تحتفل منظمة اليونسكو في يوم 21 شباط/فبراير منذ عام 2000 سنوياً بيوم “اللغة الأم” تأكيداً على تنوع الثقافات إذ تفيد التقديرات – حسب اليونسكو- بأن أكثر من 50% من اللغات المحكية في العالم، ويبلغ عددها 6700 لغة، مهددة بالاندثار، وبالتالي فإن هناك لغة واحدة تتوارى كل 15 يوما، وعلاوة على ذلك، يعتبر الخبراء أن 96% من هذه اللغات محكية من جانب 4% فقط من سكان العالم، ومن ضمن هذه اللغات التي بدأت الأمم المتحدة ومنظمتها اليونسكو تحتفي بها منذ 2012 هي اللغة العربية وأطلق عليه “يوم اللغة العربية” في 18 ديسمبر 2023.
باعتقادي أن هذه الاحتفالية ترتب ثلاثة مسؤوليات: الأولى منها على منظمة التعاون الإسلامي وذلك بأن تحتفل رسمياً بهذا اليوم وتشجع سكان ال 57 دولة أعضاء في المنظمة، كدعوة لتشجيع حوالي ملياري شخص من سكان دول منظمة التعاون الإسلامي معظمهم مسلمين على تعلم اللغة العربية، لأنهم لابد أن يعرفوا الحد الأدنى من اللغة العربية ليقرأوا القرآن كون لغته هي العربية، “بلسان عربي مبين” (الشعراء 195) “قرآناً عربياً غير ذي عوج” (الزمر 28) “كتاب فصلت آياته قرآناً عربياً” (فصلت 3) ولغة النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته، واللغة التي احتضنت التاريخ الحضاري للمسلمين على مدى قرون.
وجامعة الدول العربية معنية بالمسؤولية الثانية وهي أن تعمل على أن تكون اللغة العربية بعد عشر سنوات ليس كما أرادتها اليونسكو “لغة الشعر والفنون” بل “لغة العلم والصناعة” ولغة النهوض التنموي، عندما ترتقي دولها إلى مصاف الدول الصاعدة والناهضة اقتصادياً وتنموياً ويكون لديها مشروع نهضوي تعمل عليه ليل نهار في إطار الحكم الرشيد.
وأما المسؤولية الثالثة تقع على عاتق الحماة المعاصرين للغة العربية القابعين في حصون مجامع اللغة العربية، وكليات الأدب العربي المنتشرة في العالم العربي، لأنهم معنيون بأخذ زمام المبادرة لتبسيط قواعد اللغة العربية وتقديمها بأحلى حلة تتناسب والعصر، حتى يسهل على الناطقين بالضاد – فضلاً عن غير الناطقين بها- استخدامها وعدم تفضيل لغات أقل منها بالاً، أو تحاشي استخدامها عن طريق استخدام العامية المحكية.
إن صعوبة القواعد العربية ربما يعود إلى الشرط الذي وضعه علماء اللغة الأفذاذ من أمثال أبي عمر بن العلاء (توفي 154هجرية) وحماد الراوية (توفي 155 هجرية) والخليل ين أحمد (توفي 170 هجرية) ، فيمن يصح أخذ اللغة عنه حيث يجب أن يكون خشناً ومحروماً من الترف وليونة الجلد كما ينقل محمد عيد في كتابه “الرواية والاستشهاد باللغة” بحيث بات اللغويون والنحويون أمام مشكلة تركيب “قوالب جامدة” خشنة بخشونة الأعرابي عصية على التأقلم مع تغير الواقع.
إن كلمة “نحو” لم تكن معروفة عند العرب الأوائل – حسب ماأورد الدكتور حسن نور الدين في كتابه “الدليل إلى قواعد اللغة العربية” – بل أطلقوا عليه اصطلاح العربية تارة، وأخرى كلاماً، وأحياناً الإعراب، حتى استقر الرأي أخيراً على تسميتها بالنحو (فتحي عبد الفتاح الدجني ” أبو الأسود الدؤلي ونشأة النحو العربي”). والنحو – برأي مهدي المخزومي في كتابه “في النحو العربي” – هو الإعراب وتكوين الجملة، وبالأحرى هو عارضة لغوية تخضع لما تخضع له اللغة من عوامل الحياة والتطور، فهو متطور أبداً، لأن اللغة متطورة أبداً”.
المراقب المهتم من غير المتخصصين في اللغة، يجد تقصير اللغويين بيّناً فيما يخص تبسيط اللغة وتطوير أدائها، وخاصة عدم بذلهم الجهد في تبسيط قواعدها، لنطرح بعض الأمثلة التعجيزية في الإعراب والتي لم نسمع اعتراضات من مجامع اللغة العربية على تعقيدها لابل يُمتحن الطلاب بها إلى الآن في مدارسهم، من مثل إعراب “ضمير نصب منفصل مبني على السكون، في محل نصب مفعول به مقدم للاختصاص،!” وهاكم إعراب : “وما هم بمؤمنين”: الواو حالية، “ما” نافية تعمل عمل ليس؟. والباء في “بمؤمنين” زائدة؟، والاسم معها مجرور لفظا منصوب محلا على أنه خبر “ما”! هل معقول أنه ليس هناك مجال لتبسيط هذا الإعراب؟
إن إعراب “من” في جملة “من قابلت” يتجاوز السطر، فإعراب من: اسم استفهام مبني على السكون في محل نصب مفعول به ( لأن بعده فعلاً متعدياً لم يستوف مفعوله!) أما إعراب قلبين في جملة “ماجعل الله لرجل من قلبين في جوفه”: قلبين اسم مجرور لفظاً منصوب محلاً على أنه مفعول به، و انظر صعوبة إعراب “لدنه” الآية 1 و2 من سورة الكهف كما ورد في “مشكل إعراب القرآن” واسأل عشرة آلاف طالب عربي غير مختص أن يعربها!!
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا
“قيما” حال من الضمير في لَهُ ، والمصدر المجرور “لينذر” متعلق بـ أَنْزَلَ ، “لدنه” اسم ظرفيّ مبني على السكون في محل جر متعلق بنعت ثانٍ لـ “بأسا”، والمصدر المؤول “أن لهم أجرا” منصوب على نـزع الخافض الباء. ؟! ألا يمكن تبسيط هذا الإعراب؟
لماذا لايقف عباقرة لغتنا العربية على تطوير النحو وإيجاد “بدائل إعرابية” لكل الحروف الزائدة، أو تغيير طريقة إعراب “المحذوفات” من الإعراب، من مثل إعراب”بسم”: الباء حرف جر، “اسم” اسم مجرور بالكسرة، والجار والمجرور متعلقان بخبر محذوف! لمبتدأ محذوف!.. تقديره: ابتدائي كائن بسم الله،! وجملة التقدير ابتدائية! لامحل لها من الإعراب…يعني كل شيء محذوف والجملة لامحل لها من الإعراب..وهذا يسمى إعراب! ثم نسأل لماذا يتهرب الناس من تعلم اللغة العربية!
“المفلحون”: خبر مرفوع بالواو لاسم الإشارة “أولئك”، وجملة “أولئك على هدى” مستأنفة لا محل لها من الإعراب!، فإذا كان المبتدأ محذوف والخبر كذلك محذوف والجملة لامحل لها من الإعراب فلماذا لايتصدى عباقرة اللغة العربية من أجل “استنبات” قواعد يسهل فهمها، وقريبة من اللسان العربي المعاصر، عندها يكون لها محل من التداول اليومي في الشارع العربي؟
لو أن طالباً كتب الكلمات الآتية كما في جاء في الرسم القرآني بحذف حرف الألف والاكتفاء بألف قصيرة فوق الحرف كأنها حركة (مثل الفتح والضم) لحُسبت له خطأ إملائياً، من مثل يويلنا (بمعنى ياويلنا) يأيها، ءاتية (بمعنى آتية سورة الحج 7) لأمنتهم (المؤمنون 8)سللة (سلالة السجدة 8) إبرهيم (إبراهيم الزخرف 26) الئ (المجادلة 2) لاتسئلوا (المائدة 101) فقد قام اللغويون بكتابتها بالطريقة الحالية متجاوزين الرسم القرآني، فلماذا لايمكن أن نغير طرق الإعراب؟ أو نطورها ونبسطها، وهل نحن ملزمون بما ألزمنا به سيبيويه (765-796) منذ 1258 عاماً! هل يعقل أنه لايوجد تطوير على كيفية تدريس وإعراب اللغة منذ أكثر ن ألف عام؟ خاصة أنها لم تبن أصلاً على كيفية نظم القرآن لا بل خالفته برسم الكثير من المفردات، بل بنيت القواعد على الشعر ولغة البداوة.”قال الجرميّ: نظرتُ في كتاب سيبويه فإذا فيه ألف وخمسون بيتاً” (كتاب سيبويه، تحقيق عبد السلام محمد هارون : ص9)
ولعلّ لعلماء العربية في الخطاب القرآني أسوة حسنة، فرغم أنه من المنطقي أن يُلزم الخالق عباده بقراءة واحدة فقط للقرآن المجيد، إلا أن عظمة “واقعية” القرآن وصلت لدرجة أن يتنزل على أكثر من سبعة قراءات، فلسان ولغة وفهم المسلم معتبرٌ ليسهل فهم الخطاب القرآني الذي يتواءم معه وليس العكس، وهذا درس في المرونة والواقعية علّ المجامع اللغوية تلتفت إليها، وتشمر السواعد للعمل على تبسيط القواعد اللغوية لجعلها أكثر معاصرة.
لقد تساءل الدكتور عابد الجابري في كتابه “بنية العقل العربي”: “إذا كان المقصود هو حماية القرآن من اللحن فلماذا لم يعتمد اللغويون القرآن نفسه أساساُ وحيداً لعملهم، مع أنه باعتراف الجميع أفصح وأبين” ، لماذا يكون الحاكم على القرآن “قوالب” الأعرابي” و مشتقاته ومرادفاته وليس “عالمية وواقعية” الخطاب القرآني.
“لنفترض أننا لم نجد كلمة الفاكس والكومبيوتر في “ديوان العرب” هل نتبع قول ابن عباس رضي الله عنه فيما يروى عنه “إذا تعاجم شيء من القرآن فانظروا في الشعر، فإن الشعر عربي” أم أنه علينا أن نتبع الخطاب القرآني الذي لم يتوانَ عن استخدام كلمة سندس واستبرق، وكان يمكن استبدالها بكلمة الحرير أو أية كلمة غير فارسية، لكنه آثر على استخدام مفردة “واقعية ” و “مُستخدمة” دون حرج.
إن علماء كل العلوم يتسابقون فيما بينهم لتبسيط علومهم حتى يكتب لها الشيوع وتقترب من عقل الناشئة، ويُسخّروا كل الوسائل المعرفية لتحقيق هذا الغرض، ولعلنا لشدة حبّنا وحرصنا على تداول هذه اللغة وتقريبها من عقول وقلوب الناشئة، وتخفّظنا على انتشار العاميات في العالم العربي، يجعلنا نتقدم بطلب إلى علماء لغتنا العربية الذين نعتزّ بهم أن يُفَعّلوا مجامع اللغة العربية، و”ينحتوا ” لنا قواعد أبسط ويبدعوا لنا طرقاً تسهل هضم عبقرية هذه اللغة، وتبدع طرق محببة في تدريسها ، ولاتكتفي بتعريب المصطلحات الغربية – على أهميتها- من مصطلحات الفيزياء والعلوم الطبيعية و العلوم الزراعية وعلوم الأحياء والمعلوماتية وغيره، أو يصحح لفظ واستخدام الكلمات (مجمع اللغة العربية بدمشق : التقرير السنوي 2021) وأعتقد أن التركيز ينبغي أن يكون على بنية اللغة وتسهيل قواعدها وتبسيط طرق تدريسها كي تحبها الأجيال المتحدثة بالعربية في الوطن العربي أو في العالم، وهذا ليس عصياً على علماء أفذاذ من أمثالهم.