أسامة آغي
إشكالية الثورة السورية منذ تفجّرها في ربيع العام 2011 أنها لم تستطع بلورة إطار عملٍ ثوري واحدٍ، هذا الإطار، كان ضرورة تاريخية لتنسيق الحراك الثوري السلمي آنذاك، إذ بدونه وجدت الثورة نفسها غير قادرة على قيادة الحراك نحو أهداف سياسية، منها من يقع في خانة التكتيك أي “الأهداف القريبة القابلة للتحقق”، ومنها من يقع في خانة الرؤية الاستراتيجية لسورية الجديدة بعد الانتصار سياسياً على نظام الاستبداد الأسدي.
غياب إطار العمل الثوري المركزي رافقه غياب لأذرع الثورة وبرنامج عملها، فالثورة لم تمتلك ذراعاً سياسية واحدة تمثّل الطيف الوطني السوري الشامل، وفي نفس الوقت، يكون لديها برنامج عمل واضح الأهداف، وتكون شعاراتها السياسية التي يهتف بها المتظاهرون مشتقةً من برنامج العمل المذكور.
غياب إطار العمل الثوري المركزي غابت معه القدرة على تشكيل ذراعٍ إعلامية واحدة، تمارس خطابها الإعلامي من خلال الأهداف التي يتضمنها برنامج العمل السياسي الوطني، وهذه الحالة، لا تزال مستمرة حتى يومنا هذا، ويقف خلف ذلك الدافع الإيديولوجي الذي يحاول أصحابه ألا يظهر علانيةً، فالوطنية أوسع من أي إيديولوجيا، ولذلك بدا الخطاب الإعلامي العام لقوى الثورة وكأنه منابر مختلفة تعمل على تحقيق رؤاها الإيديولوجية المحضة.
إن غياب إطار العمل الثوري المركزي الموحد، فتح الأبواب أمام تدخلات إقليمية متعددة ومختلفة، هذه التدخلات، لم تنتصر منذ البداية لأهداف الثورة الرئيسية، ونقصد “إسقاط النظام الأسدي” و”بناء دولة المواطنة الديمقراطية”، بل انتصرت لجعل الثورة السورية قيد مربعها الجغرافي، معتمدة على معادلة ذات بعد طائفي، (سنّي / علوي) أول الأمر، ثم تصوير الأمر على أنه محاولة من الأكثرية الديمغرافية “السُنّة” للهيمنة على باقي المكونات السورية الإثنية والدينية والطائفية. وكان الهدف من ذلك أن تحترق الثورة ومهامها التاريخية في لهيب صراعاتها الداخلية المبنية على مفهوم الطائفية لتصويرها لاحقاً أنها حربٌ أهلية وليست ثورةً عظيمةً.
كذلك فإن غياب إطار العمل الثوري المركزي، وعدم وجود برنامج مرحلي واستراتيجي تجمع عليه قوى الثورة، هو من سمح بإطالة عمر النظام الأسدي واستمرار المأزق التاريخي الذي تعيشه سورية. هذا المأزق، يتمثّل بتغيّر محتوى الصراع الداخلي إلى صراعٍ انخرطت فيه قوى إقليمية ودولية، مما جعل أهداف الثورة تتراجع لتتقدم بدلاً منها مصالح القوى المنخرطة في الصراع السوري.
وفق هذه الرؤية، يمكننا التساؤل: هل يمكن بعد مرور ثلاثة عشر عاماً ونيّف على تفجّر الثورة السورية، ووجود قيادة سياسية لقوى الثورة والمعارضة “الائتلاف الوطني السوري” المعترف به من الأمم المتحدة ومن المجتمع الدولي، إضافة إلى تدخلٍ عميق وفاعل في كل المناطق السورية من قبل قوى إقليمية ودولية لها وجود عسكري فاعل على الأرض السورية، هل يمكن فعلياً بناء إطار عمل ثوري مركزي فاعلٍ في منطقة الشمال السوري المحرر؟ هل يمكن بناء ما أطلق عليه أصحاب “اعتصام الكرامة” (هيئة عليا للثورة)؟
الجواب الحقيقي على هذه التساؤلات يكمن في قدرة أصحاب “اعتصام الكرامة” على فرض رؤاهم الثورية وإطار عملهم السياسي على القوى الفاعلة في الشمال السوري المحرر.
فهل يستطيعون أن يفعلوا ذلك؟ وأن يجعلوا فصائل الثورة السورية المنضوية تحت جناح وزارة دفاع الحكومة المؤقتة تأتمر بأمرهم؟ هل تكفي شعاراتهم الثورية وخطتهم الذاتية على بناء هيئة عليا للثورة فاعلة وحقيقية في ظلّ واقع يعيشه السوريون في شمالهم المحرر أو في باقي المناطق السورية الأخرى؟ وهل يستطيعون فعلياً إلغاء مؤسسات الثورة المعترف بها دولياً؟ هل لديهم القدرة على إقناع القوى الدولية الفاعلة على أنهم ممثلو الحاضنتين الشعبية والثورية السورية؟
لا بل هل لديهم القدرة على تجاوز القوى الاجتماعية في الشمال السوري وحلّ المجالس المحلية الحالية؟
الجواب على كل هذه التساؤلات وغيرها يجب أن يكون مقنعاً، وأن يكون قد أخذ بالحسبان توازن القوى السياسية والعسكرية والاقتصادية والاجتماعية في المناطق المحررة، ويجب حساب أثر مثل هكذا مطالب أو مبادرات أو محاولات للعمل “الثوري” على وحدة قوى الثورة وحاضنتيها الشعبية والثورية.
هل الشعارات مرتفعة القيمة الثورية لغوياً قادرة على لي عنق الواقع وجعله يستجيب لها؟، هل غفل أخوتنا في مبادرة “اعتصام الكرامة” على أن أي صراع سيحدث في الشمال المحرر سيضعف وحدته وقدرته على مواجهة نظام الأسد أو قسد؟ إنها دعوة إلى مزيد من تشظّي قوى الثورة والمعارضة، وهي دعوة لن تستطيع تحقيق أهدافها كما تخيل قادتها.
إن من يسعى إلى الخلاص من نظام الاستبداد عليه أن يوحد الجهود بهذا الاتجاه، لا أن يفترض أنه الثوري والباقي متخاذلون وخونة، إن الدعوة الصحيحة إلى تطوير قدرة قوى الثورة والمعارضة على مواجهة محاولات إخضاعها لمعادلات سياسية لمصلحة قوى إقليمية أو دولية على حساب القضية السورية، يكمن في حشد التأييد الشعبي الواسع لها، وتوسيع المشاركة الشعبية في صنع القرار، وليس محاولة هدم مؤسسات قوى الثورة المعترف بها لصالح مؤسسات متخيلة أنها ستكون البديل الذي “سيخرج الزير من البير”.
إن مصلحة قضية الثورة السورية في ظل موازين الصراع الداخلية والإقليمية والدولية الحالية تكمن في الضغط الشعبي على تعميق وتوسيع دور الحاضنتين وتمثيلهما في أطر الثورة، وتكمن في ضرورة دعوة الائتلاف الوطني السوري إلى التصدي لمسالة حوكمة الشمال السوري وتفعيل عمل الحكومة المؤقتة من خلال الطلب والإلحاح على الحليف التركي من أجل المساعدة في ذلك منعاً لأي اضطرابات أو محاولات من النظام الأسدي أو ميليشيا قسد للعبث بهذه المناطق.
إن الدعوة إلى تشكيل “هيئة عليا للثورة” كانت دعوة صحيحة في السنوات الأولى للثورة السورية، وإنها دعوة غير قابلة على العيش في ظل الظروف المتحكمة بالقضية السورية ومسارها في المرحلة الحالية، ولذلك، تبدو دعوة أصحاب “اعتصام الكرامة” إلى تطوير عمل بنى مؤسسات الثورة أكثر صحةً وإيجابية وإمكانية على التحقق من مطلب إلغاء الائتلاف الوطني ومؤسسات الثورة، هذا الائتلاف جاء في سياق الصراع تلبية لتنفيذ استحقاق الحل السياسي بصورة عامة كممثل لقوى الثورة السورية، ومن أجل أن يكون الندّ المقابل للنظام الأسدي من أجل التفاوض على تنفيذ القرارات الدولية وفي مقدمتها القرار 2254.
بقي أن نقول: إننا معنيون بالقول بضرورة وحدة مكونات قوى الثورة والمعارضة ولو على مستوى الحد الأدنى، وإننا معنيون بالإشارة إلى خطر العبث بأطر مؤسسات هذه المكونات، مع الإصرار على ضرورة توسيع المشاركة الشعبية والثورية في صنع القرار الثوري، وضرورة تغليب لغة النقد الحقيقية على لغة الهدم والتشظي.