أصبحت الأساطير أساس السياسة الروسية، فبعد بدء الحرب على أوكرانيا تنشطت الدعاية في دوائر الاتصالات السياسية للكرملين، وباتت تُروَّج للمستهلك الداخلي والخارجي على حد سواء أساطير سياسية تشرح تقريبًا جميع جوانب معيشة الشعب الروسي.
تمثّل الأساطير الاقتصادية أولوية بالنسبة للقيادة الروسية حيث صرح الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مؤخرًا بأن الاقتصاد الروسي يشهد نموًا متزايدًا، إذ تحتل روسيا المرتبة الأولى من حيث التنمية الاقتصادية أوروبيًا متجاوزةً ألمانيا، والمرتبة الرابعة عالميًا متفوقة على اليابان.
حجر الزاوية الآخر في الأساطير الاقتصادية الروسية يتمثل في المقاومة المذهلة المزعومة لروسيا للعقوبات الغربية، و”التوجه إلى الشرق” الذي حظي بتغطية إعلامية دولية واسعة قد باء بالفشل، إذ لم يقبل الشرق روسيا خوفًا من طبيعتها المفترسة، وروسيا نفسها تحولت إلى “مملكة السلع المقلدة” الضخمة حيث يقترب احتمال العثور على المنتجات الأصلية من الصفر.
إن قصص ازدهار الاقتصاد الروسي موجهة إلى الجمهور الساذج من البلدان التابعة لروسيا ومواطنيها الذين يكتفون بالقليل.
يبذل المسؤولون الروس جهدًا كبيرًا في محاولة تخويف “الغرب المتحلل” والولايات المتحدة وبريطانيا العظمى وألمانيا، أي التحالف الموالي لأوكرانيا عمومًا، بقفزة اقتصادية غير مسبوقة وبالتالي إضعاف الغرب ومنع المساعدة لأوكرانيا.
إن حقيقة أن الاقتصاد الروسي أظهر نموه بفضل الطلبات العسكرية لا تحظى بتغطية واسعة في أروقة السلطة ووسائل الإعلام الروسية. في الواقع، شهد الاقتصاد المدني تقلصًا لأن كل الإمكانات الروسية سواء الفكرية والصناعية تخدم احتياجات الحرب، الأمر الذي بلا شك يعتبر إشارة سلبية بالنسبة للغرب، الذي لا بد أن يجمع موارده ويحدد الأولويات التكنولوجية، من جهة، وأيضّا إشارة سلبية بالنسبة للمجتمع الروسي بأكمله، الذي لم يعد أمامه في ظل حكم بوتن أي بديل سوى العيش من أجل الحرب والموت فيها.
لم يترك للشعب الروسي سوى العيش حياة معزولة وسط روبل روسي ضعيف وسياسة غامضة للبنك المركزي المتلاعب بمعدل الخصم. تلمح رئيسة البنك المركزي إلفيرا نابيولينا من حين إلى آخر إلى احتمال وقف تداول العملات الأجنبية في بورصة موسكو، الأمر الذي يعتبر ضربة ساحقة للعملة الوطنية الروسية.
أما الاستثمارات الأجنبية في القطاع المصرفي الروسي فقد تعلقت عمليًا. تضطر البنوك الروسية إلى الاقتراض من السوق المحلية، الأمر الذي يترتب عليه زيادة لا نهائية لها في معدل الخصم، وبالتالي زيادة في تكاليف الاقتراض بالنسبة للسكان والأعمال التجارية. وفي أثناء ذلك يتزايد عدد القروض المتأخرة بسرعة البرق وترتفع فائدة الرهن العقاري في روسيا.
في الوقت عينه، قالت وزارة المالية الأمريكية إنها تفرض عقوبات على البنوك التي تسهل المعاملات المالية والتجارية الهادفة إلى دعم الإمكانات العسكرية الروسية. بالإضافة إلى ذلك يعتبر منع الالتفاف على العقوبات من بين أولويات المجتمع الأوروبي.
أصبح موضوع ارتفاع أسعار البيض ونقصه حدثًا متداولًا بين أحداث الحملة الانتخابية الرئاسية في روسيا. وهذا مجرد قمة جبل جليدي يهدد سفينة بوتن بالغرق عقب الاصطدام به مثل “تايتانيك”. وحتى بصرف النظر عن ارتفاع أسعار الطماطم والخيار من شهر إلى آخر، الذي بدوره يعتبر مؤشراً مهماً، يجدر التذكير بأن مجرد قصف عنيف لأوكرانيا يكلف دافعي الضرائب الروس أكثر من مليار دولار. وهذه هي تكلفة الصواريخ والطائرات بدون طيار التي تحلق على الدولة المجاورة ذات السيادة. في الوقت نفسه، يشهد قطاع الإسكان والخدمات المجتمعية وسط الصقيع الشديد في روسيا انهيارًا. وفي ظل ظروف قاسية حيث تتراوح درجة حرارة بين 25 و30 درجة تحت الصفر، يعاني المواطنون الروس من انقطاع التيار الكهربائي والتدفئة المركزية والماء الساخن، حيث وصل الأمر ببعضهم إلى التجمع في أفنية المباني الشاهقة وإشعال النار وترديد عبارة: “ساعدنا يا بوتين!”.
تشهد قطاعات كثيرة من الاقتصاد الروسي أزمة عميقة، على وجه الخصوص الطيران المدني حيث تتعطل الطائرات يوميًا تقريبًا بسبب نقص قطع الغيار بينما تبقى بعضها ببساطة مفككة.
ينجو قطاع النفط والغاز بفضل إمدادات قياسية إلى الهند بأسعار منافسة، بينما تتقلص الإمدادات إلى الصين التي كانت القيادة الروسية تعتمد عليها كثيرًا. ويبدو أن الصينيين يشعرون بخيبة أمل إزاء الإمكانات الاقتصادية للأخ “الأصغر” وصواريخه “كينجال”.
إن الإيرادات المتأتية من بيع النفط والمنتجات النفطية تتراجع بسبب انخفاض أسعار النفط والخصومات المتزايدة على خام الأورال الروسي، كما أن شركة “غازبروم” بصفتها سلاح الغاز لدى الكرملين من المرجح أن تواجه إفلاسًا غير مسبوق، وبالتالي قد تصبح نصبًا تذكاريًا للتوسع الاقتصادي الوبيل.
كما قد تبقى الأصول الروسية في الخارج رمزًا تذكاريًا للطموحات الإمبراطورية الروسية لأن 300 مليار دولار من الاحتياطيات الروسية من الذهب والعملات الأجنبية المجمدة يجب أن تستخدم لدعم أوكرانيا التي يدمرها الإمبرياليون الروس بوحشية.
إن محاولات الكرملين اليائسة للعثور على ممتلكات الإمبراطورية الروسية قد تتحول إلى مهزلة أخرى إذ أنها تستهدف المستهلك الداخلي. لكن في الواقع، انخفضت قيمة الأصول الروسية بشكل حاد حيث انخفضت قيمة أصول الشركات الخاصة بنسبة 50%، بينما أصول شركات القطاع العام بنسبة 75%. وقد لعب انخفاض قيمة الروبل الذي تم التضحية به في المغامرة العسكرية دورًا مهمًا في ذلك.
تم الكشف عن الحالة الحقيقية للاقتصاد الروسي في مقال بقلم أستاذ الاقتصاد بجامعة ييل جيفري سونيفيلد. تشهد روسيا مغادرة الشركات إلى الخارج، وهي لا تشمل شركات تعمل في مجال الموضة أو التجميل فحسب بل أيضًا الشركات التي تنتج وتورد المعدات. وإلا فكيف يمكن شرح وقوع الحوادث المتتالية في المؤسسات الصناعية الروسية في الآونة الأخيرة؟ من الواضح أن مبدأ استبدال المنتجات المستوردة بأخرى محلية لا يعمل على الرغم من نداءات المسؤولين الروس لدعمها في كل المنتديات الاقتصادية تقريبًا.
جنبا إلى جنب رأس المال الأجنبي فقدت روسيا أحدث التقنيات الحالية (كما منع وصول العلماء الروس إلى التقنيات الواعدة حاليًا). لقد عانى قطاع النفط والغاز الروسي بشكل كبير من فقدان الوصول إلى العمليات الحديثة لإنتاج النفط وتكريره. على سبيل المثال، اضطرت شركة “روسنفت” الروسية الرائدة إلى إنفاق 10 مليارات دولار أمريكي إضافية على الاستثمارات الرأسمالية، مما أضاف 10 دولارات إلى تكلفة كل برميل من النفط.
وبلغ حجم رأس المال المغادر روسيا 253 مليار دولار أمريكي، في حين غادر 33% من المليونيرات الروس البلاد.
غادر أكثر من مليون متخصص مؤهل تأهيلًا عاليًا روسيا بعد بدء الحرب على أوكرانيا، إذ فضلوا الهجرة على الموت المشين في مكان ما في السهوب الأوكرانية، ومن بينهم متخصصون في قطاع تكنولوجيا المعلومات وعلماء واعدون.
وعلى خلفية مثل هذه الخسائر في القطاع الاقتصادي، فإن تصريحات السلطات الروسية حول النمو الاقتصادي الهائل خدعة صريحة تهدف إلى تخويف الغرب وجعله يتفاوض في القضية الأوكرانية. إن النمو غير المسبوق “الستاليني” للمجمع الصناعي العسكري قد يتحول أيضًا إلى أسطورة عظيمة إذ تنجح القوات الأوكرانية في استهداف منشآت صناعية عسكرية محورية في روسيا، منها على سبيل المثال، مصنع البارود الذي استهدف مؤخرًا.
وإذا وفر الغرب لأوكرانيا جميع الإمكانات يمكن أن تضع حدًا للتفوق العسكري والاقتصادي الروسي، مما يمكن أن يحيد التهديد الروسي للتحالف الغربي بأكمله.