حولت إيران معظم نشاطها العسكري في سوريا إلى اقتصادي ومجتمعي، وعملت خلال سنوات من تجمد جبهات القتال على التغلغل داخل المجتمع السوري عبر مؤسسات ظاهرها مدني وهدفها تجنيد أكبر عدد من الشباب وصبغهم بطابع محدد يخدم أهداف طهران.
واستطاع تلفزيون سوريا تتبع نشاط مؤسسة إيرانية تدعى “الدفاع المحلي” عبر شهادات أعضاء سابقين وحاليين، انضموا بهدف تحقيق مكاسب شخصية في الغالب. واطلعنا على صيغة عقد يفرض على الأعضاء الجدد وما تضمنه من شروط مذلة.
مراكز ثقافية برتب عسكرية
تنشط في دير الزور ودمشق وحلب، مراكز ثقافية تابعة تنظيمياً للمستشارية الإيرانية وللحرس الثوري الإيراني، يشرف عليها بصورة مباشرة ما يُطلق عليهم “الحُجَّاج” أو “الأسياد”، وعلى الرغم من الصفة المدنية المتداولة لهم بين السوريين وعدم تدخلهم في الاقتتال العسكري بصورة مباشرة، إلا أنهم يحملون صفة “جنرال” باختصاصات أكاديمية هندسية في معظمها، ولا سيما في اختصاصات الشبكات والأمن الرقمي والصحافة الاستخباراتية والحرب النفسية.
وذكر مصدر ينشط في مدينة دير الزور (منطقة الفيلات)؛ وهي المنطقة التي تسيطر عليها ميليشيات الحرس الثوري الإيراني وتتوزع فيها مقارهم ومراكزهم الإعلامية والعسكرية، أن عملية استقطاب الشباب تبدأ في المراكز الثقافية بحجة إقامة دورات تعليمية في برمجيات التصميم وتعديل الصوت والفيديو، ودورات في الكتابة الصحفية وإدارة المحتوى الرقمي، ليتم بعد ذلك جمع بياناتهم (الداتا) وإرسالها إلى “الحجاج” في دمشق ليجري انتقاء الأفضل من مجموعة المتدربين التي تقدر بعشرات الشباب وتوظيفهم في مراكزهم الإعلامية بصفة صحفيين ومتخصصي وسائل تواصل اجتماعي لقاء مرتّبات عالية –مقارنات بالوظائف الحكومية أو الأعمال الحرة- وهي تتراوح بين 100 و400 دولار حسب التخصص والخبرة والكفاءة ووفق ما يقرره “السيد” المسؤول عن المركز.
المصدر نفسه أكد لموقع تلفزيون سوريا، بأن الشباب الذين يجري استقطابهم هم من مختلف الأعمار؛ إذ تتراوح أعمارهم بين 17 و60 عاماً ويجري توزيع الأعمال بينهم وفق قابليتهم للتعلم، يذكر المصدر: “بعضهم كان يعمل في كتابة التقارير (الأمنية) الشبيهة بتقارير ذوي الخط الجميل في حزب البعث؛ وبعضهم لديه انتساب حزبي بعثي سابق وقد التحق خلال سنوات الحرب بميليشيات إيرانية سيطرت على المنطقة، ليتم في العامين الأخيرين إدخالهم في دورات تعليمية حتى يكونوا قادرين على العمل الإعلامي والرقمي رغم أعمارهم الكبيرة وعدم قابليتهم للتعلم”.
وأوضح المصدر أنهم من مختلف الانتماءات الطائفية والعشائرية؛ ففي فقه الإيرانيين يجري استقطاب الجميع من دون منح أحد منهم ثقة أو مكانة مميزة إلا في حدود عمله لخدمة مخططهم التوسعي تحت مبدأ: “اقبل الجميع ولا تثق بأحد”. يذكر المصدر: “كان من المنتسبين، شبان من قرية شحيل وآخرون من عشيرة العكيدات (الهفل)”.
دمشق: تجنيد في مجالس التعليم
تُعقد مجالس في حي الأمين وسط دمشق في مراكز خاصة أشبه بالحسينيات يتم فيها إعطاء دروس دينية في الفقه الشيعي وتوجيه الأوامر سواء المتعلقة بالوضع الأمني في دمشق وريفها أو المتعلقة بالمناسبات الخاصة بهم، كعاشوراء وإقامة مجالس العزاء وغير ذلك. ويشرف على هذه المجالس “أسياد” من لبنان وإيران.
ويجري خلال هذه المجالس اختيار الشباب وارسال قسم منهم بعدها إلى لبنان للتدريب العسكري في معسكرات مغلقة خاصة تابعة لحزب الله، أو إلى إيران ولا سيما مدينة “قُم” لدراسة الفقه الشيعي في “الحوزات العلمية” الخاصة بهم. وتتم عملية انتقاء الشبّان وفق الانتماء ودرجة الولاء وقابلية التعلم والرغبة الانتساب؛ فتكون الأولوية للأصغر سناً وأصحاب الشهادات الجامعية.
مراكز إعلامية ضخمة ومعسكرات مغلقة
أما العمل الإعلامي وتعلم اللغة، فهو من اختصاص الحجّاج الإيرانيين الذين يشرفون منذ بدء الحرب السورية على إعداد كوادر “استخباراتية” من الشباب ولا سيّما الجامعيين؛ ففي منطقة المزة فيلات غربية وسط دمشق يوجد مركز إعلامي “ضخم” مقارنة ببقية المراكز الإعلامية في دمشق.
ويترأسه حاجّ إيراني (الحاج رضا) ويعمل تحت يده كوادر من الشباب السوريين –على اختلاف مذاهبهم- وآخرين من لبنان وإيران وباكستان، وقد نشط عمل هذه المركز المسمى بـ UCMT (مركز الاتحاد للتدريب الإعلامي) في السنوات الأخيرة بإقامة دورات تعليمية في مجال الصحافة والإعلام الإلكتروني والتقديم التلفزيوني بالتعاون مع إعلاميين من قنوات النظام الموالية، مثل: نزار الفرا وهناء الصالح وباسل محرز ورائدة وقّاف وورد سباغ، إلى جانب أكاديميين من كلية الإعلام في جامعة دمشق مثل: أحمد شعراوي… وغيرهم، من المتخصصين في المجال الإعلامي الذي صنعوا شهرتهم خلال سنوات الحرب السورية بالوقوف إلى جانب النظام.
وعلى الرغم من الطابع العلماني الذي يظهر على الكادر والمتدربين، فإن مجموعة من الحجاج الإيرانيين يشرفون عليه بشكل مباشر؛ إذ يتم التواصل بينهم وبين بقية الموظفين عن طريق مترجمين عن اللغة الفارسية من جنسيات غير سورية لكنهم يتقنون اللغتين الفارسية والعربية، ويتبع لهذا المركز “التدريبي” مركزان إعلاميان آخران في منطقة المزة فيلات شرقية وعلى أوتستراد المزة، وهي مراكز متخصصة بالعمل الإعلامي وإدارة صفحات فيسبوك وهمية fake account لنشر الأخبار بكثافة عالية بالتنسيق مع مراكزهم في السيدة زينب.
وترسل هذه المراكز مدربين ذوي خبرة من دمشق إلى دير الزور لتدريب الكوادر على العمل الصحفي والإعلام الإلكتروني وتلقينهم التوجيهات اللازمة، أو بالعكس؛ إذ يتم نقل مجموعات من المتدربين -وهم من الشباب المنتسبين إلى ميليشيا الحرس الثوري الإيراني- على متن الطائرات العسكرية إلى دمشق ولفترة مؤقتة، لتأهيلهم إعلامياً مع تأمين الإقامة لهم في منطقة السيدة زينب (المنامة والطعام)، ثم يعودون إلى مناطقهم لاستلام إدارة منصات التواصل الاجتماعي التابعة لميليشيات الحرس الثوري الإيراني في منطقة الفرات وحلب.
ويتم التركيز عادةً في هذه التدريبات على كيفية إدارة الصفحات والحسابات الوهمية على فيسبوك وأنستغرام، إلى جانب النشر على قنوات التليغرام، وتحقيق أكبر عدد من المتابعين والمشتركين لنشر الأخبار بكثافة عالية وزيادة الوصول؛ كشكل من أشكال التنافسية مع المواقع والحسابات المعارضة للنظام السوري في منطقة الفرات.
يذكر مصدر من داخل مركز تابع لهم في منطقة السيدة زينب لموقع تلفزيون سوريا: “يتابع متخصصو الرصد والحرب النفسية الصفحات المعارضة للنظام بشكل مستمر ويحولون الأخبار المهمة إلى فريق التحرير لتتم صياغة أخبار معاكسة مع تنفيذ تصاميم للصور والفيديوهات، ثم يقوم فريق السوشال ميديا بنشرها بكثافة عالية في عدة صفحات إخبارية أو على حسابات وهمية بآلاف المتابعين، ممّا يحقق انتشاراً كبيراً وترويجاً لما يدعم توجهات الإيرانيين، ولا سيما في منطقة الفرات”.
وكان تدريب الإعلاميين من الشباب في بداية الحرب السورية، وقبل توسع عملهم وافتتاح مراكزهم ذات التجهيزات –باهظة الثمن- يتم من خلال إرسال فئة من الجامعيين السوريين المُختارين إلى إيران للدراسة الإعلامية وتعلم الفارسية تحت إشراف الحجاج الإيرانيين الذين يركزون بصورة مباشرة على الاستخبارات مفتوحة المصدر OSINT والحرب النفسية والأمن الرقمي Cyber security.
عقود عمل تابعة لمؤسسة الدفاع المحلي بشروط “استعبادية”:
تتبع الميليشيات الإيرانية في دمشق وريفها، وفي عموم سوريا بما فيها حمص ومنطقة الفرات، لمؤسسة “الدفاع المحلي” التي تشرف بصورة مباشرة على عمل المجموعات التابعة لإيران؛ من ناحية المرجعية وسير الأعمال والإشراف على المراكز الإعلامية والأمنية وتوقيع عقود العمل وصرف الرواتب للسوريين المنتسبين إليهم.
وقد فرضت “مؤسسة الدفاع المحلي” في الفترة الأخيرة على الموظفين من السوريين شروطاً قاسية ضمن عقد عمل جائر الشروط بصيغة استعبادية. ويتضمن العقد الذي استطاع موقع تلفزيون سوريا الحصول على نسخة منه، ضمانات كاملة للطرف الأول “مؤسسة الدفاع المحلي” وإلزامية بصورة كاملة للطرف الثاني (الموظف)؛ وتحدد مدة العقد بثلاث سنوات لا يُتاح للموظف ترك عمله خلالها إلا بموافقة “مؤسسة الدفاع المحلي”، إلى جانب توقيع الموظف سندات أمانة بقيمة خمسة إلى عشرة ملايين ليرة سورية قابلة للزيادة وفق رغبة الطرف الأول.
والشرط الأكثر تعسفية هو إجبار الشباب ضمن “وظيفة مدنية” على حضور دورة مغلقة تتضمن تدريباً عسكرياً وأمنياً في معسكرات إيرانية على أطراف مدينة دمشق، وكل تلك الشروط بمرتّبات شهرية لا تتجاوز الـ 150 دولاراً شهرياً، وبعقد “سري” لا يُتاح فيه للموظف استشارة محام خاص حول بنوده لعدم امتلاكه نسخة من العقد، إذ تبقى النسخة الوحيدة منه لدى مؤسسة الدفاع المحلي.
وبعرض النسخة الحصرية للعقد التي استطعنا الحصول عليها من أحد المحامين في مدينة دمشق (فضل عدم ذكر اسمه)، أوضح لنا أن مُنشئ العقد ليس خبيرا قانونياً بالدرجة الكافية، ويقول: “على الرغم من أنّ صيغة العقد تنمّ عن شروط تعسفية وإلغاء حقوق الموظف، لكنها تفتقر إلى الحنكة القانونية اللازمة لمثل هذه العقود؛ أما الحركة الخبيثة في العقد، فهي تكمن في سندات الأمانة التي يُجبر الطرف الثاني على توقيعها ولا سيّما إن كان توقيعها يتم “على بياض” أي دون تحديد المبلغ في سند الأمانة إلى جانب وجود البند الأخير في العقد الذي يتيح زيادة المبلغ إذا ارتأى الطرف الأول ذلك؛ وهي لعبة يمكن من خلالها ملاحقة الموظف قانونياً في حال قرر ترك العمل وتغريمه بالرقم الذي يفرضه الطرف الأول مهما كان كبيراً”.
وذكر مصدر في منطقة حجيرة في جنوب دمشق لموقع تلفزيون سوريا أنه تمّ افتتاح معسكرات خاصة في منطقة جديدة الشيباني وهي أشبه بمعسكرات النظام (الدريج) لكنها بإشراف إيراني، ويقول: “في هذه المعسكرات المغلقة بشكل كامل، يتم التركيز على الجانب البدني واستخدام السلاح والمحاضرات الإعلامية، إلى جانب التزام المتدربين بما يدعونه “الواجب الديني” وفق المذهب الشيعي الذي يتضمن: الصلاة والدروس الدينية في شكل من أشكال التشيّع التي تشرف عليها مؤسسة الدفاع المحلي في سوريا”.