خاص – د. يحيى العريضي
ثمة حسابات دقيقة تلوح في الأفق بعد غزة، وفي الاتجاه التصادمي، نحو تغيير قواعد التعاقد مع الانظمة الوظيفية. لقد دمّرت الحرب بُنى حيوية في غزة، وقد تطال إيران أو نظام الأسد أو حزب الله عسكرياً؛ لكن كيف يضمن المتعاقد الغربي بعدها عدم استعادة هذه المنظومة الوظيفية قدراتها؛ وخاصة وإيران التي لديها نخبة علماء وباحثين و عسكريين، و بنية تقانية، و موارد، وعلاقات لا يُستهان بها؛ فهل تجهيز البديل وارد، إن كان في سوريا، او عبر خط شيعي معتدل في لبنان، يرث صقور حزب الله، أو مثله في سوريا، أو العراق، أو حتى بإيران ذاتها؟
إن حجم القوة المحتشدة لهذا الحدث تشير إلى أن الضربة ستكون قاصمة؛ ولكن، لسبب أو آخر، – إن لم تكن- ستحتاج إسرائيل ومن ورائها أمريكا إلى بدائل سياسية حتماً. وإن كانت لمجرد إضعاف القدرات الاستراتيجية، فكيف ستضمن تلك القوة عدم تجدد القدرات؟ لذلك تتجه المؤشرات العقلية الى خيار البدائل؛ وهذا سيرفع القيمة السياسية بهذه الحسابات لقوى يعتبرها الأصيل (الغرب) “معتدلة”.
لقد أدخلت منظومات الاستبداد نفسها بنفق لا رجعة فيه؛ و خسرت آخر اوراق اللعبة؛ وسيحتاج الاصيل – لفتح بند تقاص مصالح – الى صدام مباشر بعد غزة. ولكن ننظر حولنا، فنتأكّد أن نظام الأسد غير قادر بحكم الهشاشة والفشل، ولا حزب الله بحكم التزامه بخطوط ما بعد ٢٠٠٦، ولا ايران كطرف أصيل قادرة، اذا ما كانت تحت ضربات او عقوبات آتية بالحالتين.
وضع المنظومة السياسي والاقتصادي ككل يتآكل، وخاصة أن كعكة التطبيع قد أخذت مسارها، وستتسارع بعد غزة بفعل تقلص العصف الشعبي، و خطوط الطاقة تلتف حول ايران و سوريا . والروسي من جانبه مأزوم وغير قادر على تغيير الواقع، بسبب انشغاله بالبحث عن صفقة بأوكرانيا و سوريا؛ والصين تَسْهُل قيادتها وفق مصالح كعكة التطبيع، وثقل السعودية معها، وما أتت إلى الشرق الأوسط مأدلجة بل باحثة عن بعض الجدوى الاقتصادية.
رغم فداحة ما يحدث حربياً وبشرياً وشعبياً، تتجه إسرائيل لترتيبات تتجاوز غزة والأمن القومي إلى عدة أهداف استراتيجية. القادم في الاستراتيجية الأمرو-إسرائيلية هو الوقت الأثمن لضرب مشروع إيران النووي؛ و لمد خطوط طاقة متوسطية إلى أوربا. يحدث الآن تساوق أهداف بالصدفة التاريخية بين إسرائيل وأمريكا. فما تحققه اسرائيل من خرق وتآكل في المنظومة الايرانية سيضعف ويعزل الروس، تنفيذاً لاستراتيجية أمريكية قوامها أوكراني، تُقَلِّص سِلَّمَ التقاص لموسكو، و تكرّس الريادة الأمريكية. إن الردع الذي ستظهره تل ابيب و واشنطن الآن هو تعويض هيبة؛ إنه ردع اختلَّ معادله السياسي والاقتصادي في منطقةٍ مَن يسيطر عليها له القول الفصل في كوكبنا.
قد تفكّر المنظومة التخادمية، والتي باعت شعوبها سرديات المقاومة والممانعة والعداء لإسرائيل بالسلام مع هذا العدو؛ ولكنها ستجد إسرائيل ذاتها تتمنع عن قبول ذلك مع تلك المنظومة الهشة داخلياً، حتى ولو كان سلاماً مجانياً يحتوي التنازل العلني عن الجولان. لن يكون سلام مقابل الأرض؛ ولاحتى سلام مقابل السلام، بل فرض شروط إذعان يمليها فائض القوة الذي سيظهر بعد غزة، وفائض التآكل الوظيفي والاستراتيجي والقدراتي في المنظومة؛ وقد يكون حتى “سلام الإذعان” صعب المنال.
إن استنساخ ايران أي نموذج سني أًو مموه عن حماس سيحتاج أرض عمليات، ولكن لن تتحمل أي جهة عواقب ذلك، خاصة عندما تكون إيران بانتظار حزمة عقوبات اضافة لما هو متوقع من تداعيات هذه الحرب؛ حيث سيتم التشديد على كل منصة تجيّش او تتعاطف إعلامياً، وعلى كل صندوق مالي تحت أي مسمى، وعلى كل منهج تعليمي تصادمي.
لن يتحمل أي حزب سياسي بإسرائيل كلفة تماهي جديد او تهاون مع تهديدات منطقة.
تحت تاثير صدمة غزة وتشعب عقابيلها، ستجد إن الاحزاب التي ستقود المرحلة القادمة في إسرائيل هي تلك المتبنيّة للخط الاستئصالي التصادمي الاستباقي. سيتم تكريس عصر الصقور الاسرائيلية الشارونية لزمن. على الجانب الأمريكي، سيكون أول بند بحملة انتخابية أمريكية قادمة هو مَن يدعم القضاء على أعداء إسرائيل. وستخفت الأصوات التي دعمت مصالح أمريكا مع إيران بالمطلق.
في الجانب الوظيفي التعاقدي، تبدو المنظومة هزيلة لأنها أحرقت سفنها، عندما تركت بيتها الداخلي تحت الاستبداد يقبل أي خيار إلا بقائهم.
ستواجه المنظومة الوظيفية تداعيات غرورها بلعبة البيادق القديمة التي توجت بخرق غزة وسوء التقدير الاستراتيجي والسياسي. و إذا ما حاولنا تقدير التآكل الاستراتيجي للمنظومة، فهي خسرت شعوبها بلبنان وسوريا وايران من جانب؛ و خسرت خط تماهي وظيفي مع أمريكا بالمنطقة أعطاها أوكسجين مراراً سابقًا عند كل تقاطع. لقد نقلت غزة العقيدة الامنيةً الاسرائيلية الى اعتبار أول استئصالي لا براغماتي.
والاهم بعد غزة، ستظهر إيران ومنظومتها ككيانات مارقة تحت العقوبات؛ و لن يطرق الخليجي بابها تفاوضياً، خاصة بعودة أمريكا كلاعب وحليف. لقد ثبت أن ذاك الذي يسمي نفسه “محور المقاومة” بارعٌ في التكتيك القصير والمتوسط، ولكنه غبيٌ في الاستراتيجي التراكمي المديد.ها هو ينتحر تحت نفس القواعد التي أتت به وتساوَق حولها، فيما مشانق العدالة تنتظره داخل قلاعه.
سيتقبل الشارع الاسرائيلي والأمريكي الآن كلفة مضافة معقولة لفاتورة غزة أفضل من فاتورة مضاعفة ألف مرة، تُدفَع لاحقاً. إذا لم تضرب امريكا واسرائيل اليوم بعد متغيّر غزة، فلن يقبل الشارع بعد وقت كلفة اقتلاع المنظومة. أما الآن فتبدو كلفة لزوم مايلزم في سبيل أمن مستدام سياسي اقتصادي اجتماعي.
الضحية الفلسطينية مَّمثلة بحماس ذهبت بيأس الى خيار عدمي. لقد اختارت اسلوب الصدمة والترويع؛ لذلك لم تتحفظ على صور وممارسات معينة لتحدث أكبر أثر شعبي يعقِّل او يكبح ردة الفعل العسكرية لإسرائيل. لقد أتى ذلك بنتائج عكسية وحدت الاسرائيلين، على الأقل للمدى المنظور، وبررت الرد بعنفٍ يتجاوزالصدمة والترويع، ليكون عبرةواسترداد هيبة. ويبقى غير معروف أي متغير خارج هذا السياق يمكن ان يعيد القواعد الوظيفية القديمة الآن.
إن الأسوأ قادم على المنظومة الوظيفية بكل مستوياته؛ فها هي منصات المنظومة المارقة الوظيفية تتوحد بوضوح وعلنية، وجميعهم غارقون في أزمات كبرى عسكرية وسياسية واقتصادية وشعبية. و إذا كان لطرف بينهم خط رجعة فهو عبر بيع الآخر. فهل تبيع روسيا إيران والنظام؟ أو تبيع إيران النظام؟ أو يبيع النظام إيران و حزب الله؟ و الاحتمال الأخيرهوالأكثراستبعاداً، بحكم ضعفه التام. آن الأوان لتأكل المنظومة محاورها في صفقات النجاة، أو في ضربة مدمرة إذا ذهبت لخيار عدمي؛ او تبقى تنزف بثبات مع تقلص حاد في الموارد ومساحة اللعب والتأثير. وفي التداعيات أيضاً نشهد تآكل الوزن الدولي للحليف الروسي المتّهم اليوم من تل ابيب بالتواطئ مع حماس. فعلى الجانب الروسي مثلاً؛ سيكلف الفيتو الروسي بوتين غاليًا في أوكرانيا، رغم أن الفيتو كان أقصى ما يمكنه فعله؛ فحتى لو أُبرِمَ صلحاً في أوكرانيا، ستكون أولوية روسيا إعادة تأهيل اقتصادها المتضرر وقضايا أخرى، ليس من بينها الدفاع عن منظومة انتهى وقتها، وأصبحت كلفة عدمية.
فوق هذا، يمكن إخراج إيران من ملف العراق بحزمة دعم لبغداد وفق خط بمسافةٍ أبعد عن طهران؛ فهناك شيعة عرب، وهناك حزب بعث سابق، و هناك سنّةٌ مناسبون، وهناك عشائر عربية سنيّة تصطف خلف توجه أمريكا بحال شاهدوا وأيقنوا تهالك ايران.
ما الذي يمكن أن يفعله حزب الله بظل انكفاء إيراني كامل، وضغوط لبنانية شعبية معاكسة، وعجز دمشق وظيفياً؟ و الجواب: لا شيء. و لن نراه يغامر بحرب تشبه ٢٠٠٦، يعرف كارثية نتائجها. وهذا ينطبق على الحوثي بحال ذهبت المنظومة في لحظة يأس كاملة وفق ما قدّرت، وفجّرت المنطقة من باب المندب عبر الحوثي لقواعد امريكية شرق الفرات، مرورا بالمنطقة الخضراء ببغداد، وحتى الجولان.
بخصوص التطبيع الخليجي مع دمشق ، فإن كل ذلك سيتوقف. كل ذلك لأنه لن يكون في سدة القرار في واشنطن و تل ابيب اي جناح تصالحي. من جانب آخر، و في وقت قريب، سيلاقي ملف القضية السورية جدية دولية وزخم كبير عند فحص البدائل؛ وحراك السويداء في هذا المفصل يأتي، و كأنه صدفة سماوية.
وفي التداعيات، و الأهم من كل ما سبق، بخصوص القضية الفلسطينية، فإن طرح “الدولتين”، لن يجد سوقاً على المدى القريب؛ ولذلك جملة من الأسباب تتمثل بأنه سيخفض قيمة إسرائيل السياسية والاستراتيجية بعد تآكل مفاجئ وحاد في هيبتها التي أعطتها على الدوام ديّة تفاوضية أعلى؛ ولأنه سيرفع سقف مطالب دول الخليج التفاوضية في التطبيع؛ وسيشجع النظام السوري على تغيير قواعد الاشتباك بالجولان، إذا ما تم خلق مقاومة مموهة؛ ولأنه سيشجع الروس على مستويات عنف أعلى في أوكرانيا؛ و يشجع ايران على المضي بمشروعها النووي. كل هذا ممكن اذا افترضنا بقاء الانظمة الوظيفية لمرحلة، وعدم المساس بها او بقواعد المكان. و طالما الأولوية الإسرائيلية الآن لاسترداد الامن والهيبة، فلن يأتي حلٌ بالمدى القريب مثل حل الدولتين الا بعد عودة مضاعفة للأمن والهيبة الاقليمية والدولية لتل ابيب.
أخيراً، {والعواطف والأماني جانباً} إن هزيمة إسرائيل أو خروجها دون انتصار كامل، وخاصة أن أمريكا بثقلها و بتحالفاتها تحمل لواء الحرب- سيكون له ارتكاساته و آثاره على مصالحها وموقعها التفاوضي و مصالحها العالمية. فإن لم يكن هناك نصرٌ بائن لصالحها، ستدخل الصين بزخمٍ الى الخليج العربي، وربما تباشر بضم تايوان؛ و سيرفع بوتين معدلات العنف وخلفه اصطفاف دولي جديد في الملف الاوكراني؛ وستتمدد بيلاروسيا شرق الناتو؛ و ستكسر كوريا الشمالية العزلة الدولية؛ و سيتزايد الزخم التحرري بافريقيا من وصاية اوربا وإرثها؛ و ستتأثر السياسات النفطية والأسعار من منظومة مواجهة لواشنطن؛ و ستقوى المنصات النقدية العالمية ضد الدولار، وسيرتفع الروبل؛ و سيتم دعم استراتيجية إنهاء هيمنة أمريكا على عصب الاتصالات العالمي؛ و ربما تتجه تركيا بكل قيمتها الاستراتيجية كبلد تعبره خطوط الطاقة الى روسيا وايران؛ و حتى بعض الانظمة الاقليمية الوظيفية ستنهج سياسات عاصية لواشنطن في ملفات متشعبة. بالمختصر إن عدم خروجها وإسرائيل منتصرة بالمطلق في غزة، ستقوّض الوزن الاستراتيجي والعملياتي للولايات المتحدة في الشرق الاوسط والعالم؛ والعكس صحيح. و بالمناسبة، ستبقى كل حلول انفراجية معطَّلَة، حتى تكريس القوة والهيبة والامن القومي. لكل هذا نرى هذه الترسانة الغربية في المنطقة، والتي تفوق ترسانة الحرب العالمية الثانية بألف مرة.