د.رياض نعسان آغا
مفكّر ووزير وسفير سوري سابق
أعتقد أن المعارضة السورية بلغت ذروة نشاطها وتوحّدها في مؤتمر الرياض الأول عام 2015، وقد تم عقد المؤتمر بتأييد دولي كبير، وحضور دبلوماسي ضخم من دول أصدقاء سورية، وسيكون مفجعاً أن يكتب التاريخ أن هذه المعارضة ذاتها لقيت حتفها في مؤتمر القمة في جدة عام 2023.
من حقّ كثير من المعارضين أن يعترضوا على قولي (لقيت حتفها) فلايملك مؤتمرٌ مهما كانت أهميته أن يقضي على ثورة شعب قدّم من التضحيات ما يدهش، تلك مجرد محطات في مسار شاق وطويل، وما أكثر المؤتمرات التي شهدتها السنون الماضية وأحيلت قراراتها للأرشيف وللتاريخ، وتجاوزتها الأحداث المستجدة دائماً، وتلك الليالي حبالى تلدن كل عجيبة كما يقول العرب.
لكنني في سياق واقعي أعتقد أن ما حدث من تغيرات جذرية في الموقف العربي من النظام السوري كان أخطر انتكاسة مرت بها المعارضة السورية، وأشد موقف اعترض الثورة السورية على مدى اثني عشر عاماً.
ولستُ هنا في مجال الحديث عن أسباب هذه المتغيرات في الموقف العربي رغم حراك أسئلة كثيرة في نفوس السوريين، منها:
هل فقدت بعض الدول العربية أملها في تحقيق أهداف الشعب السوري بالوصول إلى حالة من الحرية والديموقراطية والكرامة الإنسانية ، وأدركت أن النظام أقوى من أن يتزحزح عن مواقفه بسبب ما يجده من دعم علني من قبل روسيا وإيران ومن دعم خفي من الولايات المتحدة وإسرائيل وبعض الدول الكبرى في العالم، وأن القطيعة معه باتت غير مجدية؟
هل رغبت بعض الدول العربية بتجنّب أخطار تصاعد الخصام مع إيران، ولاسيما في قضيتي سورية واليمن فضلاً عن قضيتي العراق ولبنان، بعد سنوات من الحذر ومن التوتر؟
هل فقدت بعض الدول العربية ثقتها بتحالفاتها العريقة مع الولايات المتحدة، وباتت مضطرة أن تبحث عن بدائل وعن مسارات أخرى، ولابد في ظل هذا الانتقال الاستراتيجي من حالة التحالفات الوحيدة مع الغرب إلى تحالفات متعددة مع الشرق (روسيا والصين والهند) ومحاولة التوازن بينها جميعاً من التقرب إلى الضفة الأخرى التي تحمي النظام السوري وتدعمه بهدف تخفيض حدة التوتر في المنطقة وتحقيق نوع من الانفراج العسكري والسياسي في المنطقة؟
هل فقدت بعض الدول العربية ثقتها بالمعارضة السورية وبقدرتها على تشكيل بديل متين وسط انشقاقاتها وتشرذمها وفقدان قدرتها على الإقناع ولاسيما بعد ظهور معارضة شعبية قوية للمعارضة المؤسساتية ؟
هل خشيت بعض الدول العربية من سقوط النظام العربي التقليدي وانهيار البنى الرسمية، وظهور فوضى عارمة تقود إلى دمار وانهيار شامل؟
هل خشيت بعض الدول العربية من صعود ظاهرة الإسلام السياسي الذي سيجد في الديموقراطية المنشودة فرصته للوصول إلى السلطة في بلدان الثورات كما حدث في مصر بعد ثورة يونيو ؟
والسؤال الهام :
هل تخلت بعض الدول العربية عن الشعب السوري وعن البحث عن حلول لمحنته ؟ وهل اقتنعت هذه الدول بسردية النظام بأنه كان يحارب خمسة عشر مليون إرهابي؟
وأن الذين هاجروا بالملايين خرجوا من بلادهم خوفاً من الفصائل الإرهابية التي قصفتهم بالقنابل الفسفورية والعنقودية والبراميل المتفجرة وبطائرات الميغ والسوخوي وبالأسلحة الكيماوية ؟
أعتقد أن سيلاً من الأسئلة الصعبة تمور في نفوس السوريين المفجوعين بالتشرد الذي طال أمده، وهم لايجدون مكاناً يلجؤون إليه ولاسيما بعد الإذلال اليومي الذي يعيشونه في أماكن عديدة؛ في تركيا بات موضوع طردهم ورميهم على الحدود السورية قضية انتخابية، والأمر في لبنان أشد سوءاً، فهم يتعرضون لإهانات عنصرية واعتداءات من بعض أشقائهم اللبنانيين الذين اعتبروا وجود اللاجئين السوريين سبب كل مشكلات لبنان.
وكذلك الأمر في بعض بلدان اللجوء الأوربية، حيث يتم بشكل قانوني اقتلاع الأطفال عن أسرهم بذرائع واهية، ولا تملك الأسر المفجوعة غير البكاء والعويل مع التهديد بالترحيل.
على صعيد شخصي، أعتقد أن العرب لم يتجاوزوا عبر المصالحة والعودة السورية إلى الجامعة قضية الشعب السوري، فبيان عمّان وتصريحات بعض وزراء الخارجية حتى في السعودية ومصر وعمّان أكدت على مرجعية القرار 2254 رغم أن هذا القرار بات للتصريحات الدولية فقط ، وتم رميه في ملفات مجلس الأمن، لكن عملية إعادته للتداول سهلة ويسيرة حين ترغب الولايات المتحدة بذلك، والملاحظ أنها ترغب بفرض المزيد من العقوبات على النظام السوري بدل الاهتمام الجاد بتنفيذ قرارات الأمم المتحدة.
ويدرك العرب أن النظام السوري لم يكن متلهّفاً إلى العودة إلى مقعده في الجامعة العربية، فقد كان يفضل الاكتفاء بالعلاقات الثنائية مع الدول التي يثق بقدرتها على مساعدته ومساندته مالياً وسياسياً، وهو لا يريد أن يحدّثه أحد بالإفراج عن المعتقلين لأن ذلك سيفتح عليه سيل المواجع ويكشف ما يظنه مستوراً، كما أنه يعلن الترحيب بعودة اللاجئين لكنه يدرك أن عودتهم ستكون عبئاً عليه كما أشار وزير خارجيته، فالاقتصاد السوري في انهيار وضعف شديدين، وليس بوسعه في المدى الراهن والمنظور تأمين مصادر عمل ودخل وتقديم خدمات معيشية لملايين اللاجئين إن هم عادوا، وهم يدركون مخاطر العودة وأهمها الملاحقات الأمنية، فهناك ما يقارب ثلاثة ملايين ونصف مليون من المواطنين المطلوبين للأجهزة الأمنية ضمن قوائم منشورة ومعلنة، ولا يستطيع أحد أن يضمن عدم تعرضهم للمساءلة والتحقيق والاعتقال، وتوجيه تهمة الإرهاب لهم، وهذا فضلاً عن موضوع مصادرات المنازل والأراضي والأموال والحجوزات الأمنية على عشرات آلاف المهجرين والمعارضين السلميين.
وفي حال عودة اللاجئين فإن أول الاحتياجات هو بناء سلسلة من السجون في المحافظات لاستيعاب المطلوبين.
وتبقى قضية الشمال السوري القضية المعقدة والمهددة لمستقبل استقرار سورية، وإذا كان بالإمكان الوصول إلى حلول للقضية الكردية، فإن قضية إدلب أشد صعوبة، ولابد من تجنّب الحل العسكري في الشمال لاحتمال وقوع ملايين الضحايا وهذا ما سيجعل الشمال شلال دماء.
والمفارقة أن المبادرة العربية لم تسمّ الفصائل الإرهابية فالسوريون لا يجدون فارقاً عسكرياً أو إيديولوجياً بين داعش وبين حزب الله أو فاطميون أو زينبيون أو قوات الحشد، فالمبادىء دينية ومتطرفة مع اختلافات في اللون والمنهج وليس في النوع، مع قناعتي بأنهم جميعاً يتبعون لمصدر واحد، وقد كشف ترامب وآخرون عن سر داعش، فأما حزب الله فهو يعلن بوضوح شعاره (الثأر للحسين ) وقد قام بالثأر في كل أرجاء سورية، وبدأه في القصير حيث اضطر سكان المنطقة إلى الهرب واللجوء إلى لبنان، وحين ينسحب حزب الله من سورية سيعود اللاجئون السوريون في لبنان على الفور إلى بلدهم.
هذه التساؤلات محاور مما يتحدث به السوريون، مع القناعة بأن عودة النظام إلى الحاضنة العربية لا تعني انتهاء القضية ولا حتى انتهاء العزلة الدولية، وأساس القضية ليس خلافاً بين سورية وشقيقاتها من الدول العربية، إنها قضية الشعب الذي خرج مطالباً بإصلاحات في النظام، فتم القمع العسكري الأمني الذي أوصل البلاد إلى الدمار.
ولا بد من التأكيد بأن من مبادىء المعارضة السورية، رغم كل الفواجع، أن يتم الحفاظ على الدولة السورية، وعلى وحدة أراضيها، وعلى جعل المواطنة ركيزة النسيج الاجتماعي مع الرفض المطلق لأية رؤية طائفية، وضرورة العمل على ترميم الشرخ الكبير الذي حدث بين مكونات الشعب السوري.