إبراهيم الجبين
لم يبدر حتى الآن عن حراك السويداء، بمثقفيه وقواعده الشعبية وحتى لجنته السياسية، ما يوحي بضياع بوصلة رآها السوريون كافة رأي العين من اللحظة الأولى لانطلاق الاحتجاجات في ساحة الكرامة، وانحنوا تقديراً لها وإجلالاً لصدقها.
غير أن ذلك الامتياز، ليس بمنأى عن محاولات الاختراق، على حد تعبير أهل جبل العرب، محاولات اختراق عجز نظام الأسد عن جعلها نافذة رغم العديد من المحاولات، من جهة ثانية لم يُترك حراك السويداء، لحساسية إحداثيات السويداء وأهمية انتفاضتها وتوقيته، دون أن تمتدّ إليه الأيدي الخفية، عابرة الحدود، شرقاً أو غرباً، فكانت همهمات تدور حول مشاريع انفصالية تغري من تغريه، بتشكيل إدارة ذاتية شبيهة بتلك التي أسسها حزب العمال الكردستاني PKK بذريعة محاربة داعش، ليصبح نسخة أخرى أكثر بشاعة من داعش ذاتها، لا تفارق أخلاقه ولا تغادر ممارسته، فانقلب المجزرة الدينية المتطرفة إلى مجزرة عرقية عنصرية أجنبية تمثلها ميليشيا تدار من جبال قنديل الذي تتحكم به إيران. وهكذا أراد البعض لجبل العرب أن يكون.
“قسد” و”مسد” لم تيأس يوماً عن محاولة توريط المزيد من السوريين في مشروعها، بهدف اكتساب لمسة أو بصمة، تضفي عليها وعلى مشروعها شيئاً من الشرعية. فنهب الثروات يتطلب المزيد من اللصوص لجعله شرعياً، وتجريف القرى والبلدات العربية يحتاج إلى المزيد من المنغمسين فيه ليبرر شريعة الأب القائد عبدالله أوجلان ومناهجه التعليمية التي رفضها سكان المنطقة بعربهم وكردهم.
التحولات التي تمرّ بها المنطقة، لن تكون بعيدة عن التأثير على حراك السويداء، لا سيما بعد انطلاق حرب طي صفحة الميليشيا وحروب البروكسي والوكلاء، وما قد ينتج عنها من تبعات إثر تدمير قيادة ميليشيا حزب الله وقطع الأذرع الإيرانية وما سمّي بـ “تغيير الشرق الأوسط”.
ومع ذلك فإن دعامة قوية وصلبة شكلها تيار غالب في السويداء، رفض الانخراط في مشاريع تنافي قيمه الوطنية والعربية، ولم يقبل زج الجبل في معادلات تشوهه وتشوه تاريخه، وهذا التيار يعاني اليوم من ثباته على تلك القيم، تحت ضغط جهات تسعى كل يوم إلى استقطابه وتقزيمه.
وسط ذلك كلّه تم توجيه دعوة إلى لجنة السويداء السياسية للمشاركة في لقاء ترعاه وتموّله ما تعرف باسم الإدارة الذاتية، أي حزب العمال الكردستاني PKK وهو امتداد لما سمّي بـ “مسار ستوكهولم” سيئ الذكر.
هذا اللقاء الذي نظّر له موظّفو “قسد” ومستخدموها، من خارج الحالة الكردية، وصوّروه منعطفاً منقذاً لما يسمونها هم “الأزمة السورية”. وكتبوا عنه إنه “مبادرة فريدة تهدف إلى توحيد جهود القوى والشخصيات الديموقراطية في سورية” وكذبوا حين قالوا إنه “نشأ دون اتفاق مسبق، متخذاً اسمه من العاصمة السويدية التي احتضنت أربعة لقاءات تشاورية كبيرة، برعاية مركز «أولف بالمه» والاشتراكيين السويديين. يتميز هذا المسار بطابعه الشامل والديناميكي، ساعياً إلى فتح حوار بنّاء يشمل مختلف الأطياف السورية”. كما ورد في مقال مسموم كتبه موفق نيربية، كجزء من مهامه الوظيفية لدى الإدارة الذاتية الأوجلانية. ولم يكن مستغرباً أن ينشر هذا المقال التبشيري على الموقع الرسمي لمجلس سورية الديمقراطي “مسد”.
يقول نيربية “اعتمد «مسار ستوكهولم» على وجود دعم وتفهّم من أطراف منفتحة في السويد، مع تشجيع من قوى أخرى أيضاً. وذاتياً كانت الخطوة الرئيسة هي الاعتقاد بأن أيّ عمل نقوم به سيبقى سابحاً في الهواء ما لم يكن له وجود ودعم على الأرض، الأمر الذي التقى في الوقت نفسه مع سياسات مجلس سوريا الديمقراطية، التي وضعت هدفاً ثابتاً أمامها هو الانطلاق من الانتماء إلى سوريا الواحدة، ومع القوى المتنوعة الأخرى، من أجل الانتقال من حالة الاستبداد المستدامة إلى دولة ديمقراطية حديثة”.
وهذا يُحسب لكاتب المقال، للمفارقة، لأنه يعترف وعلى عكس كثيرين ممن حضروا وشاركوا في هذا اللقاء وأنكروا علاقة “مسد” وPKK به في محاولة لخداع السوريين، بينما يبيّن نيربية ذلك بوضوح تام، منتقداً من رفضوا مثل هذا المسار (الذي يضع اليد بيد ميليشيا أجنبية إرهابية تركية متعددة الجنسيات تدار من جبل قنديل) ومعتبراً أن كل من لم يوافق على هذه المعادة إنما هي “قوى مرتبطة بقوى إقليمية قوية – تركيا العدالة والتنمية على الخصوص- وطبّقت ضغوطاً على القوى السورية والدولية الأخرى لمنع اتجاهنا هذا، الأمر الذي أعاقه جزئياً بالفعل”.
أي أن كل من يرفض التعامل مع “قسد” و”مسد” إنما هم مجموعة ممن يدورون في فلك تركيا وحزب العدالة والتنمية، والرد على هذا الاتهام البذيء الذي يخوّن السورييين، كان بقوله “لكننا نظرنا إلى المعوّقات بطريقة جدلية لنحاول تذليلها مسبقاً فنضعف احتمال أن تكون ألغاماً في طريقنا، ومن أجل ذلك قمنا بتنفيذ برنامج لتجاوز المطبّات واحداً تلو الآخر”.
ومن الواضح تأثير لغة الميليشيا على تفكير هؤلاء، حين يعتبرون أن الرأي الآخر، عبارة عن “ألغام في طريقنا” كما وصفها نيربية الذي يشير إلى أن من برامجهم تلك، لمعالجة الألغام، تلويث المزيد من السوريين بعلاقة محرّمة، يرفضها القانون ويرفضها المنطق الوطني الذي لا يستقيم بإنشاء تحالف مع ميليشيا غير وطنية، مثلها مثل حزب الله وزينبيون وأفغان وعراقيون استباحوا سورية، ومن بين برامجهم تلويث حراك السويداء النقي بهذا الإجرام.
لا أحد يملك سلطة على حراك السويداء، وهو حرّ القرار والإرادة، ولكن قبل التورّط في مثل هذا المسار الأثيم، الذي انزلقت إليه بعض الفلول السورية من قبل، دون مراعاة للضمير والقانون والأخلاق والمعايير الوطنية، يتوجب لفت نظر القيّمين على ساحة الكرامة واللجنة السياسية للسويداء، والشيخ حكمت الهجري شخصياً إلى خطورة مثل هذا الأمر الذي سيقزّم حراك السويداء ويضعه بمصاف الانتهازيين من رخيصي الأثمان بعد أن كان يتربّع على قمة جبل العرب الشاهقة الأبية بمعناها وتاريخها وحضورها في وجدان السوريين.
وإذ يطلب مروّجو “مسار ستوكهولم” من السوريين “التفهّم والمشاركة”، لا يزال حزب الاتحاد الديموقراطي PYD الذراع السوري لحزب العمال الكردستاني PKK يتمتّع بعلاقات وتفاهمات وثيقة مع نظام الأسد، اقتصادية وأمنية، ولا يزال راعي “مسار ستوكهولم” أي “مسد” و”قسد” وإدارتها الذاتية يعتقلون، حسب تقرير منظمة العفو الدولية “أمنستي” الصار في أبريل هذا العام، أكثر من 56 ألف معتقل، بينهم عشرات آلاف الأطفال والنساء في منظومة احتجاز غير شرعية؛ ومعظمهم مُحتجزون تعسفيًا إلى أجل غير مُحدَّد، ومن بينهم ضحايا داعش من الإيزيديين الذين تم سبيهم على أيدي عناصر التنظيم الإرهابي، وجاء اليوم الدور على جبل العرب، بشبابه وصباياه، ليكون معتقلاً جديداً يضاف إلى هؤلاء جميعاً.
رابط تقرير أمنستي:
رابط مقال موفق نيربية على موقع مسد: