حسن النيفي-تلفزيون سوريا
هل جسّد الحراك الشعبي عودة إلى الحالة الصفرية؟ نعم، لعلها كذلك، بل ربما كانت تلك العودة هي السبيل الوحيد المتاح أمام جمهور الثورة الذي لا يملك أمام سطوة النفوذ الدولي وأدواته المتمثلة بسلطات الأمر الواقع سوى إرادته وصوته، تماماً كما كانت انتفاضته إبان انطلاقة الثورة في آذار 2011.
بل يمكن التأكيد على أن العودة إلى التظاهر في ظل الظرف الراهن تحمل معها المزيد من التحدّيات التي ربما تفوق طاقة الجماهير المنتفضة، ولكن على الرغم من ذلك يبدو أنها المعركة الوجودية الأهم في قناعة الكثير من جمهور الثورة. ولئن كان التظاهر هو السبيل الوحيد المتاح للدفاع عن الحقوق، بل للدفاع عن التخوم الأخيرة لما تبقى من الثورة، فلماذا لا يتظاهر الناس؟
في سياق موازٍ لتصاعد الحراك الشعبي سواء في جنوب البلاد أو في شمالها، كانت أنظار السوريين تتجه نحو الضفة الأخرى من المشهد النضالي السوري، أعني الضفة التي ترسو عليها النخب السورية الفكرية والثقافية والسياسية. وربما راح كثير من السوريين، بمن فيهم المشاركون بالحراك، ينتظرون الدور الذي يمكن أن تسهم فيه النخب، باعتبارها – وحدها – القادرة على أن تجسّد حاملاً سياسياً وفكرياً لموجة الحراك السوري الجديد، فضلاً عن كونها الطرف المنوط به الانتقال بالتظاهرات من طورها العفوي الثوري إلى طور المواقف السياسية ذات المطالب والمحددات.
بعد سخونة الانتظار وتداخل واختلاف التوقعات، جاء الردّ النخبوي، ولكنه جاء مُفصحاً عن توجهات مغايرة، بل ربما كانت مباغتة للكثيرين، وفي مقدمتهم جمهور المتظاهرين. لم يكن الردّ النخبوي مكتوباً أو منشوراً عبر بيانات تحمل أسماء الموقعين عليها كما العادة، وكذلك لم يأتِ من خلال تصريحات أو مواقف إعلامية عابرة، بل جاء من خلال ندوات وخلاصات بحثية وفكرية كانت ثمرة لجهود ومساعٍ استغرقت وقتاً من التفكير والعمل لدى أصحابها. إذ يمكن تصنيف تلك الردود النخبوية في مستويات ثلاثة:
خروج السوريين من أزمتهم مرهون بقدرتهم على (تصنيع النخبة) التي ستتولى إنتاج الفكر والسياسات والتخطيط والبرامج.
أولاً – المستوى الفكري (التنويري):
خلال شهر أيار الفائت، أقام منبر (ندوة وطن) ندوة حوارية بعنوان: (سبل الخروج من أزمة النخبة) شارك فيها عدد من أبرز المثقفين والمهتمين بالشأن العام من السوريين. وكانت معظم المداخلات والحوارات تحاول التصدي لسؤالين: يتمثل الأول في التشخيص المعمّق لعلائم المعضلة السورية. أما الثاني فيتمثل في كيفية الخروج من الأزمة. وعلى الرغم من تنوع الآراء واختلافها، إلّا أنه يمكن الركون إلى رأي سائد أو قناعة يركن إليها الأكثرية، يمكن إيجازها في أمرين اثنين:
أ – المآلات المأساوية للحالة السورية وحالة الاستعصاء المزمن في سيرورة الثورة تعود إلى عوامل ذات صلة ببنية المجتمع السوري الذي يفتقد إلى أي رابط من روابط الإجماع المجتمعي. فهو مجتمع مفكك تغيب عنه مفاهيم الوطنية والمواطنة والعلمانية والديمقراطية، ومنهم من رأى في الإسلام مصدراً من مصادر العطب المجتمعي الذي سيبقى كابحاً حقيقياً أمام الخروج من الأزمة. فالمجتمع السوري – وفقاً لذلك – هو عبارة عن شعب (مُعفّن) لا يمكن التعويل عليه في عملية التغيير المنشود.
ب – خروج السوريين من أزمتهم مرهون بقدرتهم على (تصنيع النخبة) التي ستتولى إنتاج الفكر والسياسات والتخطيط والبرامج.
وغني عن البيان أن حركة التظاهرات الجديدة لم تنل من المشاركين في تلك الندوة الاهتمام اللازم، بل ثمة إشارات من عدد من المشاركين توحي بلامبالاة واضحة، باعتبار أن الحراك حالة شعبوية ربما تلبي حاجة نفسية أو عاطفية لدى البعض، لكنها تبقى تدور في فضاء عدمي.
فالشعب السوري – وفقاً لأكثرية المشاركين بالندوة – يحتاج إلى مسار تنويري حتى يبلغ مرحلة النضج. وربما اعتقد البعض – ضمناً – أن السوريين يتحملون جريرة كبيرة لأنهم انتفضوا وأطلقوا ثورتهم على غرار ثورات الربيع العربي في بلدان عربية أخرى.
ثانياً – مستوى البحوث والدراسات:
ثمة حادثتان صدمتا الوعي العام السوري، وبخاصة جمهور الثورة. تجلّت الأولى بصدور كتاب (التغريبة السورية – الحرب الأهلية السورية وتداعياتها المجالية والسكانية 2011 – 2020) للسيد سامر بكور، الباحث في مركز حرمون. وذلك على إثر الإعلان عن ندوة حول الكتاب المذكور في شهر تموز الماضي، ولكن ردود الفعل من جانب جمهور الثورة كانت شديدة السخط. إذ إن إطلاق مصطلح (الحرب الأهلية) على ما يجري في سوريا هو امتهان لثورة السوريين واستخفاف بتضحياتهم، فضلاً عن الخطل العلمي للمصطلح وفقاً للرافضين لتلك التسمية والساخطين عليها.
وتتجلّى الحادثة الثانية بالإعلان عن علاقة تنسيق وتشبيك بين مركزين بحثيين (جسور – أبعاد) اللذين يرأسهما ويديرهما السيد محمد سرميني، الذي كشف عن زيارات عمل قام بها إلى طهران والعراق، ولقائه مع قادة ميليشيات طائفية أوغلت في قتل السوريين وما تزال تساند بكل ثقلها نظام الأسد، فضلاً عن زيارة لكادر بحثي من جسور وأبعاد إلى بغداد والتقاط صور تذكارية ضمن المربع الأمني أو المنطقة الخضراء.
لعل هاتين الحادثتين دفعتا العديد من جمهور الثورة إلى إعادة النظر في شأن مراكز البحوث والدراسات من جهة الدور الذي يمكن أن تقوم به تلك المراكز البحثية وتداعياته على القضية الوطنية، وخاصة أن المراكز المشار إليها منحازة للثورة السورية وليست محايدة.
لعله من الصحيح أن الردود النخبوية الثلاثة (المفكر والباحث والأديب) لم يكن ليجمعها إطار واحد، لا على المستوى العملي ولا التنظيمي، وكذلك لم يكن ثمة شكل من أشكال التنسيق بين سياقات فعالياتها وأنشطتها.
ثالثاً – المستوى الأدبي والإبداعي:
نشر خطيب بدلة مقالاً بتاريخ 18 – 8 – 2024 في صحيفة (عنب بلدي) بعنوان: (لماذا لا نصالح إسرائيل)، يوبخ فيه الكُتاب السوريين لأنهم قبلوا بالمستعمر العثماني طوال 400 عام، ولكنهم لم يقبلوا بالمستعمر الصهيوني. والسبب وفقاً للكاتب، لأن المستعمر الأول مسلم، والثاني يهودي. وقد سبق أن قام الكاتب نفسه في مقالات سابقة بتوبيخ السوريين أيضاً لأنهم لم يصالحوا بشار الأسد، واكتفوا بترديد الشعارات الشعبوية التي تطالب بإسقاط النظام الحاكم في دمشق. ولعل الأمر الأكثر نصاعةً لدى خطيب بدلة هو أنه مهجوس بتفكيره الرامي إلى تبرئة أقذر كيانين إجراميين في العصر الحديث، أعني الكيان الصهيوني والأسدي، تزامناً مع حرصه وإصراره على النيل من الضحية والإمعان في الانتقام منها، وكأن بدلة يريد أن يوهم الناس بأن إسرائيل وبشار الأسد، كليهما فاتح ذراعيه للسلام، وكلاهما يسعى إلى الاستجابة لصيحات الحق وإعادة الحقوق إلى أصحابها. بل كأنه يريد أن يخفي تاريخ كيانين غاصبين، ارتبط نشوْءُهما بالممارسة الممنهجة للإجرام الذي بات الشرط الضامن لاستمرارهما.
جدير بالذكر أن خطيب بدلة كاتب قصصي كرّسه الإعلام الأسدي طوال عقود مضت على أنه من كتّاب القصص الساخر المميزين. وعلى الرغم من ادّعائه العداء الشديد للسلطة، إلّا أن الرجل كان محسوب الخاطر، وكانت جميع المنابر الأدبية والثقافية الرسمية مشرعة أمامه. وفي عام 2012 أصبح عضواً في قيادة الثورة (الائتلاف) حتى عام 2016.
لعله من الصحيح أن الردود النخبوية الثلاثة (المفكر والباحث والأديب) لم يكن ليجمعها إطار واحد، لا على المستوى العملي ولا التنظيمي، وكذلك لم يكن ثمة شكل من أشكال التنسيق بين سياقات فعالياتها وأنشطتها. ولعله من الصحيح أيضاً أن اختيارها كمنتَج نخبوي مناهض لحركة الحراك الشعبي، لهو أمر لا يخلو من الانتقائية. ولكن على الرغم من ذلك، فإن ما تجسده هذه النماذج من حراك ثقافي مغاير – من حيث المضامين والتوجهات – لموجة الحراك الشعبي الجديد، إنما يجسد ظاهرة لا يمكن أن تبقى في إطار الفردية، أو مجرد المصادفة. وذلك لسببين اثنين: أولهما أن النماذج النخبوية المشار إليها هي في الأصل من أنصار الثورة، ومنهم من تصدر المشهد ووصل إلى مناصب قيادية بارزة. وثانيهما أن جميع تلك النماذج هي من الفاعلين وأصحاب الحضور في المشهد الثقافي والسياسي، سواء على مستوى الندوات والمحاضرات والنشر والكتابة إلخ. أما أسباب ودواعي مناهضة هؤلاء للحراك السوري الجديد، فهذا ما يحتاج إلى وقفة أخرى.