جورج صبرة
العربي الجديد:3/8/2023
غبطة بطريرك إنطاكية وسائر المشرق للروم الأرثوذكس يوحنا العاشر يازجي
تحية طيبة وبعد:
كان من الطبيعي جداً أن ينال تصريحُكم عبر قناة الحرّة خلال زيارتكم الولايات المتحدة الاهتمام والمتابعة اللازمين والتفاعل الكبير الذي يستحقّه، فأنتم على رأس الكرسي الإنطاكي في الكنيسة المشرقية المغروسة في التراب السوري والحياة العامة أرضاً وشعباً، منذ “يوحنا الذهبي الفم” الذي كان ينطق بالحكمة والصدق واستقامة الرأي ديناً ودنيا. وكان من بطاركتها رجالٌ ملأت سيرُهم ذاكرة السوريين، وعطّرت كتب التاريخ، أمثال البطريرك غوريغوريوس حدّاد، وبطريرك العرب إلياس الرابع معوّض، وسلفكم الراحل أغناطيوس الرابع هزيم، وغيرهم من القامات الدينية والوطنية التي غدت أعلاماً عند السوريين والعرب، يُشهَد لها ويُستشهد بها.
في الوقت نفسه، كان فرحنا واهتمامنا كبيريْن بسماع صوتكم في بعض معاناة السوريين، على قدر افتقادنا هذا الصوت منذ بداية المحنة السورية قبل اثني عشرعاماً. ولأنني معنيٌّ بهذا التصريح، كابن لهذه الكنيسة “المستقيمة الرأي”، وسوري أعتزّ أشدّ الاعتزاز بسورية وأهلها، ومن الذين خبروا معاناة السوريين، ويعملون من أجل خشبة الخلاص، أرجو أن تعذُر صراحتي وحرارة صوتي ومباشرته، إذ لم يعد الصمت ممكناً.
بدايةً، اسمح لي، يا صاحب الغبطة، أن أصحّح ما جاء في تصريحكم عن الحرب الاقتصادية والحرب العسكرية لجهة العقوبات الدولية المطبّقة على النظام بسبب جرائمه الفظيعة وارتكاباته، وتداعياتها على “الشعب الطيب وحرمانه من الدواء وحليب الأطفال”. وأفيدكم بأن العقوبات لا تشمل أي نوعٍ من الغذاء والدواء على الإطلاق، ويمكن لأي دولة أو منظمة أو جهة أن ترسل مساعدات دوائية وغذائية إلى جميع المناطق السورية. وهذا حقٌّ طبيعيُّ مطلوبٌ وموفور، ويجب أن يستمر ويتحقّق لجميع السوريين في جميع أماكن وجودهم. لكن يبدو أن دعايات النظام التضليلية قد فعلت فعلها، أو أن فريق المستشارين والناصحين من حولكم طرح الفكرة/ المهمة التي أمليت عليه من قسم الأديان في فرع الأمن الداخلي، وهي مغلوطة عن جهلٍ أو سوء نية، وكلا الحالتين لا تليقان بمقامكم ودوركم المنشود.
يا صاحب الغبطة: هل أتاكم حديث العقوبات الأشد التي يتعرّض لها سوريون أيضاَ من شعبنا الطيب نفسه، وهم 4.5 ملايين نسمة يعيشون في شمالي غرب البلاد عيشة اللاجئين تحت الخيام وفي بيوت مؤقتة، ويُحرمون من دخول أي نوعٍ من المساعدات عبر الحدود والممرّات البرّية، بسبب الفيتو الروسي في مجلس الأمن الذي اتخذ في 11 الشهر الماضي (يوليو/ تموز)، وقطع شريان الحياة الحيوي عن المنطقة وأهلها؟
غير أن السؤال الأكبر يتجاوز ذلك، فعلى أهمية الغذاء والدواء وحليب الأطفال وضرورة توفرها باستمرار لأصحاب الحاجة في جميع أنحاء البلاد، لدينا في القضية السورية آلام أقسى وارتكابات أشدّ هولاً وفظاعة، وهي مستمرّة منذ عام 2011، عندما ارتفع صوت السوريين بالمظاهرات السلمية مطالباً بالحرية والكرامة، وجاءهم الرد عبر الرصاص القاتل والاعتقال المديد والتعذيب حتى الموت. وبقي صوتكم غائباً رغم فداحة المشهد الذي لم تنجُ الكنيسة ورعيّتها من عقابيله المؤلمة بأشكال مختلفة.
أليس غريباً، ويبعث غصّة في الحلق أن لا يكون لكم صوت، يستنكر قتل السوريين بالبراميل المتفجّرة والغازات السامّة والأسلحة المحرّمة دولياً، وأنتم تمثلون كنيسة المسيح؟ ألم تصل إلى مسامعكم أنباء عن ملف قيصر، أو مجزرة حي التضامن، أو أعمال الترحيل والتهجير التي تعرّض لها ملايين السوريين؟ ألا يعني الكنيسة ورجال الإكليروس اختفاء عشرات الآلاف في غياهب السجون والمعتقلات من دون أن يعرِف ذووهم شيئاً عن مصيرهم سنوات طويلة؟ أليس على الكنيسة ورجالها واجبٌ وطنيٌّ وإنسانيٌّ وأخلاقيٌّ، يتمظهر بموقف حق وعدل في ما يجري بالبلاد والعباد على أرض هي موطن المسيحية الأول؟
يذكُر التاريخ أن خمسين ألف مسلم شاركوا في تشييع البطريرك غوريغوريوس حدّاد في دمشق عام 1928، وهتفت الجماهير في جنازته “مات أبو الفقير بطريرك النصارى وإمام المسلمين”، وفق رواية العلامة بدر الدين الحسني، وذلك وفاء لدوره ومواقف كنيسته مع الشعب في المجاعة خلال الحرب العالمية الأولى وبمواجهة الاحتلال الفرنسي 1920، عندما صاح بالرهبان لتقديم الخبز لكلّ الجائعين بقوله: “انظروا إلى الرغيف، لم يُكتب عليه دينُ آكله”.
يا صاحب الغبطة، تقولون إن الكنيسة هي الناس. … والناس تريد أن ترى الكنيسة كذلك.