قبل كل شيء، لا يصحّ تحت أي منطق، تركُ الفرصة للممارسات العنصرية التي تعرّض ويتعرّض لها مواطنونا السوريون على الأراضي التركية، لكي تُحوّل تركيا من حليف إلى خصم.
فكرة كهذه تشبه إطلاق المرء النار على ذاته وعلى مصالحه التاريخية والجيوسياسية الحالية والمستقبلية. إضافة إلى ذلك لا يجوز عقلاً، اعتبار الموقف التركي المستجدّ حول التطبيع مع الأسد، سبباً للتخلّي عن العلاقة الوثيقة مع تركيا، لأنها ليس رهينة مواقف الحكومات ولا تيارات المصالح العابرة والشعبويين والعنصريين.
فأيّ نفعٌ سيعود على السوريين من وراء ذلك؟ وكأنهم بحاجة إلى المزيد من الأعداء في هذا العالم المعقّد ذي الضمير الميّت!
صحيح أن مناشدات السوريين والسياسيين الأتراك للحكومة التركية، بالعدول عن المضي في مسار تطبيع غامض الأفق مع الأسد لم تجد نفعاً. فتركيا ترى أن مصالحها العليا، خاصة في ما يتعلق بمواجهة مشروع حزب العمال الكردستاني PKK وفروعه في سورية الانفصالي، فهي تعتقد أن مصلحة الأسد المفترضة في بسط سلطته على كامل التراب السوري تعني بالضرورة أنه سيود التخلص من قسد ومسد وإدارتها الذاتية، وأن هذا سيكون سبيلاً وحيداً لا تستقيم الحال فيه إلا بتطبيع مع الأسد وشراكة معه للتصدي لهذا المشروع.
لكن من قال إن الأسد مهتم أصلاً ببسط سلطته على التراب السوري، أو أنه مشغول بالسيادة السورية التي برهن مراراً على عدم اكتراثه بها لا من قريب ولا من بعيد؟.
ومن قال إن الأسد، الذي خلق نظام والده ودعم نشوء حزب العمال الكردستاني PKK وزعيمه عبدالله أوجلان، وسلّحه وسهّل عمليات عناصره الإرهابية عبر الحدود السورية التركية، يمكن أن يشعر يوماً بالقلق من تمرّد ربيبه عليه؟
إنه شيء يشبه تعامل الأسد مع الكبتاغون، الذي يصنع على الأراضي السورية ويصدّره إلى دول الجوار والعالم، ثم يجلس مع هذه الدول نفسها للتفاوض حول تخفيف أضرار ذلك المخدر الذي أغرق به شعوب المنطقة.
وهو سيناريو يتكرّر من جديد، كان قد سبق الأسد إليه حين سلّح وسهّل مرور الجهاديين إلى العراق، عبر الأراضي السورية، بعد الغزو الأميركي عام 2003 ثم أخذ يفاوض واشنطن والعراقيين وغيرها على تسليم هؤلاء بعد عودتهم من أرض المعركة، وبعد أن زجهّم في سجونه أو جمع عنهم ما يكفي من المعلومات.
ولكن هل حقاً لا تدرك تركيا ذلك كله؟ أم أن لديها حسابات أخرى تتحضّر لها قبل الانتخابات الأمريكية واحتمال قدوم الرئيس ترامب والجمهوريين إلى البيت الأبيض؟ وأن لعبة الضغط المتواصلة هذه بين الشرق والغرب سوف تمكّن تركيا من الحفاظ على مصالحها، ليس فقط في الشرق الأوسط وسورية، وإنما أيضاً في موقعها في الناتو وعلاقتها مع الأوروبيين.
تركيا تنظر أيضاً إلى سورية، في مرحلة ما بعد طوفان الأقصى، وتتحسّب لما تخطط له إسرائيل لضمان أمنها في اليوم التالي، لا في غزة وحدها وإنما في لبنان وسورية أيضاً، وهذا يجعلها تقارن بين شيطان تعرفه (الأسد) وشيطان لا تعرف عنه شيئاً قد يكون هو شكل النظام الذي من المممكن أن تعمل إسرائيل على تشكيله في سورية لضمان أمنها المنهار بعد أن وصلت علاقتها مع الإيرانيين إلى ذروة صدام ربما لن تكون مضمونة العواقب.
كل تلك الحسابات، بما فيها ما تعرفه تركيا عما يتم التحضير له في شمال شرقي سورية، قد تكون عوامل حاسمة في اختيارها للدخول في سورية (الأسد) كما هي موجودة في سورية (الشمال الغربي) بفعل علاقتها الوثيقة مع المعارضة السورية. وإذا دخلت في المنطقة المحرّمة، باتت جزءاً من اللعبة القادمة، لا مجرّد متفرّج عليها من بعيد.
الآن ماذا عن المعارضة السورية؟
كنا قبل وقت قصير، نبحث عن مواقف قيادية جريئة، وزعامات سياسية سورية معارضة تستطيع قول (لا) أمام ما يعرضه عليها المبعوث الدولي غير بيدرسون وغيره، كما كنا نرفض ما يقوله كلٌ من الائتلاف وهيئة التفاوض، من أن مجرّد إبقاء الملف السوري (المعارض) حاضراً على الطاولة، هو هدف كبير، يجب الالتزام بتحقيقه، لضمان وجود ثنائية (نظام – معارضة) حين يتم تداول الملف السوري في لعبة الأمم ذاتها.
لكن اليوم، ومع التحولات العديدة التي عرضتُ أبرزها أعلاه، بات من المفيد التأكيد على أن هذه المهمة الوظيفية، بصراحة، هي بالفعل مكسب جدير بالحفاظ عليه.
وقتُ قول (لا) قد حان الآن، دون أن يكون ذلك تدخّلاً في قرارات سيادية لتركيا أو غيرها من الدول التي تريد تطبيع علاقاتها مع الأسد لهذا السبب أو ذاك، وبمقابل هذا يجب أن تمتلك مؤسسات المعارضة السورية، وكذلك طيف المؤمنين بالثورة السورية وأهدافها ومبادئها، جرأة الإعلان على أنه ليس من حق أحد أن يفرض على السوريين أن يطبّعوا مع الأسد كما يفعل غيرهم.
لكن ماذا لو فُرض على السوريين أن يمضوا خلف ما يتطلبه تطبيع تركيا لعلاقاتها مع الأسد؟ قد يحصل شيئ كهذا بالطبع، وربما ستكون له انعكاسات ميدانية وتطبيقية عديدة، لكن في ثنايا ذلك يوجد العديد من القطب المخفية التي تصبّ في مصلحة السوريين.
أولاً؛ يجب تثبيت قاعدة لا تخطئ أبداً، هي أن الأسد لن يستفيد من أي تطبيع قد تجريه تركيا معه، مثلما لم يستفد من التطبيع العربي، وهذا يعود إلى بنية نظامه وطبيعته التي لا تقبل أي تغيير قد يتم إدخاله على سلوكه، فهو بقايا منظومة تتحكم بها وببقائها عواملُ عديدة ليست تحت طوع الأسد أو طوع المطبّعين معه، أولها وأكثرها تأثيراً رؤية إيران التي سوف تتضرّر مصالحها ومشروعها حتماً بالانتقال من عهد الميليشيا والعودة إلى الدولة، (أي دولة) في بلد مثل سورية حولّته إلى مستنقع عنفٍ آسنٍ عن سابق إصرار وترصّد.
ثانياً؛ كل ما يمكن أن تطلبه تركيا من الأسد، سيكون مقابل ما ستعطيه إياه، وطالما أنه غير قادر على الوفاء بالتزاماته، فما الذي سيدفع تركيا إلى تقديم عطاءات مجانية بلا مقابل؟ وهذا المشهد سيراه الجميع، بمن فيهم الشعبان السوري والتركي.
إذا أراد الأسد استعادة الشمال الغربي السوري، فلن يعود إليه في يوم وليلة، هناك واقع جديد نشأ في تلك المنطقة، وهذا الواقع لا يحلّه اجتماع بين إردوغان والأسد، ولا سلسلة لقاءات أمنية بين لجان مشتركة، ولا يمكن تفكيكه بقرارات متعجّلة، وإلا تحوّل إلى فوضى شاملة لا يمكن السيطرة عليها. إذاً ستكون هناك معادلة جديدة، قد تعيد الأسد منزوع المخالب، بلا سلطة على المنطقة وعندئذ سيواجه شعبه مجدداً، فهل سيكون بإمكانه مواجهته بالطريقة ذاته التي رأيناها منذ بداية الثورة؟
وفي الوقت ذاته، سيكون الشمال الشرقي قد تحوّل إلى واقع جديد، هذا إذا لم نضع في الحسبان رد الفعل الأميركي على كل ما سيحصل والاشتراطات الأميركية على الأطراف كافة، في حال سمحت كما يقول مسؤولها بنوع من التطبيع بين دمشق وأنقرة.
ثالثاً؛ قد يكون التطبيع التركي مع الأسد، بداية مرحلة لاستعادة الدور التركي في التأثير على العملية السياسية السورية، وهذا إن صحّ، سيعيد تركيا إلى دائرة التأثير الإقليمي مجدداً. وسيحمّل تركيا مسؤولية كبرى لإعادة ترتيب الملف السوري نيابة أو بالتعاون مع الأطراف المعنية به.
إن الثقة بتركيا، أو غيرها ممن يمكن عدّهم حلفاء سياسيين، لا تعني التسليم الأعمى بما يمكن أن يتمخّض عنه التطبيع مع الأسد، بل إن الثقة بمستوى إدراك تركيا المفترض لمصالحها، من جهة، وثبات السوريين على مواقفهم دون تلعثم أو تبعية من جهة أخرى، هي ما يمكن أن يضمن تحقيق قدر كبير مما رفع من مطالب خلال الأعوام الماضية، لا سيما وأن الجميع لا يزال حتى هذه اللحظة يتمسّك بالقرار الأممي 2254 الذي سيعني نهاية شكل النظام الذي يعرفه الأسد ولا يعرف غيره لحُكم سورية، حتى وإن توهّم أنه سيكون بوسعه الالتفاف عليه بتعيين بعض المعارضين في وزارات ومؤسسات الدولة، وهو الحد الأدنى الذي لا يحتمله نظامه المهترئ والحد الأقصى الذي يمكنه تقديمه.
يجب تذكير الجميع أن السوريين لم يطلبوا في أي يوم من الأيام قطع دول العالم لعلاقاتها مع الأسد، بل طلبوا أن تضغط الأسرة الدولية عليه عبر تلك العلاقات، كي يكفّ عن قتل الشعب وتدمير سورية، وفي كل الأحوال، أي تغيير في علاقات الدول مع الأسد، لن يكون في صالح هذا النظام، لأن خرافة الاعتراف من عدم الاعتراف والشرعية ونزع الشرعية التي رسّخها أوباما في أذهان السوريين والعالم، و المقاطعة لم تكن إلا نوعاً من المكافأة التي مُنحت للأسد، كي يستفرد بالشعب السوري هو وحلفاؤه الإيرانيون ثم الروس.
وبالنسبة إلينا، نحن السوريين، الأسدُ فاقد للشرعية من لحظة توريثه الحكم، وقبله والده الذي وصل إلى السلطة بانقلاب على بعث جاء بانقلاب. وكل ما أرادته الثورة السورية أن يكون هناك شرعية شعبية تصنعها الديموقراطية وصناديق الاقتراع، تقوم على المساواة والعدل وتكافؤ الفرص ودولة المؤسسات لا دولة الإرهاب والقبضة الحديدية.
المجبرون على العودة من لبنان إلى نظام الأسد يتم الزج بهم في المعتقلات، ويخرجون موتى أو إلى غرف العناية المركزة حيث يفارقون الحياة بعد التعرّض لتعذيب شديد.
وفي الوقت ذاته يقول فلاديمير بوتين والعراقيون إن لديهم مقاربة يتحدّثون بها مع الأتراك عن التقارب مع الأسد. ولا أحد يعرف ما الذي سوف يحصل إن طالب الأسد، الذي تجري دعوته إلى تركيا بناء على مقاربة الروس والعراقيين اليوم، باستعادة اللاجئين المسجّلين كمطلوبين لدى نظامه، فقد نشهد سيلاً من صور جديدة لا تقل فظاعة عن صور قيصر المريعة.
أما الذي ستواجهه تركيا من عواقب محتملة (بل أكيدة) للتطبيع مع الأسد، فلن يتوقف عند حدود الكبتاغون والخلايا المسلحة العابرة للحدود، ما الذي يملكه سوى ذلك أساساً؟
أخيراً تبقى مواصلة النضال بكل وسيلة ممكنة، من أجل تحقيق ما نادت به حناجر السوريات والسوريين منذ العام 2011 وحتى اليوم، والمطالبة بتحقيق العدالة والمحاسبة على كل ما ارتكب بحق هذا الشعب العظيم من مجازر وجرائم، وظائفُ وواجبات سورية خالصة لا تسقط بالتقادم ولا ينوب، ولا يجدر بنا أن ينوب، عنّا في المطالبة بها أحدٌ.