السياسة تتألف، من بين أمور أخرى، من حظر استخدام اللغة العربية إلى الكثير من الإجراءات التي طبقها الاتحاديون الأتراك.
وبتأثرهم بالفلسفة الألمانية، وضع العرب آنذاك، ميثاقًا وطنيًا سمّي “ميثاق دمشق” ودعوا إلى بناء دولة ديمقراطية للجميع لكنها تحفظ هويتهم وحضارتهم من الاندثار. وبسبب الخوف من جمال باشا السفاح والي دمشق الذي سيقود مجموعة من السياسيين السوريين في دمشق إلى المشنقة في وسط ساحة المرجة في دمشق، طلبوا من فيصل ابن شريف مكة إيصال “ميثاق دمشق” إلى حلفائه البريطانيين والفرنسيين. وكما تروي التفاصيل فقد خبأ فيصل مخطوطة الميثاق في حذائه ونقله إلى الحجاز حيث أبيه.
وبعد سنوات قليلة، عاد فيصل هذا ملكاً على “المملكة العربية السورية”. وكان من أولى إجراءاته تعيين إلياهو ساسون رئيساً لتحرير أول صحيفة قومية عربية (عنوانها: “الحياة”). كان ساسون يهودياً من دمشق. في ذلك الوقت لم تكن هناك مشاعر كراهية تجاه اليهود، كما يزعم الغرب، كان الجميع متساوين، يهود ومسلمين ومسيحيين، وكان الجميع يتمتعون بهوية وطنية مشتركة.
إلى جوار ذلك كانت قد طبعت في دمشق أعمال موسى بن ميمون، المفكر اليهودي الأندلسي الذي يقول الكثير من اليهود عنه: «لم يخلق الله بعد موسى مثل موسى، إلا موسى». يريدون بذلك أن يظهروا إن أهمية المفكر موسى بن ميمون يمكن مقارنتها بأهمية النبي موسى. وفي العالم العربي الإسلامي، في ذلك الوقت وحتى هذه اللحظة، لا يزال موسى بن ميمون يعدّ واحداً من المفكّرين العرب المسلمين. هكذا صنّفه المفكرون العرب المسلمون، وقالوا دون تردد إنه كان يهودياً أصله من الأندلس، ومنها نفي، على أيدي الإسبان الغربيين المسيحيين، إلى شمال أفريقيا مع المسلمين واليهود الذين عانوا من الظلم في تلك البلاد. أصبح موسى بن ميمون فيما بعد طبيباً ووزيراً في دولة صلاح الدين الأيوبي، وهو، من جانب آخر، يعتبر من أهم علماء اليهود ومفسري التوراة إن لم يكن الأبرز بينهم.
اليهود العرب كانوا يطبعون المصحف
وفي الشرق، على مسافة خمس ساعات بالسيارة من دمشق، اعتاد المسلمون قراءة القرآن الذي كان يطبع في المطابع اليهودية في بغداد، مثل مطبعة الحاخام العراقي عزرا روبين دنكور. في ذلك الوقت وحتى بداية القرن العشرين، كان اليهود وحدهم يملكون المطابع. وكان المسلمون في بغداد يثقون ثقة كاملة في تلك الطبعات من المصحف. ولم يكونوا مناهضين لليهودية، كما يزعم الغرب، ويتجلى ذلك بشكل خاص في دخول ساسون حزقيل الحياة السياسية في المملكة العراقية كأول وزير للمالية. ففي تلك الأيام، كان العراقيون قد عهدوا إليه بثروات البلاد بأكملها.
ومن يبحث عن مشاعر الكراهية ضد اليهود في جذور الثقافة العربية الحديثة لن يجدها إلا قبل أكثر من 100 عام بقليل. العرب يسمون أنفسهم “ساميين” وهم في الواقع كذلك. ومن ناحية أخرى، اليهود هم أيضا ساميون. فكيف يمكن إقناع أحد بأن العرب معادون لذاتهم وهويتهم الأصلية؟ خاصة وأنهم يعرفون، حقّ المعرفة، أن الديانات الثلاث (اليهودية والمسيحية والإسلام) تأتي من بلدانهم، أي من “الجزيرة العربية” وكذلك مما عرفت بـ “الشام الكبرى”. لهذا كله لم تكن مثل هذه المشاعر موجودة في ذلك الوقت. لقد تطورت معاداة السامية بالفعل في أماكن أخرى من العالم، ومن هناك انتشرت، كمشكلة لا كحالة وعي، إلى المنطقة العربية وسواها.
في كل مرة أدرس فيها تاريخ أوروبا، وخاصة الفترات التي سبقت عصر النهضة، يلفت انتباهي بشكل واضح كيفية حدوث التبادل الثقافي بين الحضارات، وفي كل مرة أيضاً أجد أنه كان لابدّ لذلك التبادل أن يُحمل على حامل أكثر أهمية بالنسبة إلى الشعوب، إنه التبادل التجاري.
في العصور الوسطى، كانت مدينة البندقية الإيطالية مكانًا مهمًا للتحوّل الثقافي، القائم على التبادل، حيث التقت ثقافات الغرب والشرق. بفضله أصبحت المدينة فيما بعد إحدى أكبر المدن الاقتصادية في العالم، ومنها كانت تُشحن بضائع أوروبا إلى العرب والشرق كله، وكان يتم استيراد بضائع أخرى من المشرق إليها. عبرها انتقلت طرق الحساب التجاري التي برع بها العرب، ومنها انتقلت “الأرقام العربية”، والكثير من أصول ما عُرف بـ “مسك الدفاتر”.
ومن خلال هذه التدفقات الثقافية والاقتصادية، التي تربط البلدان المختلفة مثل الأنهار، تم أيضًا نقل الحساسيات الدينية. وفي وقت لاحق فقط، بعد أن شهدت التجارة ازدهارًا كبيرًا، وجدت البندقية نفسها في مواجهة تلك الحساسيات.
من بين المحرمات التي تتضمنها المسيحية والإسلام الربا. لكن في اليهودية لا يوجد مثل هذا الحظر. لذلك يُسمح لليهود بالمشاركة في التجارة الحرة. وفي ذلك الوقت، كان معظم التجار الكبار في الشرق والغرب من المسلمين والمسيحيين، على التوالي، وكان حظر التعامل بالربا يمثل عائقًا كبيرًا أمام سعيهم لتحقيق المزيد من الأرباح. ولكن بالنسبة لهم كان الحل يكمن في الدين نفسه. فالتاجر لن يعدم الحيلة لاجتراح الحلول من داخل المحرّم، ومن خلال اجتهادات بذلوها وتفسيرات قدموها للكتاب المقدس والقرآن، سُمح لهم بممارسة التجارة الحرة (مع الفوائد الربوية) عبر وسيط، وكان من البديهي أن يكون ذلك الوسيط يهودياً.
ونتيجة لذلك، راكمت بعض العائلات اليهودية أرباحًا ضخمة، فبدأ الاستياء ضدها بالنمو ببطء.
كانت هذه بذور كراهية نشأت من امتعاض الطبقات الفقيرة في المجتمع الإيطالي من اليهود الذين بدأت الثروة تدريجيًا تقتصر عليهم. ولم يكن لهذا علاقة بصلب المسيح أو حتى بأورشليم. ويمكن رؤية ذلك بوضوح بشكل خاص في زمن إليزابيث الأولى، ملكة إنجلترا، حيث اعتبرت هذه الفترة ذروة عصر النهضة، أو العصر الذهبي للتاريخ الإنجليزي كما يميل المؤرخون إلى وصفه.
شايلوك الرمز القبيح
في 7 يونيو 1594، حُكم على رودريغو لوبيز، الطبيب الشخصي، المسيحي ذي الأصل اليهودي، للملكة إليزابيث الأولى ملكة إنجلترا، بالإعدام شنقاً. كان يُشتبه في محاولته تسميم الملكة. وقد أنكر لوبيز هذه التهمة وقال حينها إنه “يحبّ الملكة إليزابيث كما يحبّ يسوع المسيح”، وهو تصريح سخر منه القضاة في ذلك، معتبرين أنه دليل إدانة لا دليل براءة، ومنذ تلك اللحظة، بدأت معاداة السامية في الانتشار في غرب أوروبا.
ومن خلال ازدهار الفن والأدب، وجدت مشاعر الكراهية لليهود طريقها إلى بلدان أخرى في أوروبا. ويعدّ شايلوك، المرابي اليهودي الذي يظهر كشخصية رئيسية في مسرحية ويليم شكسبير “تاجر البندقية”، أفضل مثال على الأحكام المسبقة التي كانت منتشرة على نطاق واسع ضد اليهود في أوروبا في ذلك الوقت. خاصة وأنها نشرت لأول مرة بتاريخ 22 يوليو عام 1598 أي بعد أربع سنوات فقط على حادثة الطبيب لوبيز.
ومن المؤكد أنه كانت هناك أسباب أخرى كثيرة للكراهية في ذلك الوقت بين الناس كافة، ومع ذلك، فإن ما سلف يبدو لافتاً بالنسبة إلي، لأنه يوضّح كيفية انتشار هذه المشاعر من الجانبين. فمن ناحية أخرى خافية، يمكن ربط ذلك بالتمييز الذي واجهه اليهود في ظل الحكم المسيحي في الأندلس بما حدث لليهود في البندقية، المدينة التي ظهرت فيها، لأول مرة في التاريخ، منطقة مغلقة كان على اليهود أن يعيشوا فيها، مُرغمين، منفصلين عن بقية السكان.
بدأ الأمر بهجرة اليهود من مختلف الدول الأوروبية وحتى من العالم العربي والإسلامي في القرن الثالث عشر الميلادي، وخاصة من سوريا، إلى البندقية بسبب ازدهار الحياة فيها وبسبب إمكانية عثورهم على الأعمال التجارية فيها، كما سبق الذكر. عندها رأى حكام البندقية في ذلك خطرا محدقاً بسلطتهم، ولذلك أجبروا اليهود على العيش في منطقة سكنية مغلقة.
أين ظهر الغيتو اليهودي الأول؟
كان يطلق على الحي اليهودي في مدينة البندقية “غيتو”، وتلك الكلمة تعني شيئًا مثل “الانفصال” أو “الطلاق” باللغة الإيطالية.، ولم يمض وقت طويل حتى أصبح مصطلح الغيتو لاحقًا للإشارة إلى أي حي يهودي في جميع أنحاء العالم. ولم يكن الخروج من هذا الحي المعزول مسموحاً إلا في الصباح، بشرط أن يرتدي المرء ملابس ذات خصائص معينة تميّز اليهود عن بقية السكان.
استمر هذا الوضع المأساوي في “غيتو البندقية” حتى عهد الإمبراطور الفرنسي نابليون بونابرت عام 1790 الذي قام بنفسه بهدم أسوار الحي اليهودي من أجل تحرير اليهود.
وتظهر الوثائق الإسرائيلية، ذاتها، أن نظام “الغيتو” تم تطبيقه لأول مرة في فرانكفورت عام 1616. وقد نتج في الأصل عن اتفاق بين إدارة المدينة واليهود. ثم تم إنشاء النظام نفسه أيضًا في فيينا عام 1624.
بينما كانت روسيا قد طورت نظاماً مختلفاً عن ذلك الذي ظهر في دول أوروبا الغربية. فقد أُجبر اليهود على العيش في مناطق معينة من البلاد وتم إرغامهم على البقاء في مناطقهم الأصلية في بولندا. وأدى ذلك إلى إنشاء منطقة استيطانية في العام 1775، والتي أصبحت فيما بعد “غيتو” جديدًا كبيرًا في ظل ظروف قاسية.
وهنا في ألمانيا، وفي أجواء بدايات القرن العشرين، وتحت رغبة ماكرة في استثمار الحنق الشعبي من الأوضاع الاقتصادية المتدهورة والبطالة والتضخم، عمل النازيون على تركيز تفكير الألمان نحو أسباب أخرى غير السياسة والإدارة لتفسير الواقع المرير، وقالوا للشعب إن السبب في هذا كله هو “اليهود”.
بدأ هتلر بجمع اليهود في معسكر “داكاو” أول معسكر اعتقال أسسه النازيون، خارج ميونيخ، عام 1933. قبل أن يؤسسوا أكثر من 40 ألف معسكر في المناطق التي سيطروا عليها، وكان يجري فيها تشغيل اليهود بالسخرة، وهي نوع من أنواع الاستعباد، قبل أن يتم تجهيزهم للإبادة.
بعد أربع سنوات فقط في 9 نوفمبر عام 1938، شهدت ألمانيا ليلة سُميت “ليلة الزجاج المكسور”؛ بسبب كميات الزجاج المحطم التي غطت الشوارع إثر مداهمة محال ومتاجر اليهود. وفي تلك الليلة قتل نحو 91 يهودي، وجرى اعتقال 30 ألفاً آخرين، وتدمير 267 كنيس.
ابتكر النازيون ما سمّون بـ “الحل النهائي” وكان بالنسبة إليهم يعني “التخلّص النهائي من اليهود الأوروبيين”، وباشروا بتكديس اليهود في معسكرات الاعتقال في بولندا وغيرها.
وبحلول نهاية عام 1941، أنشأ النازيون أول معسكر للإبادة في بولندا، تحت اسم “خيلمنو”. كما أقيمت 6 معسكرات للإبادة في المناطق التي يسيطر عليها النازيون في بولندا، كان أكبرها معسكر “أوشفيتز” إلى جانب معسكرات أخرى في بيلاروسيا وصربيا وأوكرانيا وكرواتيا، شهدت مقتل مئات الآلاف.
تذكروا اسحق دويتشر
كل هذا حدث بينما كان الحي اليهودي في دمشق مفتوحاً ومفتوحاً للجميع. ومن الجدير بالذكر أن أشهر الحرفيين الذين صنعوا المشغولات النحاسية في دمشق هم اليهود. وليس هذا فحسب، فحتى أبرز التجار والمثقفين كانوا يهودًا أيضًا. وكان أحدهم هو السيد عنبر، صاحب مكتب عنبر، المدرسة البارزة التي خرّجت معظم مفكري دمشق حتى أوائل القرن العشرين.
ماذا حدث بعد ذلك؟
يصف إسحق دويتشر، المفكر البولندي المعروف الذي ألف كتاب “اليهودي اللايهودي”، الصراع بين العرب واليهود على النحو التالي: القصة تشبه منزلاً من طابقين. الطابق الثاني احترق. وقفز الساكن (اليهودي الأوروبي) الذي كان في الطابق الثاني إلى الطابق الأول هرباً من النار. لكن هذه كانت أرضية السكان العرب. فبينما بقي الذي قفز ينظر إلى النار دون أن يلاحظ ما أحدثته قفزته، بقي الساكن الآخر ينظر إلى الأرض دون أن يفكر في أي شيء آخر، سوى التحرر ممن يجثم فوقه.
بعد الحرب العالمية الأولى، اتفقت القوى المنتصرة على أنه لا حاجة للسلام بين العرب واليهود. هناك الكثير من الأدلة على ذلك، ولكن هناك دليل واحد واضح تماما. ففي العام 1919، أبرم فيصل، ملك سوريا، اتفاقية في باريس سمّيت “اتفاقية فيصل-وايزمان” مع حاييم وايزمان، رئيس المنظمة الصهيونية العالمية. وقد حددت تلك الاتفاقية التعايش السلمي وتعريف حدود الدولة في المنطقة ولذلك اعتبرت معاهدة سلام. لكن فرنسا وبريطانيا من جانبهما عملتا بقوة على تدمير تلك الاتفاقية. واحتلت فرنسا سوريا، وطردت الملك فيصل خارج سورية.
ومن مفارقات هذا الزمن أنه كان من ضحاياه أيضاً آنذاك سياسي ومثقف عربي يهودي سبق وأن ذكرت اسمه في الأعلى، إنه إلياهو ساسون. لقد كانت خيبة أمل كبيرة بالنسبة له يرى حلم الدولة الديمقراطية في سورية وقد تم تدميره تماماً. بعد أن انهار كل شيء، قرر الهجرة إلى فلسطين التي سميت فيما بعد إسرائيل. ليصبح ساسون شخصية سياسية مهمة فيها ويؤسس كبرى المحطات الأمنية ويتقلّد مناصب بارزة. هناك فقط عاش حلمه، وليس في دمشق، المدينة التي أحبها.
في تلك الفترة انشغلت الصحافة في فرنسا بالتظاهرات المناهضة للاحتلال الفرنسي في العديد من المدن السورية. وتم بث العديد من الصور لمتظاهرين يحملون الصلبان والأهلّة ونجمة داود كرمز للتضامن. ولا تزال الصور محفوظة في الأرشيف حتى اليوم. يمكن لأي شخص أن يمعن النظر فيها.
كيف تؤثر حروب الأوروبيين في صعود اللاسامية؟
كان للحرب في أوروبا تأثير كبير على انتشار ما تُسمى باللاسامية. وعلى وجه الخصوص، لعبت تعبئة الجنود العرب وإنشاء ما يسمى بفيلق الجيش العربي للقتال ضمن قوات الأمن النازية الخاصة في الحرب العالمية الثانية دورًا حاسمًا في انتشار معاداة السامية في المنطقة العربية.
ولكن كيف أصبح اليهود أعداء لعملية استقلال الدول العربية؟
بدأ ذلك بعلاقة انتهازية جمعت كلاً من هتلر والشيخ محمد أمين الحسيني الذي تلقى عرضاً من برلين للعمل مع النظام النازي، وأدى ذلك في نهاية المطاف إلى تحول الصراعات في الشرق الأوسط من صراعات بين الأجنبي المستوطن وصاحب الأرض الأصلي إلى صراع أديان.
صراع شاركت فيه الوكالة الصهيونية جميع الحكومات العربية التي وصلت إلى السلطة في الدول التي ظهرت بعد تقسيم سوريا الكبرى الأيديولوجيا. فأصبح اليهود أعداء لعملية استقلال البلاد العربية، وليس أعداء للإسلام.
بدأ طرد اليهود لأول مرة في مصر والعراق. ومن لم يغادر البلاد طوعا في ذلك الوقت وجد نفسه معرضا لضغوط كبيرة من الجانبين. فمن ناحية، مارست الطبقة السياسية في إسرائيل ضغوطًا على اليهود. وكانت هذه الطبقة تدرك جيداً ما تهدف إليه القوى الغربية الكبرى في المنطقة العربية. لذلك بدأت اللعب على الفور، ومن ناحية أخرى، حاولت الأنظمة العربية بث الذعر بين اليهود. ويمكن الاستشهاد بحادثة الفرهود في العراق كمثال على ذلك.
وفي المقابل، لم تجد المشاعر المعادية لليهود في سورية آذاناً صاغية. وبقي اليهود في مدنهم، في دمشق وحلب والقامشلي، وعاشوا في سلام مثل أي شخص آخر، مسلمين ومسيحيين. لكنهم ظلوا على شكل أوراق تفاوض مع نظام الأسد الذي قايض بهم الغرب طيلة العقود الماضية مقابل استمراره في السلطة.
وما بدأ كوعد أوروبي – بريطاني جسّده وعد بلفور لليهود بإقامة وطن بديل (بعيداً عن أوروبا) في فلسطين، استمر كصراع لا نهاية له، يديره الأوروبيون أنفسهم، ومن خلفهم الولايات المتحدة.
في الختام تترسّخ لدي قناعة بأن الأنظمة السياسية العربية معادية للسامية بالفعل. أما السوريون فهم ليسوا معادين للسامية بالتأكيد. هم لا يفهمون هذه اللغة ولا تعمل في تركيبتهم الذهنية. فالمجتمع السوري يقوم بشكل أساسي على التنوع، إلا أن الكثير من الأفكار الخاطئة ترسّخت في أذهان الناس، وانتشرت من خلال التلاعب الذي مارسته الأنظمة السياسية المستبدة في المنطقة العربية.
أما الغرب فلا يزال يمارس النفاق ذاته، في التعاطي مع المسألة اليهودية، وهو لا يستطيع منع نفسه من استثمارها كلما اضطر إلى ذلك، ملصقاً التهمة بالعرب وبغيرهم، لتطهير نفسه من إرث بشع لا يزال يهيمن على ذهنه. فلو كانت الولايات المتحدة والغرب جادين بالفعل في كافة إعلاناتهم عن الرغبة في أن يعيش اليهود بسلام، لفرضوا حل الدولتين وأنهوا الصراع في الشرق الأوسط، لكن هذا لم يعد يخدع أحداً، ولا حتى في إسرائيل ذاتها التي قد يكون ما يجري فيها اليوم آخر حروب نتنياهو وهو وريث الطبقة السياسية الإسرائيلية الأولى التي استثمرت في الصراع بدلاً من الحرص على حله على أسس السلام والعدل للجميع.