خاص – إبراهيم الجبين
1
المساء في بيت رياض سيف في صحنايا ريف دمشق ـ نبيل المالح وأنا، نجلس في الصف الثاني، نتهامس عن رجل وقف ليعلق في إحدى الندوات. ظهر الرجل ببنطلون أبيض قصير مخطط طولياً بخطوط رمادية رفيعة. كان رياض سيف قد أعلن تحويل بيته مقراً لـ “منتدى الحوار الديمقراطي”. لم أكن أعرف من الرجل الذي يتحدث بأناقة شبه لباسه، سألت نبيل: من هذا الرجل المختلف؟ قال: هذا صادق جلال العظم. ولم أكن قد رأيته من قبل. كان نبيل مزهواً به، سألته: ما سر أناقته؟ قال: شامي. وابتسمنا لأننا لم نتمكن من الضحك بصوت أعلى.
أثناء كتابة هذه المشاهد، عثرت بين أوراقي على وثيقة قديمة كتبها الصديق الدكتور رضوان زيادة عن ربيع دمشق، مفتتحاً إياها بما يلي “قال رياض سيف في حوار مع مجلة نيوزويك في 23 أبريل 2001 “مشكلتي أنني أمثّل أناساً لا يستطيعون سوى الصلاة من أجلي، أما التظاهر في الشوارع فهو أمرٌ لن يغفره النظام أبداً، حتى لو علقت على عود المشنقة، فإنهم لن يستطيعوا سوى البكاء عليّ”. وكنت أبحث عن هذا الخيط تحديداً، لأقول؛ لكن صادق جلال العظم لم يكن يرى ما رآه سيف. فقد كان يؤمن بأنه يمثل الجميع، وليس فقط أولئك الذين لا يملكون سوى الصلاة والبكاء.
إجرام الصحافة
كانت حركة لجان المجتمع المدني قد بدأت في بيت نبيل المالح، وكان شجاعاً كفاية ليعلن هذا ويشجع عليه، قبل أن ينقل رياض سيف وعداً من عبدالحليم خدام، بأننا جميعاً يجب أن نتريث، لأنه سيصدر قانوناً للأحزاب عما قريب. وبناء على هذا، انفض مجلس نبيل المالح، وذهب رياض سيف بعيداً في “مبادرة مبكرة” محولاً بيته كما قلت إلى منتدى للحوار الديمقراطي. وفي إحدى الجلسات قال سيف “نريد أن نبلغكم بأننا نعلم اليوم تأسيس حركة السلم الأهلي، وبهذه المناسبة، فإن زوجتي قد أعدت لكم المهلبية الشامية اللذيذة، فتفضلوا لتناولها”.
يقول زيادة “إن تعجّل رياض سيف في الإعلان عن حركته وعدم توفقه في صياغتها الملائمة خلق ردة فعل سلبية للغاية خاصةً من المسئولين الرسميين كما ظهر ذلك في تصريحاتهم وأقوالهم. وهو ما عجَّل بالبدء في كبح نشاط المنتديات وكبتها، إذ وجدت السلطات السورية في انتشارها بداية “لمقاومة سلمية وشعبية واسعة، كما وجدت في ازدياد شعبية سيف ونشاطه مؤشراً ينذر بتغيير مخيف سيّما وأن بعض الصحف العربية والأجنبية أصبحت تشبّهه فاليسا سوريا ودعوته إلى السلم الاجتماعي أشبه بحركة التضامن البولندية…لكن جاءت المحاضرة الأخيرة في “منتدى الحوار الوطني” بعنوان “المأزق السياسي وإشكالية التعثر الديمقراطي في سورية” (لزيادة نفسه)، وقد شهدت اهتماماً إعلامياً لافتاً، سيما لجهة طرحها لسيناريوهات التحول الديمقراطي المستقبلية في سورية، وزاد حضور البعثيين من فرع جامعة دمشق النقاش توتراً وسخونة الذي استمرَّ على مدى خمس ساعات متواصلة، كان يتقطع في بعض الأحيان نتيجة الحوارات الثنائية الحادة بين أحد البعثيين وأحد الحضور، وبحضور أحد الصحفيين الأمريكيين الذي طلب الكلام ليشكر التجربة السورية في هذه المنتديات، وليقول إن هذه التجربة لا نجد مثيلاً لها في الولايات المتحدة بحكم سيطرة وهيمنة وسائل الإعلام والشركات العملاقة، لكن، وبعنفٍ زائد، قاطعه الدكتور فيصل كلثوم، وتساءل فيما إذا كانت هذه المحاضرة مشيراً بيده إلى ورقة المحاضرة (المأزق السياسي وإشكالية التعثر الديمقراطي) تمثل ورقة وطنية أو أمريكية؟، وهنا علا صياح الرفاق البعثيين الآخرين مطالبين بطرد هذا الصحفي الأمريكي الجريء ومتهمين إيّاه بأبشع النعوت دون حتى أن يسمعوا شيئاً من كلامه الذي يتقاطع في النهاية مع ما يودّون أو يرغبون في التحدث عنه”.
بعد ذلك حدث التحول، وتمثل كما يقول زيادة بتحريف الحادثة في الإعلام بتوجيهات معينة. و”مهما يكن فإن ما حصل وبكثيرٍ من التحريف نُشِرَ على هيئة تقرير في صحيفة “الحياة” بعنوان (تساؤلات “بعثية” عن حضور دبلوماسيين وأجانب المنتديات) وهو مقال لابراهيم حميدي، نشر في 9/2/2001. وقد كان هذا التقرير مستنداً لدى الكثير من المسؤولين السوريين للتذرع بأن المنتديات “مخترقة” من الخارج، وبناء على التقرير نفسه اعتبر الرئيس بشار الأسد على أن المنتديات قد أصبحت واجهة لجهاتٍ خارجية، وهذا ما صرّح به أحد المسؤولين السوريين الذين التقوا الرئيس بشار الأسد وناقش معه رؤية الإصلاح السياسي في سورية وذكّره مراراً بتقرير جريدة الحياة المذكور عن نشاط المنتديات”.
كان صادق العظم حزيناً في تلك الأيام، فهو كاد أن يصدق أن بشار الأسد، ربما يكون مختلفاً عن أبيه، وأن عهداً جديداً مع رئيس درس الطب واحتك مع العالم الخارجي قد يكون بدأ بالفعل. لكنه واجه الحقيقة المؤسفة، وهي أن نظام بشار الأسد بدا أكثر شراسة من نظام والده حافظ. وتمثل ذلك بإغلاق المنتديات واعتقال أصحابها.
2
أخفي بين بيدي، تحت الطاولة، أوراقاً مطبوعة لسيناريو حوار جاهز أعددته من أجل اللقاء مع صادق جلال العظم في برنامجي “علامة فارقة” الذي كان يعرض على الفضائية السورية. كنت قد اتصلت بالعظم ووافق على الحديث، قال إنه كان يتابع الحلقات، وأنه معجب باختلاف الحوار عن نمط الإعلام السوري. وكان هذا كافياً لي كي أسعى إلى أن يوافق القائمون على التلفزيون السوري على ضيفي.
لم أجد فرصة لطلب هذا سوى في قصر النبلاء، في عشاء دعيت إليه، حضره وزير الإعلام السوري وقتها محسن بلال. وبالطبع لم أكن لأفوت فرصة لأقص عليه قصة العظم مع قصر النبلاء من جديد، لأستفز لديه جانباً يدفعه للموافقة. قلت للوزير إن العظم ظهر في برنامج حوار العمر مع جيزيل خوري قبل سنوات، وروى أنه دعي إلى مناسبة هنا في هذا المكان (قصر النبلاء) وحين وصل بسيارته القديمة، استغرب الحراس في الخارج أن يكون صاحب هذه السيارة واحداً من المدعوين الأثرياء إلى “قصر النبلاء” فما كان من العظم إلا أنه قال للحراس :أنا النبيل الوحيد بين هؤلاء.
وحين انتهيت من نطق آخر كلمة، انتبهت إلى الخطأ الكبير الذي وقعت فيه، فآخر ما يمكن ان يفكر فيه ممثل نظام الأسد، تكريم أحد نبلاء سوريا العريقة. ولم يخب ظني، فقد بدأت ملامح وتعابير وجه بلال بالتغير واحمر وجهه. وغيّر الموضوع متحدثاً إلى حنان قصاب حسن التي كانت تجلس قربي حول دمشق واحتفاليتها.
5
اندلعت ثورة السوريين، ولم يكن مفاجئاً بالنسبة لي موقف العظم. فقد تبينت أفكاره من خلال كتبه، ومن خلال زجه بالفكر في قلب الحياة، باعتباره من المفكرين بصوت عالٍ، أي بالتجريب لا بالحكم المسبق.
وهكذا كان العظم من أوائل الداعين إلى التظاهر والاعتصام أمام وزراة الداخلية في 16 آذار 2011 لمطالبة بالافراج عن كل معتقلي الرأي والضمير في سوريا.
كان العظم يقول “بدها فتّيشة وتنفجر” وكان يقصد أن ثورة السوريين قد بدأ مبكراً في ربيع دمشق الذي يعتبر المقدمة الموضوعية لربيع العرب الذي أتى لاحقاً.
6
في القاهرة، وأثناء التحضيرات لمؤتمر القاهرة الموسع للمعارضة السورية والذي شهده صيف العام 2012. حدثني الصديقان الشاعر نوري الجراح و المناضل والشاعر جورج صبرا عن حاجة رابطة الكتاب السوريين لعقد اجتماع تجرى فيه انتخابات ديمقراطية لاختيار رئيس وأعضاء مكب تنفيذي. وأنه لا يوجد تمويل، والأهم أن الرابطة لا تريد أن تطلب مساعدة الدول التي تدعم قضية الشعب السوري، ولا مؤسسات المعارضة، كانت حينها المجلس الوطني، رفضت الرابطة هذا كله، كي يبقى قرارها مستقلاً. قلت للصديقي الجراح وصبرا، هل يمكنني أن أحاول تأمين تمويل للاجتماع؟ سألا على الفور: كيف؟ قلت: سنرى. وكانت، حينها وما زالت، تربطني صداقة وثيقة، شخصياً وعائلياً، بالمهندس وليد الزعبي، رجل الأعمال السوري الحوراني الأصيل، الذي لم يتوقف عن دعم الثورة السورية بكل ما يستطيع. سواء في العملية التربوية أو الثقافية أو الإنسانية (افتتح حتى العام 2016 أكثر من 82 مدرسة مجانية للأطفال ما بين تركيا والمخيمات والأردن والداخل السوري). ولم تكد تمض عشر دقائق حتى وصل الزعبي إلى طاولتنا في البهو، وكنا جميعاً نزلاء في فندق سمير أميس الشهير في مصر الجديدة.
قلت له، أمامهما: إن صديقينا أبو شادي وأبو رامي قد حدثاني عن أزمة في تمويل أول انتخابات ديمقراطية لرابطة الكتاب ولنقابات أهلية سورية في عصر الثورة. وأعتقد أن عليك أن تتدخل. وضع وليد يده على صدره وقال: على العين والرأس. وانتهى الأمر. وبدأنا التخطيط لعقد الاجتماع.
طفل سعيد بالديمقراطية
كان نوري الجراح وحسين العودات وحسام الدين محمد ومفيد نجم ولينا الطيبي وفرج بيرقدار وخطيب بدلة وآخرون قد دفعوا بكل ما يملكون من طاقة، ليجري تأسيس هذا الكيان الذي سيشهد أول انتخابات ديمقراطية في المؤمر الذي نظمناه في القاهرة. وحين جرت الانتخابات كان صادق العظم أقل الناس كلاماً. كان يريد لهذه الرابطة أن تتأسس وتمضي قدماً في جمع المثقفين السوريين. كان سعيداً مثل طفل كبير. وكان يضحك لكل وجه يراه في الفندق القاهري. أراد أن يقول: لقد نجحنا في الخطو نحو الأمام رغم كل شيء.
في القاهرة قال صادق لرفاقنا عني كلاماً سرني. واعترف بأنه لم يسمع بي من السوريين أنفسهم ولا مرة واحدة في الماضي، ولكنه عرفني من خلال ما حدثه به الأوروبيون الألمان تحديداً، ومنهم البرفيسور دان دينر، والبروفيسور عمر كامل، الذي وجه الشكر في مقدمة أطروحته لنيل الدكتوراه من جامعة لايبزغ والمعنونة “الهولوكوست في الذهنية العربية” إلى كل من صادق جلال العظم وإبراهيم الجبين وجورج طرابيشي. وكان هذا يسعدني كلما كرره صادق العظم، إذ أن جهدك لا يضيع يوماً، حتى لو عتّم عليه طويلاً هذا الضئيل أو ذاك.
7
الدوحة خريف العام 2012 لحظة تأسيس الاتئلاف السوري، كانت مغايرة تماماً للحظة الي سبقتها حين تأسس رابطة الكتاب السوريين، وخاضت تجربتها الديمقراطية الأولى. كان صادق العظم قد قل دعوة رياض سيف ذاته، للحضور إلى الدعوة للمشاركة، كرئيس لرابطة الكتاب السوريين، في تأسيس جسم سياسي بتطويب دولي.
كنت أراقب. وحين جلسنا وحدنا، سألته إن كان موافقاً على ما يقوله سيف، وعن هدم المجلس الوطني مقابل إنجاح مشروع روبيرت فورد السفير الأميركي الأسبق إلى دمشق، والمعني بالملف السوري سنوا خلت. قال العظم إنه ليس متأكداً. ولكنه أضاف “شو عليه؟” وشرح طويلاً كيف أن على السوريين أن يزجوا أنفسهم في المختبر السياسي، لأنهم من غير هذا. لن يتمكنوا من التقدم أبداً، وسيبقون في فلك الاستبداد، وفي حدود الوعي الذي سجنهم فيه الاستبداد.
لم أكن أتوافق مع العظم على هذا، وسبق لي أن رفضت الذهنية التي يصدر عنها رياض سيف. لا رياض بحد ذاته، فهو رجل طيب وضحية كبرى لنظام الإجرام. لكني أعني تلك الأفكار التي يمكنها أن تقول بالفعل في نهاية الأمر “مشكلتي أنني أمثّل أناساً لا يستطيعون سوى الصلاة من أجلي، أما التظاهر في الشوارع فهو أمرٌ لن يغفره النظام أبداً، حتى لو علقت على عود المشنقة، فإنهم لن يستطيعوا سوى البكاء عليّ”. الأفكار التي لم يكن صادق العظم ليوافق عليها. وكان يعلم أنه حين يواجه الاستبداد، فسيخرج خلفه مئات الآلاف من السوريين، ولذلك كانت قيادته ضرورية لجبهة المثقفين، وإن كانت تلك الجبهة قد اكتنفها الكثير خلال مسيرتها السابقة. لكن لحظة عميقة خائنة كانت سبباً في تردد العظم في المضي في الخروج، والتفكير في المشهد الذي رسمه سيف بكلماته اللعينة تلك. لحظة كانت قد بدأت تأخذ العظم بعيداّ ولو خطوة.
7
بـ “العلوية السياسية”، بدأت أثق بأن العظم، ابتعد كثيراً في التفكير، لم يكن يائساً من الواقع، لكنه أراد ابتكار واقع آخر. ابتعد عن المعنى الثوري المتفجر، إلى الأمل باستنساخ حالة سياسية ما. كان بتمدّنه لا يصدّق أنه من الممكن أن يفعل حاكم بسوريا كل هذا. أراد أن ينزل عليه لباساً آخر ليس من أزيائه. فاختار له، ما عاصره العظم شخصياً في لبنان. إنها “المارونية السياسية”.
قال المعلم الشهيد كمال جنبلاط عنها إنها نظام عنصري. وأنها تنظر بنظرة مغايرة متطرفة إلى الآخرين، سواء كانوا مسيحيين أرثوذوكس أو أرمن أو مسلمين دروزاً أو سنة أو شيعة. ولكن المارونية السياسية كانت قد تقدمت في تشكيل ذاتها كمجتمع وسط مجتمعات. ونمت بينها أحزاب وحركات تمارس السياسة على مسرح السياسة والديمقراطية اللبنانية بنسخها ما قبل الحرب وفي الحرب وما بعدها.
الحالة العلوية في سوريا، لم تقترب ولا بالأرقام الفلكية، من المارونية السياسية. والحقيقة أنها كانت أمنية للعظم أكثر من كونها حقيقة. فالعلوية في سوريا لم تمارس السياسية بل انقض على السلطة، ولم تلعب في المسرح الديمقراطي بل في السجون والمعتقلات وعلى ظهور الدبابات. ولم تقبل، كما تمنى العظم، أن تدنو من فكرته ولو قليلاً، لذلك لم يخرج من بين العلويين السوريين حركات سياسية تقف في وجه الآلة الوحشية التي مثلها الأسد، لا قبل الثورة ولا في زمن الثورة. وهو ما يصيب الفكرة بالإحباط وينفي إمكانية تحققها. فلن نرى ذات يوم “كتائب علوية” ولا “تيار مردة علوي” ولا ” قوات علوية”.
8
تجوال صادق جلال العظم في بيت جدّه الذي كان يتندر أنه اعتاد على ممازحة حارسه بالقول “انتا بتدفع دخولية لما بتفو على بي جدك؟” لم يكن يغيب عني لحظة واحدة، وأنا أتابع أخبار مرضه وتداعي صحته واكتشاف الورم في الرأس. ثم فشل الجراحة وإشاعات الموت بين الحين والآخر.
كان يغيب ويعود. لكنه كان يذهب إلى قصر العظم. إلى بيت العائلة التي حكم بلاد الشام قروناً. بعد أن قدمت من معرة النعمان، تداخلت يومياتها بيومات دمشق وسوريا. وأصبحت جزءاً من التاريخ السياسي والثقافي والاجتماعي للسوريين. لم يكن صادق جلال العظم يؤمن بإقطاعية وطبقات وتمييز بين الناس، لكنه كان يواجه الترييف المتعمد الذي مارسه نظام الأسد الأب والابن بحق دمشق والمدنية السورية، بتلك النبرة المتعالية. وكانت تلك النظرة تترك في ملامح النظام ما تركته كلماتي عن صادق العظم التي قلتها في قصر النبلاء لوزير إعلام الأسد ذات يوم.