خاص – عبد الناصر حوشان
في الفترة الأخيرة وبالتزامن مع اندلاع ثورة السويداء وثورة العشائر شهدت الساحة الثورية موجة من ردود الفعل المتباينة بين داعم ومرحِّب لهما وبين متوجِّس وناءٍ بنفسه عنها، كما شهدت موجة من الغضب العارم نتيجة الظروف والأليّة والملابسات التي جرت بها انتخابات الائتلاف الوطني وما رافقها من انسحابات وتسريبات واتهامات خطيرة دفعت بالبعض لاقتحام مقرّه في مدينة اعزاز وإغلاقه وخروج ظاهرات ضدّه وضد الحكومة المؤقّتة ورئيسها السيد عبد الرحمن مصطفى مما دفع الهيئة السياسيّة لإصدار قرار بتشكيل لجنة تقصّي حقائق الأمر الذي زاد بالطين بلّة لِما لاقته من اعتراضات واستهزاء وسخريّة، خلقت حالة من الفوضى لم يسبق لها مثيل ضمن صفوف الائتلاف من قبل.
كنت قد تناولت في مقالة سابقة الفوضى الناجمة عن الصراع بين قوى الثورة وقوى المعارضة حول المشروعيّة الثوريّة والشرعيّة التمثيليّة التي تستند إليها قوى المعارضة بدأتها بهذه المقدّمة: ’’لمّا ورث الملك تشارلز العرش عن أبيه ورث ايضاً عقيدة الملوك بأنّهم ”الآلهة الصغرى على الأرض“، وأن الله اختارهم للحكم بما يتوافق مع شريعة الحق الإلهي المُقدّس، وكان البرلمان الإنكليزي أثناء حكمه أقرب إلى اللجنةً الاستشارية المؤقتة يُستدعى عند رغبة الملك، وأن وجوده أو حلّه خاضع لمشيئة الملك ورغبته ومزاجه، مما أثار قلق وخوف البرلمانيين وكان هذا القلق وهذا الخوف الشرارة الأولى التي أشعلت الحرب الأهلية الأولى الإنكليزية بين عامي 1642 -1646 بين أنصار الملك تشارلز الأول من جهة، وجيش البرلمانيين وحلفائهم الاسكتلنديين من جهة أخرى، ومنيت القوات الملكية بهزيمة الملك تشارلز الذي قام بتسليم نفسه للاسكتلنديين، والذين سلموه بدورهم إلى البرلمانيين، وبعد مرور عام استطاع الملك إقامة تحالف مع الاسكتلنديين في مقابل إعطائهم بعض الحريات الدينية، إلا أن قائد الثوار ’’أوليفر كروم ويل‘‘ استطاع أن يحسم الموقف بصورة نهائية حيث قام بعقد جلسة خاصة للبرلمان، بعد أن تم انتقاء أعضائه من بين أنصار الثوريين، وأصدر حكم بإعدام الملك، لتُضرب عنقه، ونتج عن هذه الحرب ظهور حركة لا سلطوية فوضوية أطلق عليها اسم ”الحفّارون” لا تعترف لا بسلطة البرلمان ولا بسلطة الملك ولا بأي سلطة أخرى، بينما أُطلق على البرلمانيون ومؤيديهم “مدوّري الرؤوس” وأنصار الملك ”الملكيون”.
واليوم سنتناول هذه الفوضى على ضوء الأحداث الأخيرة، فما أشبه اليوم بالأمس وما أشبه مؤسسات المعارضة والتيارات الحزبيّة والفكريّة، وما أشبه بعض النخبويّين السوريين بأنصار الملك وما أشبه بعضهم الآخر بأنصار الثوريين، فوضى عارمة أسبابها سياسيّة وحزبيّة وفصائليّة ومناطقيّة وعشائريّة وانتهازيّة وفوقيّة وتعالي وارستقراطيّة جوفاء وفوضى سببها الجهل والتضليل وإلباس الخراب بلباس الإصلاح ، و إلباس الطائفيّة بلباس الوطنيّة ، والتترس وراء الهويّات ما دون الهويّة الوطنيّة و البناء على الهواجس المتغيّرة على حساب الثوابت الوطنيّة الجامعة ، و إلباس الفيدرالية و التقسيم بلباس الحرص على وحدة الشعب والأرض فظهرت أقوام و أقوام لا هوية لها ولا طعم ولا لون .
قومٌ اشبه بعشيقة النائب ” توماس وينتورث ‘‘ الأقرب للملك تشارلز والتي أصبحت محظيّة الملك وخازنة أسراره وأسرار البرلمانيين ” الامر الذي مكّنها من الانقلاب على الملك وقامت بإفشاء اسرار الملك وخططه الى البرلمانيين التي أدت للإطاحة به وإعدامه . وهؤلاء القوم قوم التسريبات والدسائس والمؤامرات والفضائح الذين لا يتركون ستراً ولا يحفظون سِرّاً عند تضارب مصالحهم .
وقومٌ هم أشبه بأصحاب عقيدة الحق الإلهي المقدّس وألوهية الملك الصغرى لفرض شرعيّتهم على خصومهم قبل مواليهم ، فهم أصحاب السلطة ومالكوها لا يقبلون شريكاً وهم المُشرِّعون الذين لا يقبلون رقابة وهم المنفِّذون الذين لا يقبلون محاسبة وكل ما عداهم عوام ورِعاع وغوغائيون .
وقومٌ ارستقراطيّون يقبعون في ابراجهم الخشبيّة و رُبّما البلاستيكيّة في مقاهي أو شوارع أوروبا لا يرون في الشعب السوريّ إلا أنّهم برابرة و همج قادمون من الصحراء متصحِّرون سياسيا وثقافيّا وفكريّا لا يجيدون إلا ثقافة الغزو و السلب و النهب و لا يصلحون لا للثقافة و لا للسياسة و لا للفكر ولا للقيادة فهم لا يجيدون إلّا الخراب ، ويجب اخضاعهم لعمليّة ’’ تنخيب‘‘ عن طريق انتقاء بعضاً منهم لتصنيعه و تأهيله عبر دورات اعداد الكوادر القياديّة و عبر ورشات التخطيط الاستراتيجي ،و غسل أدمغتهم من لوثة الانتقام لدماء شهدائهم عبر ورشات ودورات تعليم طرق فض النزاعات و إدارة الازمات ودورات تعلّم قيم التسامح و السلم الأهلي .
وقومٌ ’’نخبويّون‘‘ حتى النُخاع مُستوردون لا يتنازلون ولا يُراجعون ولا يُنتقدون فيما يطرحونه من نظريّات هلاميّة و أخرى ضبابيّة هي أقرب للثورة المُضادة وهؤلاء لا يتورّعون عن كيل الاتهام الباطلة و الرمي بالبهتان و الافتراء لكل من يعارضهم أو يجادلهم أو ينتقدهم لاهم يشبهون أصحاب الرؤوس المدوّرة ولا يُشبهون الملكيّون ، وهم أقرب إلى أصحاب الرؤوس’’ المُربّعة‘‘ فهؤلاء لم تعجبهم ثورة العشائر و لا ثورة السويداء ولم تعجبهم الثورة السوريّة أصلاً ، وهم من سعى بتصنيفها و تطييفها و شرذمتها و تفريق صفوف أبنائها متوسِّلين بعلاقاتهم مع الاستخبارات الاجنبيّة و ارتباطهم الفكري و العقائدي مع تيّارات تعادي قيم الحريّة و الكرامة و تعادي ثورات الربيع العربي لأنها لا تتوافق مع أيديولوجيّاتهم و أدبيّاتهم الحزبيّة والسياسيّة و الفكريّة.
وقومُ من قادة لا يلتزمون بضوابط ومعايير القيادة ، و سياسيّون لا يلتزمون بقواعد و أسس السياسة ، وثوريّون متمرِّدون على قيم الثورة و ثوابتها ، و إنسانيّون لا يمتّون لقيم الإنسانيّة في شيء ، و قانونيّون لا يحترمون قانون ولا تشريع ، ومفكِّرون و أدباء و أنصافهم و أرباعهم فوقيّون متعالون متعجرِفون، هؤلاء حوّلوا مؤسسات المعارضة ومنصّاتها و ’’النُخبويّة الفكريّة و السياسيّة والثقافيّة ‘‘ السورية و التكتّلات و الهيئات و الأحزاب والفصائل و النقابات و المنظمات و المجالس بكل ألوانها المتشابهة و المختلفة ُإلى ما يُشبه مُكعّب ’’روبيك‘‘ الملوّن مكعّب اللًغز الذي يستحيل إعادة ترتيب ألوانه عند تحريك مكعّباته أول مرّة وهو تجسيداً للعقدة الغورديّة ’’ العقدة المستعصيّة ‘‘ وهي الحالة التي تعاني منها هذه الهياكل و المؤسسات التي رُغم تشابه كثير منها مع بعضه واختلاف بعضها الاخر إلّا أن دمج أو جمع المتشابه منها مع بعضه من مستعصيات الأمور ،وبالتالي فإنّ تقريب المختلف أو المتضادّ منها من مستحيلاتها .
الكل أصبح مستبِدّ يعتقد بأنّه صاحب السلطة المطلقة يفعل ما يشاء دون اعتبار لقانون أو عُرف أو عادة أو أي نوع من أنواع التنظيم ، ومن سِمات الاستبداد أنّه ينتج عوامل مقاومته بشكل تلقائي باعتباره اعتداء على حقوق الغير واعتداء على القيم الجامعة سوآءًا كانت قيم دينيّة أو فكريّة أو أخلاقيّة أو وطنيّة مما كرّس عقيدة الصراع والاقتتال لأجل البقاء بدل عقيدة التنافس لأجل تحقيق الطمأنينة والسلام والرخاء.
وجوهر الاستبداد والاقصاء الذي تمارسه كل أطياف ومؤسسات المعارضة يكمن في اعتقادها بشرعيّتها الكاملة رُغم أنّها على قناعة تامّة بأنّ الاعتراف بها منقوص، وحيث أنّ الاعتراف المنقوص ينتج شرعية معلولة التي تولّد بدورها أزمة شرعية التمثيل التي حاولت هذه المعارضة ترميمها بالسعي لنيل اعتراف الدول الاجنبيّة ، وأزمة الشرعية أّدت إلى أزمة الثقة التي أدّت الى أزمة الأداء وبالتالي الفشل المحقّق .
وأخطر مظاهر الفوضى التي تسبّب بها هذا الاستبداد تلك المظاهر التي شهدناها تطفو على السطح مؤخّراً من فوضى فكريّة وفوضى قانونيّة وفوضى سياسيّة لأنّها ونتيجة حملات التخوين والطعن والتجييش وكيل الاتهامات العشوائيّة وغياب الرقابة والمحاسبة تسبّبت بخلق تيّار شعبي قوي يتبنى عقيدة ”الحريّة المطلقة‘‘ للأفراد والانفلات من أي قيد وتجسّدت هذه الفوضوية بتصرّفات الأفراد والجماعات والأحزاب والهيئات والمجالس والفصائل سواء تلك التي دخلت في مؤسسات وهيئات المعارضة الرسميّة أو تلك التي لم تدخل في تلك المؤسسات .
إن الفشل هو أول عوامل ظهور الثورة المضادة ، وهو أخطر ما ستنتجه ممارسات المعارضة إذ سيتم تحميل آثار ونتائج فشلها للثورة وبالتالي خلق تصوّر لدى الحاضنة الثوريّة بأنّ فشل هذه المعارضة هو هزيمة الثورة مما يدفعهم للبحث عن خيارات النجاة وهي محدودة إذ ليس أمامهم سوى الاستسلام للنظام المجرم ، أو الفرار واللجوء الى أوروبا.
لذا علينا كسوريين أحراراً أن نكون على قدر المسؤوليّة الدينية و الاخلاقيّة والثوريّة و الوطنيّة و أن نلتزم ونتمسك وندافع عن القيم الأصيلة الجامعة و الأعراف العريقة السائدة المُستقِّرة ، و ان ننفتح على بعضنا ونتقبّل اختلافنا الفكري و الثقافي و السياسي بما لا يتعارض مع الثوابت الجامعة ، و التحلّي بقيم العدل و الإنصاف ، والشجاعة في إجراء مراجعات عميقة و جذريّة لتجاربنا الفرديّة و الجماعيّة و المؤسساتيّة و ردّ المظالم ، ونبذ الخصومات ، وعدم تمرير أي ممارسة من ممارسات الاستبداد و الاقصاء أو محاباة سلطة مستبدّة على حساب حقوق الشعب امما سيوّدي حتماً إلى سقوط أي اعتبار لأي مظهر من مظاهر التنظيم و الحوكمة أو للقوانين أو الأخلاق أو العقائد أو القيم .