بقراءة أوسع للأوضاع الجديدة التي خلقتها حرب غزة الدائرة منذ السابع من أكتوبر الماضي، وحتى لحظة كتابة هذه الافتتاحية، يمكن للمرء ملاحظة التحولات التي ابتدأت في الظهور انطلاقاً من رد الفعل الغربي على الحادثة الأولى أولاً، هجوم عناصر حركة حماس على مستوطنات غلاف غزة في خرق هو الأول من نوعه للتحصينات الإسرائيلية التي كان الجميع يعتقد أنها غير قابلة للانهيار، خرقٌ شابه ما شابه من أسر واختطاف لعسكريين ومدنيين، وضحايا سقطت من الجانبين، تم تصديره عبر الرواية الإسرائيلية للعالم على أنه ١١/٩ إسرائيل، وأن ما بعده لن يكون كما قبله.
وقد أخذ الإعلام والساسة في الغرب وقتاً طويلاً قبل أن يتغير خطابهم بالتدريج نحو ضرورة التهدئة منعاً لقتل المدنيين ولإيقاف المجازر التي شنتها وتشنها إسرائيل ضد مليوني فلسطيني من سكان غزة.
لكن الصورة الأولى بقيت كما هي، ومفادها أنه لابدّ من أن هذا الحدث سيكون منعطفاً تتغير على إثره الخرائط في الشرق الأوسط. كيف سيكون ذلك؟ لم يقل أحدٌ أي شيء حتى الآن؟ إلى درجة أن المسؤولين الأميركيين سرّبوا عدة مرات أنهم، مع دعمهم الكامل لإسرائيل في حربها ضد حماس إلا أنهم بانتظار التصوّر الإسرائيلي لنهاية هذه الحرب.
ليس لدى إسرائيل تصوّر في الواقع، فهي تنطلق من رد فعل شعبوي انتقامي أكثر من كونها تنفّذ خطة استراتيجية مرتبة مسبقاً، فقد كانت حتى ما قبل هذه التاريخ تسير في سياقات التطبيع مع دول الخليج وتستعد لإعلان تطبيع مع العربية السعودية سيكون له وقعه الكبير باعتبار أن المملكة هي قلب العالم الإسلامي وهذا سيقدّم لإسرائيل الكثير، لكن الآن هناك ما تغيّر وبقوة.
إيران التي تباهي بأن حماس (السنية) هي إحدى مفاصل محور المقاومة الذي تقوده، تعرف جيداً أن ما فعلته بالتنسيق مع أذرعها سيؤثر وبعمق على المشهد في المنطقة، لكنها أيضاً لا تعرف كيف، فمن يضمن كيف سيكون رد الفعل الإسرائيلي والأميركي ومن خلفهم حلفاء تل ابيب وواشنطن في المنطقة في حال توسّعت الجبهات؟
ومع ذلك فإن إيران تصعّد عبر الحوثي وعبر حزب الله اللبناني وعبر ميليشياتها التي تستهدف القواعد العسكرية الأميركية في العراق وسورية، فماذا تريد إيران من وراء ذلك؟
انظر إلى الاداء الروسي وتعاطي الرئيس بوتين المشغول بحربه مع أوكرانيا، تجاه الحدث في غزة. حينها ستدرك أن هذه الحرب ليست أقل من فرصة كبرى للاستثمار من جانب كافة القوى المتناقضة ليس في الشرق الأوسط وحده، وإنما في العالم.
فجأة تحوّلت روسيا إلى مدافع عن القضية الفلسطينية في المحافل الدولية، في مجلس الأمن، وفي موسكو تستقبل وفد حماس، وهناك معلومات عن تسرّب تكنولوجيا عسكرية روسية مضادة للطائرات إلى حزب الله في جنوب لبنان.
كذلك الصين وكوريا الشمالية، ودول اميركا اللاتينية التي قطع بعضها علاقاته مع إسرائيل وقام بطرد سفيرها من أراضيه تأييداً للفلسطينيين، يضاف إلى هذا كله التراجع الملحوظ في منجزات التطبيع الخليجي مع تل أبيب، ومعه اتفاقية وادي عربة في الأردن التي استدعت سفيرها من إسرائيل أيضاً.
يشير هذا كله إلى انشطار عالمي، ترسمه هذه المرة جهات ليس لديها رؤية ديموقراطية للمستقبل، سواء كانت هذه الجهات إيرانية أو إسرائيلية، فالطرفان يحرّكهما التشدد الديني وأساطير حروب نهاية التاريخ القادمة.
انشطار العالم هذه المرة ليس سياسياً وحسب، بل حتى حيال المنظومة الأخلاقية التي تتقبل المجازر، مقابل منظومة ترى أنه من المشروع لها أن تقاوم الاحتلال بكافة السبل بما فيها ارتكاب ما اعتبره كثيرون في العالم عدواناً على المدنيين.
لا جديد في الدعم الأميركي لإسرائيل، الجديد في ارتفاع أصوات ترفض هذا الدعم غير المشروط بالقيم الديموقراطية الأميركية، حتى بين ملايين اليهود في الولايات المتحدة رأوا أنه ليس من صالحهم ربط علاقاتهم مع الآخر ـ المسلم بما تفعله إسرائيل.
إذا تصاعدت الحرب وتوسعت الجبهات فإن هذا الانشطار سيتوسع بدوره، ويعيد تركيب العالم، ليس بشكل قطبي كما كان الجميع يتوقع بعد زوال الاتحاد السوفييتي وسيادة قطب عالمي وحيد هو الولايات المتحدة، وليس بظهور القطب الصيني، ولكن باتجاه خارطة صراع الحضارات بالفعل، كما توقع صموئيل هنتنغتون يوماً ما، الذي لو كان اليوم على قيد الحياة كان سيشعر بالمزيد من التباهي لأن نبوءاته التي رفضها المفكرون تتحقق عملياً أمام أنظار البشرية. لكن ليس بسبب صدق هنتنغتون، إنما بفعل تنفيذ أجندة مسبقة تريد للواقع أن يكون كما تم التنظير له.
قال هنتنغتون ذات يوم إن الغرب لم يسيطر على العالم بسبب أفكاره وآرائه ودينه بل بسبب تفوقه العسكري، وينسى الغربيون دائماً هذه النقطة، لكن لا ينساها أبدا غير الغربيين.
وهو نفسه الذي أكّد بشكل مفاجئ أن “الإسلامين ليسوا هم التهديد الحقيقي للغرب”، لعل هذا يفسّر اعتماد القوى الغربية في لحظات فارقة في التاريخ المعاصر على دعم الإسلاميين لإحداث التغيير، فهم في نظرهم ليسوا المشكلة، بل المشكلة كما رأى هنتنغتون هي في الإسلام نفسه.
اعتبر هنتنغتون أن الإسلام، تلك الحضارة المختلفة التي يؤمن أصحابها أن ثقافتهم هي الأعلى، ويحسون بحرج كبير بسبب ضعفهم هو سبب الواقع المضطرب والفوضوي.
مثل هذه النظرة التي تستهدف المجتمعات وعمقها الحضاري تولّد حركات متطرفة دينياً باستمرار، وتجعل من دعم الميليشيات والسماح لها بالتكاثر استراتيجية خطرة، بدلاً من مساعدة الدول العربية والإسلامية على النمو والازدهار.
إن غض النظر الأميركي عن التمدد الإيراني في الشرق الأوسط واحتلال ميليشيا الحرس الثوري المصنّف إرهابياً لأربع عواصم عربية، بغداد ودمشق وبيروت وصنعاء، لم يكن بلا مبررات بعيدة المدى، تبحث عن صراع قادم، ولا تريد لهذه المنطقة أن تعيش بسلام. ومثل هذه النظريات التي ترغم العالم على المضي فيها، لا تقود إلى مفاجآت، بل إلى معادلات شديدة التعقيد تجد نفسها وسطها، لكنها كما تقول الأوساط الغربية اليوم، لا تعرف كيف ستخرج منها وإلى أين ومتى؟