مخالفاً الصورة المسبقة المشهورة بشأن شخصيته الصاخبة، وموافقاً لسمة كرّستها مواقفه المفاجئة، العصيّة عن التنبؤ بها: “The unpredictable ” كما وصف نفسه فيما مضى، عاد دونالد ترمب إلى المسرح بشخصيته الجديدة.
كاد الرجل يتحدث همساً في مطلع كلمته وهو يعلن قبول الترشّح على بطاقة الحزب الجمهوري، وقد يبدو الهدوء سمةً لا تتعدّى حدود الشكل بمعزلٍ عن المضمون، لكنّ المُراد كان إعادة تقديمه كرجل دولة هادئ المزاج، رئيس مقبل واثق الخطوة، ليكون ذلك منسجماً مع تأكيده على كونه مرشحاً لكل الأميركيين يمدّ يده إلى الجميع، ومبادرته ليكون داعية إلى تجاوز حالة الاستقطاب السياسي الحاد في البلاد وما يرافقها من صخب الخصومة.
وهو تحوّل أعقب حادثةً وضعت حياة ترمب على المحك، وأعادت إلى الذاكرة أحداثاً مشابهة خاضها مشاهير من قبله.
بالنسبة لي شخصياً، استحضر هذا التحول في الخطاب وقائع راقبتها عن قرب بداية الثمانينيات. كنت قد بدأت وقت ذاك الاهتمام بالانتخابات الأمريكية خلال دراستي في جامعة جورج تاون بواشنطن، إذ كانت الحملات الانتخابية مصدراً غنياً لتحليل الاستراتيجيات التخاطبية المتّبعة في الفضاء السياسي والاعلامي الغربي. أولى تلك الجولات بالنسبة لي كانت المنافسة بين الرئيس “جيمي كارتر”، الديمقراطي لولاية ثانية، و “رونالد ريغن” القادم من استديوهات /هوليود/ كمرشح جمهوري.
فاز “ريغن” حينها على أحد ثعالب السياسة الأمريكية المحاط بكسنجر و بريجينسكي.
فاز لا لكونه ممثلاً مشهوراً، بل لأنه كان طبيعياً، سليقياً و متحدثاً بارعاً و مبدعاً حيث وُصف بال“communicator وارتبط الانتصار في الحرب الباردة بإرث إدارته لاحقاً، وقد واكبت نهاية القوة السوفيتية العظمى نهاية ولايته الثانية.
منذ ذلك الوقت، ولأربعة عقود حتى الآن، لم تفتني انتخابات في مطبخ عاصمة القرار، صاحبة القول الفصل في شؤون عالمنا.
يذكر كثر كيف تعرّض ريغن لإطلاق نار أمام فندق الهلتون في واشنطن ونجا بعد انطلاق ولايته الأولى بعام، أي ١٩٨١، وها هو الجمهوري “ترامب” يخوض التجربة ذاتها.
يبدأ خطابه برواية الحادثة، ليتشارك التجربة مع الآخرين من زاوية وجدانية، لا يُطلق الاتهامات، ولا يحمّل خصومه المسؤولية فيما طاله شخصياً، ويحاول أن يبتعد عن عادته في التفاخر بما ينسبه لنفسه من الفضل في أي نجاح، بل يحتفي بشجاعة الجمهور وأن أياً منهم لم يهرب فزعا، ويعبّر عن تأثره باهتمامهم لمصيره ويقول: “رأيت حبهم لي وقلقهم عليّ في عيونهم”، كما بادل الجمهور ذات الاهتمام بتعبيره عن تضامنه مع رجل فقد حياته كان بين الحاضرين وجريحين.
و من الحدث يبدأ حملة انتخابية جديدة عنوانها {أمريكا الموحدة}, وتحديداً اتحادها معه متخلّصة من حالة الانقسام و كوارثه التي تحوم في الأجواء الأمريكية بعد العداء الحزبي المستحكم، و مَيل فريق للفوز بالبيت الأبيض بأي ثمن، حتى ولو كان تفكك أمريكا.
في وصفه الروائي لحادث إطلاق النار، قال: “شعرت ان الله معي، ليحميني”. ثم يعود ويذكر الله ثانية: ” أقف أمامكم الآن بسبب لطف الله ورحمته، الذي أنقذ حياتي”. وفي الثالثة ذكره جامعاً نفسه مع أمريكا وشعبها، عندما قدّم نفسه كداعٍٍ للاتحاد في أمريكا، فقال: “في وقت تفرّقنا فيه السياسة، علينا التذكُّر بأننا أمة واحدة برعاية الله”. وكأنه بتكرار اسم “الله” مرات يقول للناس، إذا كان الناخب الأقوى معي، فمَن سيقف بوجهي.
وعلى غير عادته، عدّد الرجل منجزات فترة رئاسته الأولى على نحو رشيق وسريع، بينما كان أمضى قرابة الساعة في ذلك خلال خطاب حالة الاتحاد قبيل إطلاق حملته الانتخابية السابقة عام ٢٠٢٠.
استعرض انجازاته من اقتصاد مزدهر، وخفض ضرائب، وتطوير عسكري، و وقف للهجرة غير الشرعية، و وضع حد لإيران و روسيا والصين وكوريا، و هزيمة داعش، و إعادة الروح الوطنية للمدارس، و إنفاذ القانون، و إعادة السلام و الاستقرار و الوئام حول العالم.
يتعهد ترمب بإنهاء كل تلك المصائب، ويجدّد موقفه ضدّ تغوّل إيران، يقول إنها “كانت مفلسة” حين تركت البيت الأبيض لينقذها خصومه من الإفلاس، ويذكر كيف وفّرت إدارة بايدن ٢٥٠ مليار دولار لطهران عبر رفع العقوبات، وترك الصين تشتري نفطها لتغذي بها إرهابها ومشاريعها وأذرعها. وفي شأن مجابهته بكين ذاتها يعيد التأكيد “كنت قد أبلغتها بأنها إذا ما اشترت النفط الإيراني، فلن أسمح لها بالتعامل مع أمريكا، وسأفرض ضرائب على بضاعتها ١٠٠٪ أو ٢٠٠٪.
في خطابه الرئيس المقبل ترمب، كما يدعوه أنصاره، التزم نصيحة صديق طلب اليه أن يتجنب “اللغة البذيئة” (No foul language) كما قال، فأضفى شكلاً جديدا على خطابه، ولابد أنه استند إلى ثقة كبيرة في تمكنه من الفوز هذه المرة، فاكتسبت لغته رصانة الواثق.
ببساطة، يشدّد ترمب أن قيادة قوية في البيت الأبيض يخشاها الخصوم والحلفاء على حدٍّ سواء تضمن عالماً أكثر سلاماً في الخارج، وإدارة لا تتواطأ مع سياسيّي واشنطن على حساب الأمريكيين تبشّر بأمريكا أكثر ازدهارا.