إخفاء وجود الضحية السورية وراء الضحية الفلسطينية يخدم الصهيونية ويسيء إلى الحقيقة، الأشخاص الذين يرددون إن ما يحدث في فلسطين هو “عمل غير مسبوق”، أطلب منهم أن يفكروا بأهمية “انتقاد احتكار صورة الضحية”.
يُعدّ نوري الجراح، من مواليد دمشق عام 1956، أحد أكبر الشعراء العرب المعاصرين. لقد سبب له صوته الناقد في معظم الأحيان، الكثير من المشاكل منذ ثمانينيات القرن الماضي، وهي الفترة التي غادر فيها سوريا، سالكاً ذلك الطريق المجهول الذي يسمى المنفى. في الحقيقة، لا يزال الشاعر يعيش منفاه حتى اليوم في لندن. ولكن على الرغم من بعده عن موطنه، استمر الجراح في كتابة أشعاره، وله العديد من المجموعات الشعرية، وقد تُرجم بعضها إلى العديد من اللغات.
ومؤخراً، نشرت له جامعة “لو مونييه” مع دار نشر مونتودوري في إيطاليا، أحدث أعماله الشعرية بعنوان “الخروج من هاوية البحر الأبيض المتوسط”، بترجمة المستعربة فرانشيسكا ماريا كوراو.
وهنا النص العربي للحوار:
لا تكافئوا سفاح تل أبيب!
السؤال: الموت تحت القنابل، وأحيانًا دون أن يتذكرك أحد، هؤلاء يكتبون سرديتهم ايضا ولكن ما هو دور الثقافة العربية اليوم في مواجهة مآسي كتلك التي في غزة أو تلك المنسية في سوريا؟
الجواب: في هذا الوقت، وفي كل وقت يسود فيه التوحش، مهمة القصيدة وشاعرها أن يكونا في الخندق الأول دفاعاً عن الإنسان/الضحية، على الشاعر يكون يقظاً، أن يرى، وأن ينفذ ببصيرته إلى عمق الأشياء. أن لا يسمح للأيديولوجيات أن تعمي بصيرته، ولا لثقافة تمجيد الموت تحت شعار الدفاع عن الحياة أن تحجب الحقيقة العارية المتجسدة في الخسارة، خسارة الأرواح، وخسارة الحياة. لا أحب فكرة الشهادة، ولا كلمة الشهيد. مثل هذه الكلمات هي عزاء بلا طائل. كل من يقتل في العالم، هو شخص خاسر، كل روح تزهق في فلسطين أو في سوريا، أو في أي بقعة من الأرض، هي خسارة كاملة لا تعوضها صفات ولا رموز ولا كلمات فخمة، ولا أي نوع من العزاء. على الشاعر بوصفه صوت الوجدان الإنساني أن لا يتوانى عن الوقوف في خندق الحقيقة، مدافعا في شعره عن قيم الحرية والكرامة والجمال، وعلى القصيدة أن تمنح الأمل، ولكن من دون أوهام.
أتحدث عن الشعر بوصفه جوهر الثقافات الإنسانية. ففي البدء كانت الكلمة الشاعرة قبل أن توظف الكلمات في أفعال وأدوار مضادة للإنسان، قبل أن تنصب الإيديولوجيات والخطابات المتسيدة والمستعبدة الفخاخ للكلمات والبشر. الشعر هو الحرية.
ما يجري في فلسطين اليوم ولا يوجد توصيف آخر له سوى أنه جريمة جماعية وعمل من أعمال الإبادة ضد البشر، ولابد أن نجهر بأعلى أصواتنا في إدانته والدعوة إلى الضرب على يد المجرم ليتوقف ويحاسب.
والآن أريد أن أتوقف عند التعبير الذي أطلق مرارا على ألسنة المعلقين على الحدث الفلسطيني في الإعلام من وصف الوحشية الإسرائيلية بـ (عمل لا سابق له) هذا التعبير يهين الحقيقة ويهين الإنسان، لكونه يضمر صمتاً وتعاميا عما وقع ويقع منذ أكثر من عقد على بعد كلومترات ليست بالكثيرة عن جغرافية فلسطين المحتلة. وأعني بها الجغرافيا السورية حيث حول نظام الطاغية بشار الأسد منذ 15 مارس 2011 وحتى اليوم الجغرافيا السورية إلى معتقل جماعي ومسلخ للآدميين. وجعل من الشعب السوري أضاحي على مذبح الاستبداد والاحتلالات الأجنبية.
والنتيجة منذ ذلك التاريخ مئات المذابح التي أهلك فيها حسب إحصاءات الأمم المتحدة أكثر من 350 ألفا، وحسب المنظمات الحقوقية الدولية أكثر من 600 ألفا، وحسب الجمعيات والمنظمات السورية نحو مليون سوري.
المفقودون يزيدون على 150 ألفاً، والمعتقلون أكثر من 200 ألفاً، والمنفيون من بلادهم بعشرات الآلاف، واللاجئون هربا من الموت والجوع وهم مسجلون عند الأمم المتحدة ويقيمون في مخيمات بائسة في الجوار اللبناني والأردني والتركي 6 ملايين، والمهجرون من بيوت فقدوها داخل سوريا 3 ملايين.
عشرات المدن، ومئات القرى المدمرة. نظرة على حطام واحدة منها فقط هي مدينة حمص ثالث أكبر مدينة في البلاد تكفي لمعرفة فداحة ما جرى في سوريا ولا معقوليته، بوصفه حدثا هو حقاً لا سابق له في المنطقة العربية. بما في ذلك استعمال الغاز في الإبادة الجماعية. أما رؤية صور قيصر التي عرضت في مقر الامم المتحدة والتي هي بالآلاف لضحايا التعذيب فهي كفيلة بتأكيد أن لا شيء كهذا حدث إلا في معسكرات النازيين الألمان.
سقت ما سقت ليس من باب منافسة ضحية لضحية، بل لأقول أن هناك حاجة لنقد فكرة احتكار صورة الضحية، (وهي لا تفيد سوى الصهاينة بوصفهم الضحية الوحيدة في العالم) ولأقول بالتالي أن على المتكلمين باسم الضحية الفلسطينية في الإعلام أن يتريثوا قبل أن يصفوا ما يجري في فلسطين، وينفوا أن يكون وقع شيء يشبهه، فهذا الإنكار لوجود ضحية أخرى هي الضحية السورية هو إنكار للحقيقة، وجائزة لسفاح العصر بشار الاسد. لا تقلدوا نتنياهو الذي خطب في الايباك اليهودي غداة اندلاع الثورة السورية في أميركا قائلا: ليس من مصلحتنا سقوط نظام الأسد. لا تكافئوا سفاح تل أبيب حليف سفاح دمشق في خطتهما لتدمير الإنسان وتحويله إلى ضحية تسكن القبر.
ضحية الأمم
السؤال: في مجموعتك الشعرية الأكثر ترجمة، “قارب إلى ليسبوس”، تحدثت عن السوريين الذين أجبروا على أن يصبحوا لاجئين كالطرواديين، ينشدون ملجأ في أوروبا، يطوفون يائسين في شوارع أثينا . ما الذي لم يفهمه الغرب عن المأساة السورية؟
الجواب: لا أعتقد أن الغرب لم يفهم ما جرى في سوريا. ليس ثمة عقل حضاري لنخب سياسية وفكرية وثقافية كالتي في الغرب، لا يمكن أن يعي ما يرى، هذا هراء، الأصح أن علاقات القوة والضعف والمصالح الإقليمية والدولية هي ما حمل العالم على قبول تحويل ثورة سلمية تطالب بالديمقراطية والكرامة الإنسانية إلى مذبحة كبرى أنزلت بشعب، وإلى دمار مدن سوريا وجزء كبير من تراثها الحضاري، ووقوعها تحت الاحتلالات الأجنبية. سوريا التي عرفها العالم قبل ثورة 2011 لم تعد موجودة، للأسف. نصف الشعب السوري لاجيء في العالم، وتتقاسم سوريا اليوم: جيوش الإسرائيليين، والأميركان والإيرانيين والأتراك ، وعشرات الميليشيات والعصابات الجائعة: اللبنانية والباكستانية والطاجيكية والعراقية والافغانية وغيرها. سوريا بلاد محتلة وعالم مدمر.
الطغيان والاحتلال
السؤال: من بين الأمور غير المفهومة هو لماذا يستطيع الغرب أن يحشد بشكل جماعي من أجل القضية الفلسطينية وليس من أجل سوريا؟
الجواب: هذا الامر مرتبط بمسألتين، أولا بجوهر القضية الفلسطينية بوصفها قضية تحرر وطني لشعب تحت احتلال أجنبي. وثانيا بتاريخية القضية ونضال شعبها والتي يشارف عمرها على القرن، وما للغرب الاستعماري من يد في صناعة مأساته، وهو ما تعيه الشعوب الغربية التي أخذت تناصر نضال الشعب الفلسطيني منذ زمن بعيد.
بالمقابل فإن يتم الثورة السورية، وتجاهل عذابات السوريين التي فاقت التصورات، يعود أولا إلى شبكة المصالح الدولية المحيطة بسوريا وبالمتورطين في دعم النظام وعلى رأس هؤلاء: الروس، والإيرانيون. وهو ما حول سوريا والسوريين إلى ورقة على طاولة المصالح الدولية. ولأجل صيانة وجوده عمل نظام الأسدين الأب والابن على تحويل سوريا إلى نظام وظيفي، وجعل من سوريا ساحة لمختلف الأدوار. مصير هذه السياسة لنظام الطاغيتين أوصلت سوريا إلى مصيرها المأساوي البائس.
المكون السوري في الثقافة الإغريقية
السؤال: تستخدم الأساطير اليونانية في قصائدك المكتوبة باللغة العربية، وتجمع قصص وعناصر أوروبية مع الشخصيات والأماكن العربية. كيف جاءت هذه الفكرة وهل هي وسيلة لبناء الحوار بين عالمين؟
الجواب: هذا السؤال مناسبة لاوضح التباسا تجسده عبارة “استخدام الأساطير الإغريقية في كتابة شعر عربي”. المسألة ليست استخدام، او استعارة قوالب أو أقنعة ميثولوجية، مجلوبة إلى العربية من ثقافة أخرى هي الثقافة الإغريقية.
قبل أن أوضح الفكرة عن علاقتي بالمنظومة الميثولوجية الإغريقية، دعني أشير إلى حقيقة أن المتوسط الذي ينتمي إليه السوريون والمصريون والإغريق والرومان وغيرهم، عرف نشاطا تجاريا وعسكريا ودبلوماسيا وثقافيا واسعاً تبادل معه التأثر والتأثير على المستوى الثقافي وذلك منذ وما قبل حملة الاسكندر على سوريا ومصر والعراق وبقية جغرافية الشرق الأدنى (ولكن خصوصاً بعد الحملة) جرى تبادل حتى الآلهة والقصص والرموز الميثولوجية. فنجد إلها سوريا يعبد في تينوس (بوصيدون)، وإلها إغريقيا يعبد في عسقلان (أفروديت)، وإلهة مصرية تعبد في طيبة (إيزيس)، وإلها سوريا يعبد في أثينا (باخوس) وإلها رومانيا يعبد في دمشق (جوبيتر)… ونجد قدموس ابن أغينور ملك صور السوري يبني طيبة ويحمل الأبجدية إلى الإغريق، وأخته أوروبا تعطي القارة اسمها. يقول هوميروس إن السوريين أعطوا الإغريق النجار، والبناء ومضمد الجراح، و “المغني الإلهي” إلى جانب الأبجدية. ونجد تفاعلا رائعا بين الفنيقيين والإغريق. الشاعر ميليا غروس الجداري يغادر حوران السورية ليصبح كبير شعراء الإغريق المقيم في كوس وهو صاحب أول أنطولوجيا في تاريخ الشعر (كتاب الإكليل)، ونجد لقيانوس السميساطي ابن سميساط على الفرات الأعلى يكتب “مسامرات الأموات” ليصبح أحد أهم كتب المحاورات الإغريقية، ونجد الشاعرة السورية إيرينا ابنة جزيرة ديلوس تتوج كواحدة من أقدم شاعرات الإغريق. وتخرج الملكة زنوبيا التي وحدت في العصر الهيلينيستي مصر وسوريا وقسما كبيرا من الأناضول تحت راية مملكتها الشرقية، لتصرح (وهي النبطية/التدمرية أبا وأما) أنها سلسلة كليوباترة، وهي لم تقصد أنها مقدونية من نسل بطلموس ولكنها تقصد أنها تنتمي ثقافيا إلى اللحظة الهيلينستية وقد درست في مدرسة الاسكندرية اللغات المصرية الديموطيقية واليونانية إلى جانب لغتها الآرامية/التدمرية. وقد تبادلت أثينا والاسكندرية الفلاسفة والخطباء والطلاب والطالبات من بقاع الشرق والغرب .
ناهيك عن الأباطرة السوريين مثل كاراكلا والجبالوس وفيليب العربي وجوليا دومنا، والحقوقيين من أمثال بابنيان الحمصي والمهندسين المعماريين الكبار كأبولودور الدمشقي الذي تقوم قائمة أعماله مصورة في المسلة التي بناها للامبراطور تراجان في وسط روما اليوم.
سقت هذا لأقول أن ما أقوم به في شعري هو رد الاعتبار إلى المكون الشرقي في الثقافة المتوسطية، وما المنجز الإغريقي كما أعتقد وكما دلل البريطاني مارتن برنال في كتابه “أثينا السوداء” إلا رأس جبل الثقافة التي انتجتها مدن وممالك سوريا ومصر وبلاد ما بين النهرين.
لدي قائمة كبيرة بالسوريين الذين اتحفوا مكتبات العالم بأعمالهم الفلسفية والعلمية والشعرية والأدبية والحقوقية التي تعتبر اليوم ملكا للثقافة الإغريقية بينما يقف السوريون والعرب عموما غافلين عن هذه الأسماء، ولا يريدون أن يتعرفوا على أصحابها وهم الطبقة الكبرى المؤسسة في إرثهم الحضاري الذي قادهم لاحقاً إلى المسيحية والإسلام.
الإثم السوري
السؤال: خططت الحكومة الإسرائيلية مراراً وتكراراً لتهجير الفلسطينيين من قطاع غزة كحل للمشكلة. السوريون، هجر منهم ما لا يقل عن 5 ملايين، هم اليوم لاجئون خارج بلادهم بينما يسيطر الأسد وحلفاؤه على جزء مهم من سوريا. هناك إنكار لهؤلاء المهجرين، ورغبة في محوهم. وإذا تم ذلك، فما هي الهوية التي تبقى؟
الجواب: تشريد السوريين في العالم على النحو المأساوي الذي وقع للطرواديين في التاريخ المتوسطي القديم، إثم يتحمله إلى جانب النظام السوري ورعاته الروس والإيرانيون أساسا، العالم كله، حكومات وزعماء ونخبا سياسية وفكرية واقتصادية وحتى ثقافية، لكون هؤلاء جميعاً سمحوا بحدوث هذا التهجير الجماعي المهول، وسمحوا قبلاً بموجات القتل في مجازر جماعية طالت المدنيين بما في ذلك استعمال الغاز المحرم وتدمير المدن وحرق الاراضي بحيث لا يبقى لأهل هذه المدن سوى الهروب الجماعي. كما رأيتم ورأى العالم أجمع تلك الموجات الهائلة من البشر اللائذة بأوروبا منذ 2012 مرورا بذروتها 2015-2016، وحتى اليوم.
أنت لن تعود
السؤال: أهديت العديد من القصائد إلى دمشق، لكنك غادرت المدينة منذ 40 عاماً دون أن تعود أبداً. ما هي ذكرى آخر يوم لك في المدينة، وماذا تعني لك هذه المدينة؟
الجواب: اللحظة التي سمعت فيها كلمات أمي وهي تعانقني مودعة: أنت لن تعود. توفيت ولم ترني في دمشق.
بين الضفتين
السؤال: يبدو أنك تستخدم شعرك كشكل من أشكال الحوار بين الشواطئ. لقد عرفت نفسك كشاعر متوسطي. ما هي القضايا التي لم يتم حلها في العلاقات بين الشواطئ الشمالية والجنوبية للبحر الأبيض المتوسط؟
الجواب: ما يشغلني هو الإلتباس الكبير من طرف واحد، حول ما إذا كان الآخر هو نحن. أليس من العبث أن يقف المتوسطي في شمال البحيرة ولا يرى وجهه في مرآة الواقف على الضفة الجنوبية؟ رسالتي الشعرية من الضفة الشرقية إلى الضفة الغربية موجهة أولا إلى الشعراء فهم الاقدر على قراءة الرسالة، والشعراء أقدر من غيرهم على رفع أصواتهم لتكون جسر اللقاء بين الضفتين.
القصيدة لا تفكر بالطريقة التي تفكر فيها خطابات السياسيين المنافقين الذين يتبادلون الكلمات الرنانة عن جمال اللقاء بين الضفتين وهم يخفون وراء ظهورهم السكاكين والبنادق والمسدسات. بهذا المعنى قصيدتي باقة أزهار، ودعوة إلى الحب، فليس ثمة ما ينجي البشر من الهلاك الأيديولوجي سوى عناق بين عاشقين. في الحب لا حسابات أيديولوجية أو مادية.