خاص – محمد جميل خضر
رسائل كثيرة وغزيرة ترسلها المليونية التركية المتواصلة منذ الساعات الأولى لأول أيام السنة الجديدة 2024؛ المتظاهرون الذين يملأون جسر البسفور عن آخره، ويتوزعون جسورَ وشوارعَ مدينة اسطنبول (عاصمة العالم)، وتعجز أي كاميرا أن تحيط بهم، وتظهر أول الحشد البشريّ الهادر نحو آخره، يريدون أن يقولوا للغرب الذي رفض اندماجهم معه، إنهم هم من يرفض هذا الاندماج، فهؤلاء حتمًا ناموا ليلهم الطويل لا سهرات رأس سنة ولا ما يحزنون، وقاموا لصلاة الفجر، ومن بعدها مباشرة بدأوا يتوافدون لساحة التظاهر كما لو أنهم زحفٌ مقدّس. هذه أول رسالة، أما ثاني تلك الرسائل، فهي أنهم، ومن دون هوادة، يبلغوا العالَم الرسميّ (الغربيّ والشرقيّ) الذي أدار ظهره لآلام الشعب الفلسطينيّ، على مدى زهاء 90 يومًا ماضية، لا بل على مدى 75 عامًا ماضية، أن الشعب التركي سيتفرغ منذ أول أيام عام جديد لنصرة غزّة وفلسطين، ولن يتوقّف هذه المرّة حتى يتوقف القتل، وتُسْتَرجَع الحقوق. فحين تبدأ مسيرة الحشد المتضامن مع الشعب الفلسطيني، الغاضب لقتل أطفاله، منذ الساعة السادسة فجرًا، وتتواصل حتى إطلالة الظُّهر، فهي رسالة لا يمكن التغاضي عنها، وأعمى من لا يرى ما ورائها. الرسالة الثالثة لعلّها للداخل التركي، الرسميّ على وجه الخصوص، بحيث لا تترك خيارًا أمام هذا الداخل، وأمام أردوغان، إلا الوقوف الحقيقيّ المُثْمِر مع الشعب الفلسطيني، الوقوف المُفْضي في ذروة تجلياته لإيقاف طاحونة قتل أطفال الشعب الصامد ونسائه وشيوخه وتدمير مقدراته وبُنْياتِ وجودِهِ من أساسها، كأنّي بهم يريدون أن يقولوا لباقي شعبهم وحكومتهم ورئاستهم: إن الوقوف مع فلسطين المحتلّة المُستهدَفة المظلومة المُتكالَب عليها، ليس خيارًا، بل فرض عين لا يَعفي قيامُ أحدٍ به أحدًا آخر. فَرْضُ عينٍ لا يستثني أحدا.
أعلام فلسطين تملأ ساحات التظاهرة الكبرى.. الكوفيات على صدور الرجال والنساء.. وفوق رؤوس النساء تقوم مقام المناديل.. ملامح الغضب من الأعداء.. والإيمان بمشروعية القضية الفلسطينية وقدسيّتها، الأناشيد باللغتين.. تلاوة القرآن باللغة التي نزلت آياتُهُ بها.. كل هذا وغيره يرسل الرسالة الرابعة الرئيسية التي مفادها أن المشترك بيننا وبين الشعب التركيّ، أكثر بكثيرٍ من المختلَفِ عليه بيننا وبينه.
حشدٌ كبير يملأ أحياءً بأكملها.. لا تسعه شوارع المدينة البحرية الآسرة.. المحتشدون فوق اليابسة يقابلهم بالعزيمة نفسها المتحفّزون فوق قوارب البحريْن.. بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَّا يَبْغِيَانِ.. مشاهد تَشرح الصدر.. رسائل تُطمْئِن الفؤاد.. وتحمل بشائر كبرى مع أوّل أيام عامٍ جديد.