كنت أتصفّح كتاباً بعنوان ’’تحت راية القرآن‘‘ للأديب الراحل مصطفى صادق الرافعي وقعت عينيّ على مقالة بعنوان ’’لمّا ادركه الغرق‘‘ التي ابتدأها بقصة السمكة التي تدّعي ملكيّة الغدران والجداول والنهار والبحار والمحيطات إرثاً عن آبائها وأجدادها التي سأوردها بتصرّف بسيط بما يتّسق مع مضمون مقالتنا:
قال كليلة: أما تضرب لي المثل الذي قلتَ يا دمنة؟
قال دمنة: زعموا أن سمكة في قدر ذراع كانت في غدير، فلما سال به السيلُ جرى بها الماء إلى نهر قريب، فدخلها الغرور فقالت: هذا لعمري ميراث أبي قد كنتُ عنه غافلة، وما أكثر ما يُضيِّع التهاون والعجز! ثم إنها لبثت في النهر ما شاء الله حتى خرج بها التيار إلى البحر، فقالت: يا ويلتاه، أعجزت كل هذا العمر عن ميراث أعمامي! ثم ما زالت في ميراث أعمامها حتَّى قذف بها الماء إلى المحيط فاتسع لها منه ما يسعها، فقالت: قبَّح الله العجز ولو من كسل وهُوَينا، لقد كدت أُسلَبُ ميراث أجدادي! لولا أن من دمهم فيَّ لم يزل يدفعني ولم يزل يسمو بي، ثم إنها طفت يوماً على الماء. بداية التصرّف ’’فإذا بالسماء تُمطر رجالاً والأرض تهتز تحت أقدام أمثالهم، وآخرون يموج بهم البحر كالطود العظيم وكأن الأرض تشهد الطوفان العظيم‘‘ انتهى التصرّف، فطار بها الغيظ قطعاً وقالت: مَن هؤلاء الوقحون المتهجمون على ميراث أجدادي لا يخشون أن يقتحموا عليَّ وقد حميتُ هذا المُلك من حيث يجري الماء إلى حيث يبلغ الماء؟ ثم إنها شدَّت نحو مراكب الرجال وهي تخبط بذَنَبها من الغيظ تريد أن تضربها بهذا الذَّنَب ضربة تلوي به، ولكن كانت شباكهم لها بالمرصاد فوقعت فيها، ذليلة منكسرة مهزومة أنساها طعم الهزيمة ميراث أجدادها المزعوم، وبدأت بالصراخ والعويل تطلب النجدة من أجدادها من سلالة القرش المفترس التي تداعت قطعانها لمحاصرة الصيّادين ولتعمل فيهم فتكاً وافتراساً.
وحال هذه السمكة حال الكيان الإسرائيلي اليوم الذي خُلِق من عدمٍ ثم زرع في أرضٍ ليست أرضه وفي شعب لا يربطه به أيّة رابطة وأخذ يدّعي ملكيّة أراضيهم ومقدساتهم بالوراثة عن أجداده مستعيناً بقوى الاستعمار الغربيّ وقوى الحلفاء المنتصرة في الحرب العالميّة الثانيّة التي أنتجت لنا نظاماً عالميّاً جديداً يقوم على قانون القوة الذي مكّنهم من تفصيل مؤسسات ومنظمات وقوانين أمميّة على قياسهم فكانت منظمة الأمم المتحدة ومجلس الأمن ومحكمة العدل الدوليّة وباقي المنظمات الدوليّة أدواتهم في تقاسم النفوذ في العالم وإدارة الصراعات والحروب وانتزاع الحقوق من أصحابها ومنحها لمن لا يستحقّها والمثال الحيّ على هذا الحال هو ’’الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين والأراضي العربيّة‘‘ وشرعنتها هذا الاحتلال من خلال قرارات الاعتراف بهذا الكيان وحمايته، حيث درجت الأمم المتحدة ومجلس الأمن منذ تأسيسهما بعد الحرب العالميّة الثانيّة على صناعة قيم ومبادئ دوليّة تُكرِّس انتصار الحلفاء على المحور، وتُحصِّن ’’اليهود الصهاينة‘‘ باعتبارهم ضحايا النازيّة من أيّة مراجعة لرواياتهم حول الهولوكوست وبدأت الدول الغربيّة مع بداية تسعينيات القرن الماضي بسنّ القوانين التي تُجرِّم إنكار الهولوكوست ما دفع الأمم المتحدة في سنة 2007 لاعتماد قرار يدين إنكار الهولوكوست وأعلنت الجمعية العامة أن الإنكار “يعادل الموافقة على الإبادة الجماعية في كل أشكالها” وكذلك قيام التحالف الدولي لإحياء ذكرى الهولوكوست باعتماد قانوناً لمعاداة السامية في سنة 2016 إذ تضمن هذا التعريف المصطلحات التي تشير إلى أن إنكار الهولوكوست يعدّ شكلاً من أشكال معاداة السامية. الأمر الذي أدّى إلى تحصين إسرائيل من أي محاسبة سياسيّة أو قانونيّة على جرائمها التي تبدأ بالاحتلال وتنتهي اليوم بجريمة الإبادة الجماعيّة بحق سكّان عزّة.
كما أن الأمم المتحدّة عبر قرارات الجمعيّة العامة أو مجلس الأمن كانت تُكرّس الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين والأراضي العربيّة الأخرى على أنّه نزاع حول ملكيّة أراض محتلة، ولم يسبق لأي مرجع قضائي دولي أن فتح تحقيقاً حول جرائم الاحتلال الإسرائيلي، ولم تتجرأ أيّة دولة من الدول الأعضاء في الأمم المتحدة على تقديم دعوى أمام محكمة العدل الدوليّة، حتى أنّ الحالة التي نظرت بها المحكمة بخصوص الجدار العازل لم تكن بطريق الدعوى تأسيساً على اختصاص المحكمة القضائي وإنّما كانت بإحالة من الجمعيّة العامة للأمم المتحدة بصفتها مرجعاً للفتوى.
إلى أن جاء طوفان الأقصى العظيم ليقلب الموازين ويذيق إسرائيل مرارة الانكسار والهزيمة التي هدّدت وجودها تهديداً حقيقيّاً حيث أظهرت وحشيّة هذا الكيان حقيقته بأنّه كيان يقوم على الباطل والإجرام ويمارس الإبادة الجماعيّة بحقّ أصحاب الأرض التي فاقت الإبادة الجماعيّة التي مارسها النازيّون ضد اليهود في أوروبا بآلاف المرّات بشاعة وإجراماً والتي تسبّبت بغضبٍ عالميٍّ عارمٍ دعا شريحة كبيرة من الرأي العام العالمي لإعادة النظر بوجود إسرائيل وشرعيتها في فلسطين حتى في عقر دار الدول الحليفة لهذا الكيان وصانعته وزاد في الأمر قيام دفع جمهورية جنوب أفريقيا بتقديم دعوى أمام محكمة العدل الدوليّة ضد الكيان الإسرائيلي متهمةً إياه بارتكاب جريمة الإبادة الجماعيّة بحق الفلسطينيين، وتعتبر هذه الدعوى من حيث التأثير على هذا الكيان وصانعيه هي الموجة الثانيّة من طوفان الأقصى التي لا تقلّ أهميّتها وقوّة تأثيرها على سمعة ووجود هذا الكيان عن عمليّة طوفان الأقصى، باعتبارها أول محاكمة لهذا الكيان على يد عضو من أعضاء الأمم المتحدة في تاريخ الأمم المتحدة.
فهي على المستوى القانوني سابقة تاريخيّة في محاكمة إسرائيل كـ’’دولة‘‘ أمام أعلى مرجع قضائي تابع للأمم المتحدة.
وبأنّها أول دعوى تؤسس على انتهاك خطير للقانون الدولي وهو ارتكاب جريمة إبادة جماعيّة بحق الشعب الفلسطيني، ما سيفتح الباب أمام محكمة المسؤولين الإسرائيليين على المستويات السياسيّة والعسكرية كافة جنائيّاً أمام المحاكم الجنائيّة الدوليّة والوطنيّة، وكذلك ملاحقة المسؤولين الغربيين الذين أظهروا دعمهم الصريح لهؤلاء المجرمين بجرائم التواطؤ بارتكاب جريمة الإبادة الجماعيّة والتحريض والتآمر على ارتكابها.
وتعتبر على المستوى السياسي أول مِعوَل يُضرب في سور الحصانة المنيع الذي يُحصِّن إسرائيل من المحاسبة وهو ’’قانون معاداة الساميّة‘‘ الذي كانت سيفاً مُسلّطاً على رقبة كل من يتعرض لجرائم وممارسات إسرائيل تصريحاً أو تلميحاً، ويُحسب لفريق الادعاء الجنوب أفريقي ’’الفريق الأسمر ذي الشامة البيضاء‘‘ هذا الاختراق الشجاع ما سينعكس على إسرائيل بالسوء من الناحية الاقتصادية حيث ستكون عرضة للعقوبات الاقتصادية في حال إدانتها بجريمة الإبادة الجماعيّة وهذا ما شهدناه من خلال تصريحات مسؤولين غربيين ودوليين تطالب بفرض عقوبات اقتصادية على الكيان آخرها دعوة ’’بيترا دي سوتر‘‘ نائبة رئيس الوزراء البلجيكي لفرض عقوبات على إسرائيل.
كما سيؤدي إلى مراجعة صفقات وعقود تسليح الكيان وفرض قيود على توريد السلاح إليها باعتبار أن هذه الأسلحة تستخدم في ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانيّة وانتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان الإمر الذي يجعل الحكومات التي تزوّدها بالسلاح مع علمها بهذا الجرائم مسؤولة قانونيّاً عن هذه الجرائم وباعتبار أن تقديم الدعم العسكري أو غيره من أنواع الدعم هو من قبيل الاشتراك الجرمي، وبالتالي يمكن ملاحقة مسؤولي هذه الدول أمام المحاكم الجنائيّة الدوليّة والوطنيّة بجرائم التواطؤ بارتكاب جريمة الإبادة الجماعية والتواطؤ بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانيّة.
كما أدّى إلى إظهار حقيقة الزيف والخداع الدوليّ في تصوير الكيان الإسرائيلي بأنه قمة ’’الديموقراطيّة‘‘ والتي يتغنى بها مجرمو هذا الكيان وحلفاؤها الغربيّون والترويج له لدفع اليهود في العالم للهجرة الى فلسطين وبالتالي توسيع المستوطنات وتكريس الاحتلال إلى الأبد على حساب الشعب الفلسطيني.
كما أنّها أدّت إلى تحوّل في الرأي العام الدولي الذي اتجه للبحث عن عدالة القضيّة الفلسطينيّة وبدأت طلائع الشباب الغربي تعي حقيقة الاحتلال الإسرائيلي التي تجلّلت بالمظاهرات الكبرى التي طالبت وتطالب الحكومات الغربيّة الداعمة لإسرائيل لوقف دعمها لها والضغط عليها لوقف إطلاق النار وإعادة الحقّ الفلسطيني لأصحابه وإنهاء الاحتلال.
وما يؤكّد أهميّة وخطورة دعوى جنوب أفريقيا هو تنامي الدعم الدولي لها حيث أبدت أكثر من 57 دولة دعمها الكامل، ما أثار خوف صانعي وداعمي الكيان الصهيوني من قرب زواله الأمر الذي دفعهم للوقوف إلى جانبه عسكريّاً واقتصاديّاً وسياسيّاً وقانونيّاً عبر انضمام هذه الدول الى فريق الدفاع الاسرائيلي أمام محكمة العدل الدوليّة ضد دعوى جنوب أفريقيا وأبرزها الولايات المتحدة الأمريكيّة وبريطانيا وألمانيا، وكأني أرى حال هذا الكيان حال سمكة الرافعي المُدّعية زوراً وبهتاناً ميراث الغدران الجداول والأنهار والبحار والمحيطات عن أجدادها والتي دفعها غرورها للوقوع في شباك الصيادين، ولمّا أدركها الغرق تداعت قطعان القرش المفترس من كل جانب لإنقاذها ولن يفلحوا بإذن الله.
الكاتب: عبد الناصر حوشان – المصدر: نينار برس