مقالة رأي: عائشة صبري
في مشهدٍ مهيبٍ استثنائي لا يُمحى من ذاكرة السوريين، تحوّلت الساعة إلى رمز ثوري، ولُقِبت حمص بـ عاصمة الثورة السورية، ليلة التاسع عشر من نيسان/أبريل عام 2011 لتبقى شاهدة على أبشع فظائع نظام الأسد في قمع الاحتجاجات السلمية، حيث تحوّلت دماء المعتصمين إلى سراج أنار طريقَ الثائرين في الجغرافيا السورية.
لم يمرّ يوم الاعتصام مرور الكرام، بل أصبح مدرسة أعطت دروساً لا تكاد تنتهي، فمن أبرز نتائجه كان نسف هالة الخوف التي مارسها نظام الأسد منذ توليه الحكم عام 1970 بما يسمى “الحركة التصحيحية”، فحافظ الأسد وزبانيته على رأسهم شقيقه رفعت ورؤساء أجهزة أمنه ومدراء معتقلاته وسجونه، مارسوا أعتى أنواع البطش والإجرام بحق السوريين خاصة بحق أبناء حماة الأباة، في سبيل قمع الحريات عبر سياسة حكم الحزب الواحد/ حزب البعث العربي الاشتراكي، لتكون دولة مبنية على دماء وأشلاء الشعب، أساسها الظلم، ونبراسها الفساد.
أمَّا النتيجة الثانية، فكانت دحض شماعة الطائفية والتفرقة التي دقّ بها الأسد ناقوس الخطر في قلوب مؤيديه وأبناء طائفته، فتجسّدت مقولة: “الشعب السوري واحد”، حيث شارك في الاعتصام من أبناء المدينة وريفها من كافة الأعمار والطوائف والأديان والأحزاب والفئات المجتمعيَّة، على غرار مشاهد من اعتصام رابعة في مصر مازالت ماثلة للعيان آنذاك، ولم يصل عصر ذلك اليوم إلا وتقاطرت إلى الساحة وفود غفيرة من عدة مناطق وأحياء.
معتصمون من كل الأطياف
لم يجمع أولئك المعتصمون مدرسة محدّدة فقد كان منهم المهندس والدكتور والأستاذ المربي والمحامي ورجل الدين وطالب الجامعة والتاجر والصناعي والكادح، لكن جميعهم مدفوعين بالرغبة للخلاص من الظلم، فالثورة لا تعني فئة دون غيرها فكان منهم المتحزبين وغير ذلك، فقد شارك في الاعتصام شخصيات يسارية وشيوعية ومن الحركات الاشتراكية وممن ينضون في أحزاب هي أعضاء في الجبهة الوطنية التقدمية، كانوا شاهدين على إجرام نظام الأسد فقرروا الانضمام إلى أهلهم.
عند وصولك إلى ساحة الاعتصام ذلك اليوم تُفاجأ بشباب بعمر الورود يقفون على مداخل الطرق المؤدية للساحة، وعلى المدخل الواحد تراهم صفوفاً متوزعين جغرافيا الطريق بطريقة مؤدبة يستقبلك أحدهم ببشاشة وجه وهو يقول لك: “نحن هنا من أجل حمايتكم أريد تفتيشك” ومع كلماته وابتسامته ترى نفسك تلقي روحك بين يديه قائلاً له: “دخيل ربك يا بطل” وتترك له حرية التأكد من عدم وجود سلاح معك، فيدعك تدخل الساحة وهو مبتسم “نحن حريصون عليكم”.
بعد قليل من دخولك الساحة أدى المعتصمون صلاة المغرب ليقوم بعض الشباب بتقديم وجبة طعام للمعتصمين مع الماء والعصائر، ثم ساعدوا المعتصمين بلملمة ما يبقى من أثر طعام، فكانت الصورة في ساحة الاعتصام أكثر من معبّرة عن شعبنا بجماليتها، وكانت الشعارات في الساحة رزينة متوازنة تعبّر عن طيبة السوريين وأصالتهم، وجاءت كلمات من ألقى خطاباً تصبّ في ذات السياق المعبّر عن رغبة الشعب بسوريا الأفضل.
وقائع المجزرة والاستهداف
جو الاحترام والتودّد وطريقة التواصل بين المعتصمين وتناغمهم ودور النخب عندما كانت في الشارع لا على طاولات التفاوض، لم ترق لنظام الأسد الذي كان ضباط مخابراته يراقبون المشهد وهم يمتلؤون بغيظهم وأحقادهم.
إلى أن دوت صرخات جيش الأسد على مكبِّرات الصَّوت تُطالب المعتصمين بفضِّ الاعتصام تُقابلها هتافات “الشعب يريد إسقاط النظام، حريَّة.. حريَّة إسلام ومسيحيَّة”، فجأة وتحديداً عند الساعة الثانية إلا عشر دقائق فجراً توقفتْ عقاربُ ساعة حمص ليطغى صوت الرصاص الجائر على صوت مآذن المساجد التي ضجَّت بـ التكبيرات، وساد رعب كبير في قلوب الجميع.
ووُجه المعتصمون بوابل من النار وإطلاق الرصاص العشوائي الموجه إلى صدورهم ورؤوسهم، وتحولت الساحة فجأة إلى جبهة حرب مشتعلة طرفاها، جيش مسلح ومعتصمون عزل.. ودوت أصوات القتل بشكل لا يمكن تخيل حدوثه مع جموع من البشر بهذه الضخامة والعدد وهذا الاستهداف الدموي… وممن؟ ممن يفترض أنَّهم “حماة الديار”.
بعد الانتهاء من إطلاق النار وامتلاء الساحة بالدماء احتفل عناصر الأسد مردّدين هتافات “يا علي“، كما ردّدوا شعارهم “الله سوريا بشار وبس“، وصباحاً بدأوا بمسح آثار الجريمة النكراء عبر غسل سيَّارات الإطفاء الشوارع من الدَّم الذي فاحت رائحته الزَّكية في كلّ مكان، كلّ شيءٍ كان ساكناً بذهول لا يصدق ما جرى.. حتى الحجارة كانت تبكي.
انعطافة نحو نقطة اللاعودة
مجزرة اعتصام الساعة شكّلت انعطافة كبيرة في مجريات الثورة السورية وسبباً للحاق الكثيرين بصفوفها، وكان لها دور كبير في زيادة الترابط بين المحافظات والانتقال لمرحلة الحراك المنظم، ما أدى لظهور التنسيقيات لاحقاً، فالاعتصام أكد على تلاشي هيبة النظام المجرم وأرعبه بشكل لا يُماثل أيّ حدث آخر من أحداث الثورة المفصلية، وتبيّن جلياً مدى خوف النظام من التحركات العفوية الكثيفة للشارع والتي تكذب رواياته وبيعة السوريين لهم للأبد، وشكَّل انتكاسة قوّية للنظام أمام نفسه وأمام الرأي العام، وحرّك الشارع العربي والعالمي تجاه الثورة السورية ليضعها أمام المجهر الدولي.
لم يكمل الحمصيون حلمهم بإسقاط النظام عبر اعتصام مفتوح مثل اعتصام أشقائهم في ميدان التحرير في القاهرة حينئذٍ، بل انقلب ذلك إلى مأتمٍ مفتوح الجراح، لكن مجزرة الساعة، أشعلت أكثر من أي وقت مضى رغبة الحماصنة بإسقاط النظام، ولم يدفعهم هذا الإجرام للخوف والتراجع، بل انعكس هذا ليخرجوا في مظاهرات ضخمة في 22 نيسان/أبريل 2011 يوم الجمعة العظيمة في معظم أحياء وقرى ومدن حمص يهتفون للحرية وإسقاط النظام، كما دفع السوريين للمشاركة بالثورة بشكل أكبر تضامناً مع حمص.
الاعتصام كان سببه الرئيسي قتل النظام للمتظاهرين، فقد جاء غداة مظاهرة في حي باب السباع بمدينة حمص واجهها النظام بالرصاص الحي موقعاً قتلى وجرحى، سبقها بساعات مقتل أربعة متظاهرين في مدينة تلبيسة شمال حمص خلال تشييع جثمان عمر عويجان الذي أصيب بطلق نار عشوائي من عناصر النظام، فتحوّل تشييعهم إلى اعتصام بساحة الساعة يوم الثامن عشر من نيسان/أبريل 2011، إذ توجه عشرات الآلاف من أبناء حمص إلى المسجد النوري الكبير لتشييع ضحايا مظاهرة حيّ باب السباع وبعد الخروج من المسجد توجّه موكب كبير عبر الشارع الرئيسي لحي الحميدية باتجاه مقبرة الكتيب.
وكان هذا التشييع مهيباً ولم يتكرر خلال الثورة السورية إلاّ نادراً وما يميّزه هو تفاعل أبناء حي الحميدية ذي الأغلبية المسيحية مع المشيعين حيث تواجد أبناء الحي بشكل كثيف على النوافذ وعلى شرفات منازلهم ينثرون الأرز فوق المشيعين وهم يهتفون: حريَّة.. حريَّة إسلام ومسيحيَّة”.
وبعد التشييع والدفن توجّهت الجموع إلى ساحة الساعة الجديدة للتظاهر الذي ما لبث أن تحول إلى اعتصام هو الأول من نوعه في سوريا وتم فضّه بمجزرة، لتتحوّل ساعة كرجية حداد التي تبرعت في منتصف القرن الماضي لبنائها بالقرب من الساعة القديمة التي بناها الفرنسيون منتصف العام 1923 في شارع شكري القوتلي وسط سوق المدينة، من ساعة تدور عقاربها لتضبط الزمن إلى ساعة تضبط عقاربها إيقاع الثورة السورية، ويبني لها الحمصيون مجسمات في أماكن تواجدهم وتشردهم ولجوئهم، تعبيراً عن رمزيتها العالية في وجدانهم، وفي تاريخ الثورة السورية كله.
المصدر: العربي القديم