إذا لم يكن ما يجري بين الحزب وإسرائيل حرباً، فما هي إذاً؟ إنها مقدمة لحرب أكبر بالتأكيد.
يعلم الجميع أنّ ما بعد 7 أكتوبر لن يكون كما قبله، حيث أطاح هجوم حماس بكل ما كان قائماً من تفاهمات ضمنية بين إسرائيل وإيران برعاية روسية ورضى أمريكي، وأجهز ذلك الهجوم على إمكانية إحياء تلك التفاهمات مستقبلاً، بل يرى بعضهم أنّ وجود قوة عسكرية معادية للدولة العبرية بإمكانها إعادة نسخة مُطوّرة من هجوم 7 أكتوبر، يصيب في الصميم نظرية الأمن والردع الإسرائيلي التي عليها تقوم أركان الدولة كلها، وإذا اهتزت تلك النظرية فلن يبقى يهودي واحد على أرض فلسطين التاريخية.
وعلى أرض الواقع أطلقت إسرائيل حربها الرمادية الاستباقية على كل الساحات في المحور الإيراني، وأطلقت شعار وحدة الساحات أو وحدة الجبهات قبل أن تطلقه أذرع المحور ذاتها، فكانت تضرب في غزة وسوريا وإيران نفسها عدواً واحداً بالنسبة لها، وكانت ساحة الاشتباك المتوافق عليها كحلبة رئيسية للصراع هو الحلبة السورية، والجغرافيا السورية هي دُرّة تاج الهلال الشيعي والرابطة لحلقات محور إيران الإستراتيجي في المنطقة.
والصراع الدائر الآن بين إسرائيل والمحور الإيراني يحمل في طيّاته أبعاداً دولية، فهو صراع دولي بامتياز بين محورين، ومفردات ذلك الصراع هو النزاع على سيادة النظام الدولي ومحاولة نزع القطبية الأحادية، إضافة لكونه حرباً على الممرات الدولية وتحتل الطاقة ومنابعها وطرق توصيلها للقارة العجوز حيّزاً مهماً فيه بعد طلاقها البائن بينونة كبرى مع الطاقة الروسية.
والخيط الرابط بين الحروب في البحار الثلاثة (الأسود والأبيض والأحمر) واضح ولا تُخطئه الأعين، وبالتأكيد يُؤثّر ويتأثّر هذا الصراع الساخن بالتنافس الفاتر في البحر الأصفر.
لذلك فإنّ حسم الصراع في البحر الأبيض المتوسط سيرسم ملامح الحسم في البحار الأخرى، وعدم فعل ذلك سيؤدي لنتائج كارثية على النظام الدولي الغربي وسيادته العالمية، ولا يمكن العودة لمنطق الحرب الباردة أو الرمادية في الشرق الأوسط، أو الموت بألف طعنة، ولابد من حسمها، ويبدو أنّ البوصلة الدولية تسير بهذا الاتجاه.
أدرك المحور الإيراني تلك النيّة الغربية والإسرائيلية، عندما بدأ الحديث عن شرق أوسط جديد بعد انتهاء الحرب في غزة، ولكي لا يحصل تهدئة بين الولايات المتحدة وإيران، وتأجيل الانفجار الكبير في المنطقة، قام رئيس الوزراء الإسرائيلي بنقلة نوعية في الحرب عندما استهدف السفارة الإيرانية في دمشق، واستدرج رداً إيرانياً على ذلك بالأصالة وليس بالوكالة، وكانت ضربات الأول من نيسان والرابع عشر منه بداية لحرب كسرت كل قواعد الاشتباك السابقة وازالت خطوط حمراء بين البلدين، وظهر أنّ نتنياهو يسترشد بخطى تشرشل في الحرب العالمية الثانية عندما جَرّ رجل الولايات المتحدة للحرب.
وإدراكاً من الأسد بخطورة المرحلة حاول النأي بنفسه عن تداعيات الصراع، عندما قَدّم صورة مغايرة لنظامه عن بقية أذرع الحرس الثوري، وحاول حتى الغياب عن جنازة الرئيس الإيراني المقتول، فما كان من المرشد إلا أن استدعاه إلى قم منفرداً بعد أسبوع وقال له إن هوية سوريا هي هوية المقاومة ولولا المحور لما كنت تجلس أمامي الآن، وبذلك شد المرشد الحبل المربوط في عنق الأسد قائلاً له أنت جزءٌ من المعركة القادمة، والخروج من الحمام ليس مثل دخوله.
تتفق واشنطن وتل أبيب بالأهداف الكبرى للحرب وتختلفان بالتكتيكات للوصول لتلك الأهداف، وغطّت الولايات المتحدة نتنياهو طوال الشهور التسعة للحرب وحمته في مجلس الأمن وتعاملت ببرود وعدم اكتراث بالجهد الدولي الذي قادته جنوب أفريقيا في محكمة العدل الدولية.
وأنشأت الولايات المتحدة ميناءً لها في غزة تحت ذريعة إيصال المساعدات الإنسانية كنقطة ارتكاز أمريكية على ضفة المتوسط الشرقية بالقرب من قاعدة طرطوس الروسية، وعلى خط البهارات الهندي، ويمكن أن يُفهم من ذلك أنّ شرق المتوسط في المستقبل (وهو الرابط بين آسيا وأوربا) سيكون خالياً من القواعد الروسية والتهديد الإيراني.
أمهل المبعوث الأمريكي عاموس هوكشتاين الحزب 4 أو 5 أسابيع لتنفيذ قرار مجلس الأمن 1701 وإلا سيواجه الحرب حيث لن تتمكّن إدارة بايدن من لجم نتنياهو عن حربه على لبنان، لن يُنفّذ الحزب ذلك القرار لأنه يعلم أنّ الغاية الرئيسية هي القرار 1559 والذي تمّ اتخاذه عام 2004 والقاضي بنزع أسلحة كل الميليشيات واحتكار الجيش اللبناني وحده للسلاح الشرعي، وقد عاد مُؤخراً العماد جوزيف عون (قائد الجيش اللبناني) من زيارة عمل مُطوّلة للولايات المتحدة، وخلال مهلة هوكشتاين من المتوقع على ما يبدو إنهاء الحرب في رفح، ولأنّ حسن نصر الله تجاوز كل الحدود الوطنية بين الدول، فقد هدّد في خطابه الأخير باستقدام مئات الآلاف من المقاتلين من سوريا والعراق ويمن الحوثي وإيران للقتال إلى جانب الحزب في حربه المقبلة، وهؤلاء لن يتمّ الزجّ بهم في جبهة الجنوب اللبناني الضيقة والمحروقة، بل في جبهة أخرى تقع شرقها وتُمثّل امتداداً طبيعياً و جغرافياً لها، وطولها قرابة الـ 75 كم مع وعورة بالتضاريس.
ومن الطبيعي ألا تقبل إسرائيل بإبعاد الحزب عن أماكن انتشاره في الجنوب اللبناني فقط، وترك الحزب وباقي الميليشيات على حدود الجولان والأردن، خاصةً أنّ في جيبها اتفاق أو تعهدات روسية منذ صيف 2018 بإبعاد كل الميليشيات التابعة للحرس الثوري مسافة من 40-80 كم كما كان يُقال، وإنّ هذا الشرط الأساسي للولايات المتحدة لموافقتها على إيقاف الدعم عن فصائل الجنوب وبالتالي احتلاله بسهولة بعد ذلك، والمطلوب الآن تنفيذه طوعاً أو كرهاً.
ولأن الحرب قريبة يسعى نصر الله لاستعمال كل أدوات التهديد التي يملكها وهو على حافة الهاوية الآن، وكان آخرها تهديد قبرص بمعنى تهديد دول الاتحاد الأوربي بسبب تقديمها خدمات لوجستية للطيران الإسرائيلي والغربي، وكان تهديد نصر الله واضحاً أيضاً بفتح جبهة في البحر الأبيض المتوسط وما يقصده هو إعاقة الملاحة التجارية فيه وضرب منصات الغاز الإسرائيلية فيه وتهديد أوربا في مصادر طاقتها.
من المعروف أنّ الحروب تقع عندما تعجز كل الوسائل الدبلوماسية عن إيقافها، والحرب في النهاية هي إحدى أدوات السياسة الخشنة، ويبدو أن الحرب قريبة جداً، وستكون سوريا ساحة رئيسية فيها، وقد لا يطول اليوم الذي يُردّد فيه الأسد المثل العربي المشهور على نفسها جنت براقش، أو كما تقول القاعدة القانونية الغُرم بالغُنم.