قلّلت القيادة المركزية لحزب البعث العربي الاشتراكي الحاكم في سوريا من أهمية التسريبات الإعلامية التي تحدثت عن فساد مالي يُقدّر بعشرات مليارات الليرات السورية في مؤسسات الحزب وأجهزته المختلفة. ووصفت هذه القيادة في بيان صدر عن مكتبها الإعلامي أمس الجمعة، ما يجري، بأنه “مراجعة وتدقيق مالي روتيني”، مستنكرة التذرّع بمثل هذه المراجعة للنيل من موقع الحزب ودوره.
تسريبات الفساد
وكشفت مصادر في القيادة المركزية لحزب البعث لـ “النهار العربي”، أن التفتيش الحزبي يقوم بعملية مراجعة وتدقيق شاملين في سجلات القيادة المركزية، ضمن الخطة الاستراتيجية لمكافحة الفساد داخل الهيكل السياسي التنظيمي الرئيسي للدولة، التي وجّه بها الأمين العام للحزب الرئيس السوري بشار الأسد في اجتماعه الأخير مع قيادة اللجنة المركزية السابقة للحزب، ومن ثم حث القيادة الحالية للحزب على الاستمرار فيها، وفق ما ورد في تقرير لموقع “هاشتاغ سوريا” الموالي للحكومة السورية.
وشملت عملية التدقيق، ومن ثم التحقيقات الرسمية، أملاك الحزب من عقارات ومركبات، ثم الصرفيات المالية وبعض استثمارات الحزب مثل “جامعة الشام الخاصة”.
وبحسب المصادر، أوصت لجنة التفتيش الحزبي بمعالجة الخلل الإداري الحاصل في توزيع المساكن، وتمّ إخلاء العشرات من القاطنين فيها بعد أن شغلها أشخاص غير مستحقين، بموجب توجيهات “شفوية” من القيادة السابقة للحزب، تبعاً لعلاقات شخصية ونفعية، وبعيداً من المعايير المهنية التي تحقق العدالة. والأمر نفسه ينسحب على عشرات السيارات التي كانت موزعة على أشخاص بعضهم من خارج الجهاز الحزبي، وكبّدت موازنة الدولة خلال السنوات الفائتة خسارات مالية كبيرة، من دون حسيب أو رقيب.
وأكّدت مصادر مطلعة على سير التحقيقات، التي بدأت في تموز (يوليو) الفائت، أنها كانت مشتركة بين التفتيش الحزبي ووزارة الداخلية، وأسفرت عن القبض على مدراء نافذين في قيادة الحزب، منهم مدير المكتب المالي ومدير المكتب الفني ومدير الشؤون القانونية، لتصل التحقيقات إلى اعترافات طالت نافذين في قيادة الحزب وخارجه، مكّنت جهات التحقيق من كشف فساد مالي وهدر للمال العام يُقدّر بعشرات المليارات.
فساد ملياري
وأضافت المصادر لـ”النهار العربي”، أنه أمكن استرجاع مئات آلاف الدولارات فور المباشرة في التحقيقات، فيما يتمّ إحصاء الكثير من حلقات الفساد وأماكن توطينه والتدقيق فيها حتى اللحظة، موزعة بين أموال الحزب وصفقات خارج العمل الحزبي تمّت بناءً على سلطة النافذين في الحزب.
على صعيد موازٍ، وضمن كيانات الحزب المالية، بوشرت التحقيقات في الصرفيات المالية لـ “جامعة الشام الخاصة”، لتطال مدراء كباراً في الجامعة، ورئيسي الجامعة الحالي والسابق، وحلقات الترابط بين الجامعة وقيادة الحزب، ليتبين وجود فساد “ملياري” في مشتريات الجامعة من آليات نقل وكراس لعيادات طب الأسنان التي بلغت فواتيرها ملايين الدولارات. كما تمّ اكتشاف “ودائع شخصية” في المصارف لكتل كبيرة من الأموال التابعة للجامعة، للاستفادة من فوائدها.
وأكّدت المصادر أن التحقيقات مستمرة، وأوصى المحققون بالحجز على أموال بعض المشتبه فيهم ومنع سفر آخرين بعد توقيف المتورطين الرئيسيين. وتبقى التحقيقات سرّية، كونها لم تصل بعد إلى بعض المتورطين “النافذين” جداً.
وتجدر الإشارة إلى أنها المرّة الأولى في تاريخ حزب البعث العربي الاشتراكي الحاكم في سوريا التي تُحاسب فيها قيادات على هذا المستوى أو تطالهم تحقيقات فساد، خصوصاً أن هؤلاء تشدقوا دائماً بالوطنية، وأطلقوا صكوك انتماء وتخوين وفقاً لمصالحهم الشخصية.
ردّ الحزب
أكّدت القيادة المركزية في حزب البعث العربي الاشتراكي أنه من غير المقبول الاتكاء على تدابير روتينية معتادة يقوم بها الحزب، وتحويلها إلى فرصة رخيصة للنيل من سمعته والتطاول على مكانته ودوره المشرّف في مختلف جوانب الحياة السورية، وفق ما نقلت وكالة “سانا” الرسمية.
وقال المكتب الإعلامي للقيادة المركزية لحزب البعث العربي الاشتراكي في بيان: “تناقلت بعض صفحات التواصل الاجتماعي خلال الساعات الماضية خبراً عن عمليات مراجعة وتدقيق في أملاك الحزب واستثماراته خلال فترة عمل القيادة المركزية السابقة، ورغم أن قيادة الحزب لا تنفي قيامها حالياً بمثل هذه الإجراءات، كما هو متعارف عليه دورياً في ما يخص سجلات الحزب وصرفياته المالية السنوية، وكما هو الحال أيضاً في كل المؤسسات الحزبية والإدارية والاقتصادية والإعلامية في سوريا وغيرها من بلدان العالم، إلّا أن من المفيد التذكير بأنه من غير المقبول الاتكاء على تدابير روتينية معتادة وتحويلها إلى فرصة رخيصة للنيل من سمعة الحزب والتطاول على مكانته ودوره المشرّف في مختلف جوانب الحياة السورية”.
وأضاف البيان: “طالما أن الحزب يمارس التدقيق والمحاسبة، فلماذا كل هذه الضجّة المفتعلة بما تحمله من نية مسبقة للشخصنة من جهة، والإساءة المقصودة لمؤسسة الحزب ككل من جهة أخرى؟”، متسائلاً، لماذا هذا الاستغلال الدنيء الذي يخفي وراءه نوايا غير نقية ومشكوكاً فيها، وكأن هناك من يعتاش على استمرار كل المظاهر السلبية والفاسدة التي استفحلت خلال سنوات الحرب على سوريا”.
وختم البيان: “بالفعل، فإن لجنة الرقابة والتفتيش الحزبية تعكف اليوم على التدقيق في حسابات وأملاك واستثمارات الحزب وفقاً لأحكام اللوائح الداخلية، وبالتعاون مع الجهات والمؤسسات الرسمية المعنية، وهي عازمة على السير بمهمتها الموكلة بها إلى النهاية، رضي البعض بذلك أم استشعر المتقولون خطر المبادرة إلى معالجة التجاوزات القائمة مهما كانت هوية مرتكبيها”.
تعليقات وردود
وصف غسان جديد، الناشط السوري المعروف بملاحقته قضايا الفساد وفضحها على صفحته بمنصة “فيسبوك”، التسريبات وما تلاها بأنها “محاولات لتبييض صفحة الحزب الحاكم باستعراضات لا أهمية لها عند مواطن جائع”.
وأضاف جديد: “يقال إن التحقيقات كشفت سرقات وفساداً بالمليارات، أبطالها في قيادة حزب البعث القائد للدولة والمجتمع… طبعاً، والمحققون هم البعثيون أنفسهم”.
وتساءل: “ما هذا الهراء؟ من سيحاسب مَن وكّلهم شهوداً على الفساد وتخريب المجتمع والوظيفة العامة وإيصال المنافقين والفاسدين إلى مفاصل الدولة منذ 50 سنة؟”.
وألمح الإعلامي السوري المعروف نبيل الصالح إلى إحدى الشخصيات التي تطالها التحقيقات بالفساد من دون تسميتها، مكتفياً بإطلاق لقب “بدر الدجى” عليها، ويُعتقد أنه يقصد شخصية قيادية من الصف الأول.
وكتب صالح في زاوية “شغب” بموقع “الجمل” الذي يديره: “اللهمّ لا شماتة بعدما غاب (بدر الدجى) في المحاق وانمحق! ولكن الرجل آذى الكثير من السوريين الصالحين، وأذكر انه استخدم كتلة البعث في مجلس الشعب لمهاجمتي في عام 2019”.
وأضاف صالح: “لقد سبق وقلت في وقت متقدّم من هذا العام في محاضرة اتحاد الكتّاب التي أثارت نقاشاً قوياً حول ضرورة تخفيض هيمنة الحزب على المؤسستين التنفيذية والتشريعية، حيث أن الإستبداد منتج للنفاق والفساد. وقد حرّك بدر الدجى في حينه بعضاً من المحللين الخنفشاريين ضدّي وهاجموني بوصفي أمثل دور أبي جهل في دار الندوة”.
يُشار إلى أن سوريا احتلت المرتبة الأولى في قائمة مؤشر الفساد العالمي لعام 2023، وفقاً لتصنيف “منظمة غلوبال ريسك” الذي يرصد حالتي الشفافية والفساد، في 196 دولة حول العالم.
وأشار تقرير سابق لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي ومركز العمليات الانتقالية الدستورية في نهاية عام 2022، إلى أن الإحباط المتنامي بسبب الفساد في سوريا كان أحد الأسباب الكامنة وراء الثورة السورية في عام 2011.
وذكر التقرير الأممي، أن بشار الأسد، وعلى غرار أبيه الراحل حافظ الأسد، قام بشراء الولاء عبر منظومة محكمة من المحسوبية العائلية وجماعات المصالح، يُضاف إليها اليوم أمراء الميليشيات أو “الأثرياء الجدد”.