د. رياض نعسان آغا
يصعب علي أن أقتنع بأن من يؤيدون مجرماً لم تعد تحتاج إدانته إلى أدلة لكونها مرئية ومسموعة وحاضرة ومتصاعدة وشهودها مئات الآلاف من الوثائق ، مقتنعون بما يفعلون ، ولا أصدق أن دوافع أحد منهم هي قناعة ببراءته ، أو تعاطف مع ما يدعي في سرديته ، و لست أعتقد أنهم يكرهون ضحاياه ويسعدهم أنه يقضي عليهم بإبادة جماعية ، و أعتقد أنه لاتوجد شبهات في الحقائق أمام أحد ، لكنهم براغماتيون على الأغلب ، فهم يبحثون عن منافع راهنة أو مستقبلية ، وعن حلول توفيقية هي على الأغلب تحقق طلاء خادعاً جميلاً لبضاعة فاسدة ، وربما يخشون نتائج أكثر كارثية إذا استمروا في الدفاع عن العدالة ، وبعضهم يرى أن مهادنة المتوحش بوابة لترويضه وفرصة لأنسنته ، وبعضهم يتخذ مواقف لاعلاقة لها بمعتقده أو رؤيته الصادقة مع نفسه ، أو ما يؤمن به من مبادىء أو أخلاق ، ويحاول أن يجد ذرائع لتخليه عن الحقيقة بما يسمى في السياسة ( فن الممكن ) في حده الأدنى ، وقد اعتبر فناً لأنه مفتوح الأفق على التجريب العملياتي دون حدود للوصول إلى نتائج محتملة ، ولأنه يبحث عن هذه النتائج دون فحص للمقدمات أو استقراء منطقي للوصول إليها ، وهوفي النهاية تلطيف لحالة طمس الاعتراف بالعجز وأحياناً بالهزيمة أمام الحقيقة ، وهذا ما أخشى أن يقع به بعض قادة المعارضة ممن نثق بأنهم شرفاء في مواقفهم السابقة ومتمسكون بالحق .
ولست ضد البراغماتية بشكل مطلق ، فقد تكون في كثير من الأحيان الطريق السالك الوحيد حين تنسد المسالك والطرق ، ولا أنكر أن كثيراً ممن وقفوا ضد المجرم المنبوذ حاولوا صد جرائمه بكل الوسائل والسبل ، ولكن حلفاءه كانوا مدافعين شرسين عن مصالحهم من خلاله ، ولم يعد أمام الباحثين عن خلاص سوى ارتداء ثوب البراغماتية التي يعترف مؤسسوها بأن أخطر مساوئها أنها فلسفة تفرط بالثوابت وأحياناً بالأخلاق والمبادىء.
ولست في معرض الحديث عن البراغماتية العربية الراهنة فهي ما تزال في مرحلة التجريب ، وقد نجحت في كثير من المواقع وأخفقت في مواقع أخرى ، لقد حققت سياسة ( صفر مشاكل ) حالة من التآلف بين الدول العربية بعد أن فرقتها مشكلات جاء حلها سهلاً ويسيراً ، وأعتقد أنه يميل إلى كونه (ذرائعياً ) لأنه لم يفرط بالثوابت التي لم تكن أصلاً أساس خلاف ، وإنما كان تضارب أفكار ورؤى حول قضايا جانبية غير تأسيسية ، وأما البراغماتي في التحولات فقد أخفق ، لأنه بدأ مشترطاً سبلاً أخلاقية لاتفرط بالثوابت .
وإذا انتقلنا إلى الجانب التركي فسنجد مدرسة متميزة في فنون الذرائعية والبراغماتية التي برعت بها سياسة أردوغان، لقد بدا صياد الفرص بمهارة ولاعباً سياسياً على صعيد دولي ، دون أن يتخلى عن شيء من ثوابت حزبه ، وفي فترة الحملة الانتخابية جمع بين أمرين هما الانحناء الطفيف لمطالب المعارضة التي جعلت شعارها وبرنامجها الانتخابي ( طرد السوريين ) وقد سمح بترحيل كثيرين ممن وقعوا في مخالفات صغيرة ، وغض الطرف عن ممارسات لا تنسجم مع مبادئه المعلنة ، وفي ذات المرحلة استجاب لرغبة بوتين باللقاء مع رأس النظام السوري ومتابعة اللقاءات العسكرية والأمنية ، وقدأقلق هذا الانفتاح إيران رغم ادعائها بأنها تشجعه ، لكن وزير خارجيتها ثم رئيس جمهوريتها سارعا إلى تقييد موقف النظام السوري الذي لم يستطع أن يركب الموجة ولو بطريقة براغماتية مشابهة ، لكن أرودغان الذي أدرك أن مصالح بلده ذات شأن كبير مع الأمة العربية وكونها فضاءه الاستراتيجي الأوسع سارع إلى تجاوز كل الخلافات معها ، وإلى تمتين العلاقات مع دولة الإمارات ومع السعودية وبدأ خطوات التواصل مع مصر ، ووجد صدراً رحباً عند الأشقاء العرب الذين يسعون في الوقت ذاته إلى تصفير المشاكل ، وإلى مزيد من الانفتاح على العالم كله ، وإلى فتح كل المسارات مع الدول الكبرى لتحقيق توازنات في عالم يتخبط في طريق الخلاص من سياسة القطب الأوحد الذي فقد بوصلته مرات عديدة ، جعلت أقرب حلفائه يشعرون بالحاجة إلى فضاءات أخرى ، وقد حقق العرب نجاحاً في السير على حافة التحدي ، والانتقال إلى دور مؤثر في السياسة العالمية ضمن الشروط الموضوعية المتاحة .
ومع طمأنينة أردوغان الراهنة بعد فوزه في الانتخابات الرئاسية وفوز حزبه في الانتخابات البرلمانية ، أظهر نوعاً من البراغماتية الخطرة ، في موافقته على انضمام السويد إلى الناتو وعلى طلب فلندا وهو يعلم أن صديقه بوتين سيزعجه هذا الموقف ( وقد عبر الروس عن التداعيات السلبية لهذا القرار ) ولكن أردوغان يدرك أن مصالح روسيا مع تركيا ستدعوها لتفهم كون أنقرة عضواً مؤسساً في الناتو ، كما كان استقبال أردوغان لزيلنسكي تعبيراً عن حرص تركيا على أن تكون في المنتصف بين الشرق والغرب ، وجاء تسليم زيلنسكي قادة آزوف وبناء مصنع للمسيرات التركية في أوكرانيا بشكل لايغطيه السماح للطائرات الروسية باستخدام مجال تركيا الجوي عسكرياً مادام إغلاق مضيق البوسفور مستمراً لمنع روسيا من إرسال تعزيزات لأسطولها في البحر الأسود،حسب اتفاقية مونترو.
ولم يقدم أردوغان هذه السلة البراغماتية دون ثمن فقد ربط موافقته بدخول السويد حلف الناتو بتصويت البرلمان التركي ، مع إعادة طلب تركيا دخول الاتحاد الأوربي ، ولئن جاء التهديد الروسي بإيقاف العمل باتفاقية تصدير الحبوب الأوكرانية والروسية رداً على ماحدث في ليتوانيا ، فإن الخطر الذي يمكن أن نواجهه في سورية هو مزيد من تعقيد الوصول إلى حلول ، فضلاً عن خطر حدوث اشتباكات عسكرية متوقعة ، وقد جاء الفيتو الروسي مؤخراً على تجديد عملية الأمم المتحدة بإرسال المساعدات إلى الشمال الغربي في سورية عن طريق تركيا موقفاً مستنكراً من قبل الأمم المتحدة والعالم كله ، ولاسيما أنه موقف غير إنساني .