إبراهيم الجبين
كان الأمر يتطلب بضع ساعات تهاجم فيها إحدى مجموعات المقاومة الرافضة لبقاء الاحتلال الإسرائيلي، بغض النظر عن هوية تلك المجموعة أو انتماءاتها أو تحالفاتها، كي تعود سطوة القضية الفلسطينية لتؤكد نفسها من جديد على الذهن العربي.
وكي يتهامس المثقفون العرب فيما بينهم قائلين “بالفعل. القضية الفلسطينية هي القضية المركزية للعرب”، وذلك بعد أن ضلّوا وضللوا أنفسهم وغيرهم طويلاً في الحفر تحت أظافرهم بحثاً عن قضايا بديلة، طائفية، محلية ضيقة، غربية وشرقية، لا فرق، في نهاية المطاف سيعودون إلى التمركز من جديد حول ذات المسألة، راغبين أو مرغمين.
في لقائه مع التلفزيون العربي، والذي بث قبل أيام على شاشة التلفزيون العربي، كان من بين أهم ما أشار إليه المفكر القومي العربي عزمي بشارة، أن القضية الفلسطينية “هي مثل الجامع بالنسبة للعرب”، وقد مرّت تلك العبارة بسرعة ودون أن يتم التوقف عندها في الحوار أو بعده، إلا أنها ردٌ بليغ وصارم على سنوات من الجهل والتعجيل كيل خلالها الاتهام إلى الشعوب العربية بأن ثوراتها كانت بلا قيمة حضارية ديموقراطية طالما أنها خرجت من “جامع”.
و يا لضحالة التناول الذي ظل ينظر إلى “الجامع” في الوعي العربي، على أنه مكان للعبادة وحسب.
لعلها ليست سذاجة أو قلة معرفة، بل هي زاوية نظر مركّبة مسبقاً، تستعدي الجامع، لرمزيته بالنسبة لمن ينظرون إليه على هذا النحو، فهو في أعينهم أيقونة للإسلام التقليدي وبالتالي “السني” لا مسرح للتبادل المعرفي وقبة للقرار المشترك وحوض تصب فيه الإرادة الشعبية، في الأزقة والحارات والأرياف البعيدة كما في المدن، إلى جوار الرؤى التي قد تقدمها النخب الاجتماعية والسياسية.
ولعلها ليست فكرة عابرة تلك التي بعث بها بشارة في إشارته تلك، بل تعكس على الأرجح تفكيراً طويلاً خاضته النخب العربية خلال الأعوام الماضية، لتتخلص فيها من عبء إشكالية التعامل مع “الجامع” وما يعنيه وما سيترتب على تكريسه كساحة للقرار.
الأمر ذاته في حال القضية الفلسطينية، إذا نظرت إليها كحالة جهاد مقدّس من أجل تحقيق نبوءات متبادلة ما بينك وبين الآخر، فأنت في مقام لا يغادر مقام من منح “الجامع” في الربيع العربي مكانة مقتصرة على دوره الديني في تنظيم الصلوات والشعائر.
أما إذا إذا رأيت القضية الفلسطينية، كنقطة تصادم حضاري بين شعوب ترفض أن يتم محو هويتها، وبين قوى غاشمة تصرّ على اكتساح الآخر وطمسه وافتراس حضارته، وقد كشّرت عن أنيابها بالفعل في الأسبوعين الماضيين دون حياء هذه المرة، فأنت تضعها في سياق أوسع، سياق يليق بنضال الشعوب على تعدد مشاربها ومذاهبها من أجل البقاء أولاً ومن ثم من أجل الاستمرار في التأثير والإسهام في الفضاء المحيط والعالم والتاريخ.
يتيح لك ذلك أن تراقب مدى قربك أو بعدك عن حقوق الإنسان، وعن قبولك أو رفضك لما يتعرض له الفلسطينيون من ظلم وجرائم حرب. وبالقدر ذاته يضعك أمام اختبار جهد ذاتي جاد لا نهاية له لكيفية تعاطيك مع شعبك، أياً كانت جنسيتك، مع الآخر المختلف الشريك أو الآخر المختلف القادم من خارج هويتك، وأبرز ما يضعه أمامك هذا المقام استحضاره لما تعنيه لك فلسطين، وما تعنيه لغيرك أيضاً.
في ما هو فوق السياسي، لا تزال القدس وقبّة الصخرة فيها، تشكّلان عقدة العقد أمام الجميع، وفي “الجامع” العربي هما ليسا أقل من إرثٍ أموي تركه عبد الملك بن مروان، قوي الالتصاق بالهوية العربية، مهما اختلفت العقائد، غير قابل للتفاوض. تركةٌ تذكّر كل لحظة بصعود الأمة وازدهارها، والتخلي عنها يعني التخلي الكلي والنهائي عن ذلك الحلم الذي يجب أن يستمر كي تستمر الهوية.
وخلال تأملك لذلك، لا تنس أن المسجد الأقصى الذي يطالب به العرب، لم يكن هو رمز القدس “الجامع”، بل قبّة الصخرة، والتي هي في الواقع أكثر تعبيراً عن كل ما سلف من رمزيات، من مجرّد كونها مكاناً للصلاة. مكان لتقاطع الرمزيات وتضافرها وهو غير قابل للتفاوض أيضاً.
وفي ما هو فوق اللاهوت، تتكفل الرمزيات برفع صراعك مع الآخر الدموي عن مستوى ديني، يجعل منك معادياً للسامية، كما يريد الغرب أن يشيع عنك، إلى مستوى آخر لا يرى في الخصم يهودياً وحسب، بل آلة تدمير شاملة لكل ما تعنيه لك هويتك العربية. وهنا لا يعود ثمة فارق بين الآخر الإسرائيلي أو الإيراني أو الكردي العنصري الفاشي القادم من جبال قنديل ليغسل أدمغة أطفالك بمناهج عسكرية ويحاول مسح ذاكرتك ويحتل أرضك في شرق سوريا، كما يحتلها الإسرائيلي في جنوبها، وهكذا يمكن أن تسري الأمثلة على كل آخر يمارس هذا الفعل المبرمج دون التوقف حتى عند هويته هو، بل عند ممارساته.
القضية الفلسطينية “الجامع” تمكّنت مجدداً، وكما في كل مرة، من ممارسة تأثيرها الثقافي الكبير، معيدة الاعتبار لسياق عربي بدأ منذ أكثر من قرن من الزمان، ليؤكد أن العروبة هي حركة تحرّر وتحرير لا عدواناً على الآخر ولا انبعاثاً عنصرياً عرقياً همجياً كما جرى ويجري تصويرها عبر “دعشنتها” تارة و”بعثنتها” تارة أخرى.