د. يحيى العريضي
في عقابيل حرب غزة
مع تتطوّر أحداث غزة، وفزعة حوثي الملالي، وعامود نصر الله، تحاول طهران خلط الأوراق باستهداف منطقة هنا وأخرى هناك، باستثناء مصادر النيران التي تستهدف أذرعها، ونقاطها العسكرية في مناطق الأذرع؛ و ها هي كل أسباب استئصال منظومات الاستبداد التخادمية الوظيفية أضحت متوفرة بعد ٧ أكتوبر.
المفارقة أن استهداف البواخر والسفن الغربية يقابله بكل خبث ما يبدو عجزاً أمريكياً. وهذا يدفع بالمراقبين والمحللين الاستراتيجيين إلى الاستنتاج بأن ما سيتبع هذا التظاهر الغربي بالرخاوة هو انتظارالمنظومات التخادمية لتستكمل ارتكاب الخطأ الاستراتيجي، الذي تم ارتكاب بعضه سلفاً بتهديد العصب الوجودي للكيان الصهيوني. يرى هؤلاء ان القادم فعل تدميري غير مسبوق، تتراكم أسبابه.
يعكس ما تفعله إيران وأذرعها مدى عمق بنائها التخادمي، الذي صُمِّم ليكون صعب التفكيك. والجانب الآخر الذي يؤجّل قليلاً ردة الفعل الساحقة الماحقة، يتمثّل بما غُرس عالمياً في الأذهان بخصوص “فوبيا الإسلام السني”. وهذا ما يجعل الردود حتى اللحظة بقوة ناعمة لا تدميرية. كل ذلك رغم تهديد عمق الأمن الإسرائيلي، وتهديد مصالح أمريكا والغرب؛ ومع هذا تستمر بعض الدعوات للحوار مع إيران حتى اللحظة.
بالمجمَل، على أية حال، تأخذ الأمور مساراً تصعيدياً كبيرا؛ فالتخادميون علِقوا في نفق تبدو العودة منه مستحيلة، فالحوثي يُعاد تصنيفه كمنظومة إرهابية مارقة، وجناح حزب الله العسكري حاز على ذلك التوصيف، والحشد الشعبي بطريقه لنيله.
في الضفة التحالفية المقابلة، هناك حشد عسكري في البحار والمحيطات، واستنفارات في القواعد الأرضية غير مسبوق. وإذا ما ربطنا هذا بالحرب الروسية – الأوكرانية ؛ نجد أن التحالف يأخذ خيار الحرب حتى النهاية، أكان في أوكرانيا ضد الروس، من خلال اعتبار المسألة أوروبياً قضية وجودية، أو في الشرق الأوسط، حيث الوجود الإسرائيلي والمشروع الغربي يعيش حالة التهديد الوجودي ذاتها. والاستخلاص من وضع كهذا يفيد بأن حسماً من نوع ما هو القادم؛ لأن الخروج بوضع يكون فيه الكلُّ رابحاً (win-win)مستحيل؛ و أن يكون الكل خاسراً، أيضاً مستحيل.
في تربّص منظومة الأستبداد
بعد غزة؛ وإذا ما تمَّ تجديد عقود التخادم الوظيفية مع المنظومة الاستبدادية، كيفما كانت شروط الإذعان؛ فإنها لن تلتفت لأي مطلب داخلي حينها، بل قد تسعى دول حول سوريا لإبرام صفقات معها على حساب السوريين جميعا. عندها؛ وإذا ما حُشِر الشعب السوري الثائر بين مخيم، ومنفى، من جانب؛ ومنظومة تم تجديد عقدها التخادمي، من جانب آخر؛ فهل يبقى هذا الشعب بحالة تداعي تراكمي ومراوحة للثورة كلها؛ أم يسعى لبناء منصات جامعة من لزوم مايلزم؟ و إذا تقرر التقسيم نصًا دوليًا أو أمرًا واقعًا مفروضا؛ هل ينكفىء السوريون الى حالة متشظية معزولة اقل من كيانات هشة عاجزة، أم يمدّون الجسور نحو تكاملية سياسية اقتصادية تكون أرضية لسوريا الواحدة الحرة المستقلة؟
هذه لحظة على الأحرار التقاطها- وخاصة حراك السويداء- فثمة توقيت يصنع فارق. رغم الألم الذي يكابده أهل فلسطين، فإن حصاد غزة الذي يُمسك بخناق من تاجروا بها، ووظفوا دمها ليضيّعوا دماء شعوبهم، فرصة تتواقت مع ثورة السوريين في الحرية والكرامة. لقد أزف وقت الانتقال إلى الجدوى، إلى المربع الأكثر تاثيراً في القرار بالشان السوري.
في حراك السويداء
لو لم يفعل حراك السويداء شيئاً إلا إعادة بث الثقة والأمل في نفوس معظم السوريين بأن انتفاضته على الظلم والفساد والخوف، وإخفاضه القيمة السياسية لمنظومة الاستبداد، بسحبه ورقة “حماية الأقليات” من يدها، وإبعاد صفة التطرف والطائفية والإرهاب عن ثورة السوريين، بتقديمه الصورة الأبهى لثورة نظيفة سلمية تدعو لوحدة الوطن وحريته؛ فإنه أوفى بالعهد والأمانة لإرث ومناقبيات وتمسكٍ بالوطن الواحد السيد المستقل. فأن يستمر أشهراً بجملة سياسية مرصوفة ببراعة، فهذا إنجاز، وكبير.
بعد مساعي تكرير منظومة الاستبداد الأسدية، ومع استشعارها وإيران الملالي الخطر الذي يمكن أن تشكّله انتفاضة السويداء بتجديدها ثورة السوريين بسلميتها ونقائها وفضخ ادعاءات المنظومة “حماية الأقليات”؛ لم تكن مجزرة الكلية الحربية في حمص كافية لحرف الأنظار عن ذلك الحراك. هنا أتى استعجال “طوفان الأقصى” بوعود إيرانية بوحدة ساحات “المقاومة”، لتتنصّل إيران لاحقاً من الحدث، وليُصاب نظام الأسد بصمت القبور تجاه ما يحدث في غزة.
ها هو حراك السويداء يتسابق مع “النظام” على تفكيك اللحظة بأحد اتجاهين: هو يريد استعادة الماضي بعسفه، والحراك يريد أن يمسك بمستقبل بلا قضبان. فلا طريق وسط مع نظام أدمن لعق قواعد المكان بنفس شراهته على دم شعبه. يدرك الحراك قيمة هذه اللحظة الاقليمية والدولية التي لن تتكرر تجاه أفق مفتوح، و قد سحبت غزة بلحظة مجمل رصيد “النظام” التخادمي، واحرقته؛ فالنظام لن يعدم الوسيلة لفتح تقاصٍ جديد. و من جانبه، لن يملَّ أو يتعب الحراك من التربص بالتناقضات والتهالك الذي أصاب منظومة الاستبداد. لقد أتت السويداء في وقت التآكل الاستراتيجي لانتفاضة سوريا ككل بفعل داخلي واقليمي وخارجي، ولكنها لن تضيّع أو تُفلِتَ أو تسمح بتسرب لحظة تاريخية كهذه. ربما يجد السوريون أنفسهم أمام مثلث قدري فيه نهاية للحرب والاستبداد، و ولادة للسلام والحياة والحق.