أحمد مظهر سعدو-تلفزيون سورية
عندما تم الإعلان عن إقامة انتخابات في شمال شرقي سوريا، أي في مناطق ما يُسمى إدارة الحكم الذاتي التي تسيطر عليها (قسد) و(مسد) وما يدور في فلكهما، والتي كان من المفترض تنفيذها في 11 حزيران/يونيو 2024، كان في منظور تلك القوى/ قوى الأمر الواقع، أن بإمكانها أن تمتد في ذلك باتجاه قيام دويلتها الانفصالية، التي تصبو إليها، وهي التي عملت على أن تصبح أمرًا واقعًا منذ سنوات طويلة. وبعد أن وجدت (حسب تصوراتها) أن المسألة باتت قاب قوسين أو أدنى من التحقق بوجود القواعد الأميركية في تلك المنطقة، وإبان انتصارها (غير المعلن) في حربها ضد انتفاضة العشائر العربية في تلك المناطق، منذ ما يزيد على سنة مضت.
لكن هذا التفكير المتسرع لإجراء انتخابات وقفت في طريقه كثير من العوائق، ولم تستطع هذه القوى (القسدية) أن تنجز الانتخابات التي ستفضي بالضرورة إلى الانفصال، وبناء دولتها الانفصالية الكردية التي كانت مقررة في شهر حزيران/يونيو الفائت، فراحت تعلن التأجيل تلو التأجيل ليكون الموعد في شهر آب/أغسطس 2024، ومع ذلك وقبل أن تصل إلى الموعد المقترح أو المقرر من قبلها، وجدت نفسها في دوامة سياسية ومحلية، وأيقنت أن حساب السوق لم ينطبق على الصندوق، كما يقال، فما كان منها إلا أن راحت تعلن الإلغاء نهائيًا هذه المرة، وليس التأجيل، مستفيدة من تجربة (مسعود برزاني) شمالي العراق، الذي تسرع كثيرًا هو الآخر في إعلان دولته الانفصالية، قبل أن يدرس جديًا وواقعيًا المحيط الإقليمي والدولي، والذي أدى في النتيجة إلى تقويض سياساته في إقامة دولته الانفصالية، ومن ثم إلغاء كل ما نتج عن ذلك.
اليوم، بينما تعيش كيانات (قسد) نفس الحالة أو ما يشبهها في لعبة إقامة الدولة/الحلم، لم تتمكن حقيقة من الغوص عقلانيًا وواقعيًا في جوانية المعطيات الدولية والإقليمية، ولا الوطنية، فما كان منها إلا أن أعلنت الإلغاء. وهذا يعود برأيي لأسباب عديدة نذكر منها:
عدم دراسة ما يمكن أن ينتج عن عملية الإعلان عن انتخابات محلية كمدخل نحو دولة (روج آفا) المفترضة، والعبث في الواقع الإقليمي بلا وعي ولا حنكة سياسية، بل عبر مزيد من الجهالة والفهم الخاطئ للواقع الإقليمي والدولي.
لقد غاب عن مخيال من سولت له نفسه الإعلان عن قيام انتخابات تفضي إلى الانفصال، أن (قسد) ومن يدعمها، وما تقوم عليه، لا تشكل العدد السكاني الأكثري في تلك المناطق. وليست محافظة دير الزور ولا محافظة الرقة ولا مدينة البوكمال، وكل ما حول ذلك من أرياف إلا أغلبية سكانية عربية، لن تقبل بهيمنة الأكراد ولا سواهم على منطقة لا يشكل الأكراد فيها سوى الأقلية العددية وليس الأكثرية الديمغرافية.
أما الدولة التركية التي تحد (روج آفا) المتخيلة عبر مئات الكيلومترات، فما زالت تنظر إلى الكيان الكردي المرتقب على أنه سيشكل خطرًا يوميًا كبيرًا ويهدد أمن تركيا، كما هددها سابقًا. ولعل العديد من العمليات العسكرية التركية التي قامت بها الدولة التركية على تلك المناطق، ومنها عملية (نبع السلام)، تشكل رؤيا استشرافية تركية مهمة وضرورية لتقويض أي كيان قد يهدد الأمن القومي التركي، حتى لو كان ضمن حماية أميركية. وخاصة أن من يقوده كان وما زال تنظيم (بي كي كي) الإرهابي، والمصنف دوليًا على هذا الأساس، والذي تعتبره تركيا خطرًا حقيقيًا يوميًا وأمنيًا على دولتها. ومن ثم فإن تركيا لا يمكن أن تسمح بقيام مثل هذا الكيان مستقبلًا قبل الحصول على ضمانات جدية بعدم المساس بأمن تركيا، وهو ما لا تقدر أي جهة في الوقت الحالي على الوفاء به بوجود تنظيم (بي كي كي).
علاوة على ذلك، فإن الإسراع التركي مؤخرًا على وصل ما انقطع من علاقات مع النظام السوري كان في أولى أولوياته مسألتين اثنتين: أولاهما إنهاء (قسد) و(بي كي كي) وتوابعهما وكبح جماح الخطر الإرهابي المقبل عبر تلك الحدود القريبة منهم. والثانية كانت مسألة عودة اللاجئين السوريين إلى أراضيهم. ولعل قيام دولة انفصالية شمال شرقي سوريا لن يسمح بعودة الأكراد السوريين المهجرين من قبل (قسد) إلى تركيا، ولا بعودة العرب من أهل تلك المناطق الموجودين كذلك على الأراضي التركية.
كما أن السماح بقيام دولة كردية شمال شرقي سوريا، من الممكن أن يحرك أكراد جنوب شرقي تركيا نحو مزيد من العمليات الإرهابية، تهيئة لقيام كيانات مماثلة، وهو ما لا تسمح به تركيا ولا حتى أميركا حاليًا.
ولقد عجزت (قسد) أيضًا على انتزاع موافقة الأميركيين على مثل هذه الانتخابات، التي ستفضي إلى قيام الدولة الكردية المفترضة. حيث تجد أميركا أن الأجواء ما زالت غير مواتية لإنجاز ذلك، وقد يفجر هذا الفعل الأوضاع في المنطقة أكثر فأكثر.
كما أن روسيا والنظام السوري، ومعهم إيران، لم يوافقوا على تحقيق ذلك، واعتبروه يمس بالسيادة السورية الهشة والمنفلتة من كل عقال، وقد يؤدي إلى مزيد من التشظي والانفلات، وعدم السماح بتحقيق المصالح الإيرانية أو الروسية ضمن واقع دراماتيكي غاية في الصعوبة في سياق الصراع المتسع خلال السنة الأخيرة، أي بعد حرب قطاع غزة وما تركته من تداعيات على المنطقة، وما يمكن أن تتركه اتساعًا أو امتدادًا أكبر وأكثر.
لكل هذه الأسباب والمسببات، كان على (قسد) ومعها قوى الأمر الواقع أن تعلن على الملأ إلغاء هذه الانتخابات، من خلال نصيحة أميركية وروسية، والتعويض عنها بمزيد من إجراء وتكثيف حوارات كردية/كردية، ما زالت أميركا تعول عليها وتشجع (قسد) على إقامتها، من أجل لم صفوف الأكراد وإعادة اللحمة بينهم، بدلًا من إحداث مزيد من حالات الشرخ الشاقولي الذي يقوض الكثير مما بدأته أميركا في تلك المنطقة مع الأكراد، وهي التي ما انفكت تعبث بمستقبل كل السوريين، خاصة في شمال شرقي سوريا، وليكون وجودها هناك بمنزلة (مسمار جحا) الذي لا ينفك في إنجاز وتحقيق المصالح الأميركية أولًا.