لم تشهد الولايات المتحدة الأميركية منذ أيام المكارثية أزمة رأي ورأي آخر، وتصدّعاً في حرية التعبير كما يجري منذ يوم السابع من أكتوبر الماضي، التوقيت الذي هاجمت فيه حماس المستوطنات الإسرائيلية في غلاف غزة، وما تبع ذلك من رد إسرائيلي عنيف تسبب في مقتل الغالبية من ضحايا ذلك اليوم، ومن ثم حملة عسكرية بلا رحمة ضد الحجر والبشر في قطاع غزة كله.
وعلى الرغم من أن الأميركيين لم يترددوا في التعبير عما يرونه بحريتهم الكاملة، بالإضافة إلى التظاهرات التي شهدتها معظم الولايات لا سيما العاصمة واشنطن، والتي ترفض حرب نتنياهو ضد الفلسطيين، إلا أن ذلك يجري وسط مناخ مشحون زاخر بالاتهامات والطعن في قيم ومبادئ كل من يطالب بوقف إطلاق النار، حتى أولئك الذين يدينون حماس ويعتبرونها حركة متطرفة تسبح في مدار إيران.
رئيسة جامعة هارفارد كلودين جاي وصفت المظاهرات التي يقوم بها طلاب الجامعة للاحتجاج ضد إسرائيل. وسرعان ما جرى اتهامها بمعاداة السامية وتم استجوابها في الكونغرس، مع أكاديميين آخرين، وتم اجبارها على الاستقالة.
لتجد نفسها أمام مواجهة تهمة جديدة بالسرقة الأدبية في أربع أوراق بحثية.
إنه انتقام من أصحاب الرأي الآخر، بدأ مع السؤال: هل تدين هجوم السابع من أكتوبر؟ قبل كل شيء، الذي بدا كنوع من الغزو الفكري حول العالم، يبدأ من إدانة رد الفعل، لا من إدانة الاحتلال والحصار. وقد قاوم كثيرون مثل هذا الحوار العنيف، ونجح البعض في كسره حتى تحوّل إلى سؤال ساخر لم يعد يقنع أحداً.
ولم تمض سوى أشهر قليلة على الرسالة التي وجهها الرئيس الأميركي جو بايدن بمناسبة اليوم العالمي لحرية الصحافة في 3 مايو/أيار هذا العام، والتي قال فيها: “ليست الصحافة جريمة، بل هي ركن أساسي من أركان المجتمع الحر. وبينما نحتفل اليوم بالذكرى الثلاثين لليوم العالمي لحرية الصحافة، نكرّم جميع الصحفيين والمراسلين والعاملين في مجال الإعلام الذين يسعون وراء الحقيقة بشجاعة. ونجدّد تعهدنا بمحاسبة كل من يسعون إلى إسكات هذه الأصوات الضرورية لحكم شفاف وجدير بالثقة”.
ويضيف بايدن “كما ينصّ التعديل الأول لدستورنا، لا يجوز للكونغرس تمرير أي قانون “يحد من حرية التعبير أو حرية الصحافة”. ذلك لأن الصحافة الحرة هي ركيزة الديمقراطية. إنها تسمح لحكومتنا ومجتمعنا بالنقد الذاتي وتصحيح أنفسنا. إنها تعلّم وتنير الطريق وتعرض الحقائق وتكشف الأخطاء. إنها بمثابة حارس على الحقيقة”.
ومادام الصحفي حارساً للحقيقة كما يقول الرئيس من داخل البيت الأبيض، فلماذا ينصّب السياسي نفسه سيداً على الحقيقة، بدلاً من التعامل الواقعي والشفاف معها؟
من جانب آخر تعرضت رئيسة جامعة بنسيلفانيا ليز ماغيل، لانتقادات وتهديدات بسبب دفاعها عن حرية التعبير في تصريحات تتعلق بمزاعم “معاداة السامية” في الحرم الجامعي. وكانت جامعة بنسيلفانيا واحدة من الأماكن التي أثيرت فيها ردود فعل داخل الولايات المتحدة على العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة. وتفاعل طلاب الجامعة على مدى أسابيع، مطالبين بوقف المذبحة ضد المدنيين في غزة. ودفعت ردود الفعل من بعض الجهات الداعمة لإسرائيل إلى استدعاء رئيسة الجامعة إلى الكونغرس الأميركي، مما دفع ماغيل إلى الاستقالة من رئاسة الجامعة لتثير هذه الحادثة جدلا عالميا.
وفي 5 ديسمبر/كانون الأول الجاري، أدلى رؤساء 3 جامعات أميركية رائدة بالإضافة إلى كلودين جاي من جامعة هارفارد، وسالي كورنبلوث من معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، وماغيل بشهادتهن في جلسة استماع في الكونغرس الأميركي حول تزايد معاداة السامية في حرم الجامعات.
لكن ذلك لم يمنع أصحاب الرأي المعارض من رفع أصواتهم، رغم مناخ الاتهام، فالقوانين الأميركية تحميك إذا كانت السياسة تحاصرك، ونشرت مجلة “بوليتكو” تقريراً يدين تراجع حرية التعبير في الولايات المتحدة، وصفت فيه أستاذة جامعية في جامعة شيكاغو مختصة بتغير معاني حرية التعبير في أميركا الوضع الذي ظهر فيما بعد الحرب بين إسرائيل وحماس بأنه مثير للخوف “ويبدو وكأننا أمام مكارثية جديدة”.
التقرير الذي أعده كالدر ماكهيو قال إن النشاط على الإنترنت حول النزاع أدى لسلسلة من عمليات الطرد من مراكز العمل بسبب مخاوف المدراء من الطريقة التي تعامل فيها الموظفون مع النزاع. فقد تم طرد المحرر الرئيس ديفيد فيلاسكو بمجلة “أرت فورام” من قبل الدار الناشرة بينسك ميديا بعد منشور ورسالة مفتوحة على الموقع دعا فيهما لوقف إطلاق النار، واقترح أن إسرائيل مسؤولة عن “بداية إبادة”. وتم طرد مايكل إيزين، كمحرر في مجلة العلوم “إي لايف” لأنه أعاد نشر مقال ساخر وناقد لإسرائيل على حسابه في منصة إكس سابقا.
مها دخيل تقدّمت باستقالتها من منصبها التنفيذي في شركة المواهب الهوليوودية “كريتف أرتيست إيجنسي” لأنها أعادت نشر قصة على إنستغرام ألمحت فيها إلى مسؤولية إسرائيل عن الإبادة، وسحبت عروض عمل من طلاب القانون عمل بعد نقدهم لأفعال إسرائيل.
جينيف لاكير، المحاضرة بالقانون بجامعة شيكاغو عبّرت عن قلقها من هذا الوضع. ومعظم عمليات الطرد من العمل جاءت بسبب تعبير “المطرودين” عن مواقف متعاطفة مع الفلسطينيين. وتقول منظمة المناصرة الأمريكية “بالستاين ليغال” إنها ردت على 260 حالة تم فيها استهداف “معيشة والمسيرة العملية” لأشخاص. ولكن حقيقة حدوث الطرد بسبب منشورات على منصات التواصل الاجتماعي والإعلام بشكل عام ولمواقف تتصل بالمعتقد السياسي تعني أن الظاهرة قد لا تنحصر في موضوع معين، حيث تقول لاكير إننا نشاهد العلاقة بين حرية التعبير والعمل تتغير أمام أعيننا.
وفي الوقت الحالي، فالتنظيمات المتعلقة بحرية التعبير والتوظيف الخاص تختلف من ولاية إلى أخرى، فنصف الولايات ليس لديها حمايات للموظفين في شركات خاصة والذين يعبرون عن مواقف سياسية. ولدى الولايات الأخرى قوانين تتراوح من ناحية الشروط والتركيز. ومعظم قوانين العمل الموجودة متجذرة منذ القرن التاسع عشر ولا يمكن استخدامها للإبحار في محل العمل بالقرن الحادي والعشرين.
ويرصد الإعلام كيف أن معظم الأفكار حول “حماة حرية التعبير” تتغير في الثقافة، فبعد هجمات 9/11 مثلا جلبت “الحرب على الإرهاب” تمحيصا جديدا لطبيعة الخطاب الذي ينشر الإرهاب. كما أن النقاش في حرم الجامعات وأماكن العمل، الدائر منذ فترة بشأن “ثقافة الإلغاء” جلب معه نفس الأسئلة حول ما هو مسموح به ومحظور. و”اشتمل التعديل الأول على استثناءات، لكن يمكن توسيعها تحت الضغط” كما تقول لاكير. ومنذ بداية حرب إسرائيل- حماس “يفسر الناس بند خطاب الكراهية أو الخطاب المحرض على العنف بطريقة واسعة جدا جدا وشمل، حسب نظرتي، الخطاب المشروع والداعي للسلام عادة”.
صراع الباحثين عن حقهم في رفض جرائم إسرائيل يؤتي ثماره على ما يبدو، ويقول نان غولدين المصور الشهير لصحيفة “نيويورك تايمز”: “لم أعش فترة مثيرة للرعب كهذه”. أما لاكير فتقول إنها شعرت بالمفاجأة من حجم عمليات الطرد بسبب التعبير عن مواقف مؤيدة للفلسطينيين. و”فوجئت بالحجم والكثافة وبدا لي أن الظروف المحفزة على الطرد أو المعاقبة كانت متواضعة”.
وتضيف أن الناس الذين يدعون للعقاب والقيود يرون أن موقفهم مبرر على أرضية أن ما يقال هو خطاب كراهية أو حرية تعبير تدعو للعنف. و”لكن السبب الذي يدعوني للقول إننا أمام مكارثية ثانية هو أن هذا ليس صحيحا. فالرسالة في أرت فورام والتي قادت لطرد فيلاسكو لم تكن تحرض على العنف بقدر ما تدعو إلى وقف إطلاق النار مع أنها كانت ناقدة لإسرائيل وتقول إننا أمام إبادة تتكشف أمامنا”.
وقالت لاكير إن هناك أمثلة عن استخدام التهديد بالطرد تعود إلى قرون، ولكن المقاربة بين الاحتجاج ضد الحرب في أفغانستان والعراق تظل مختلفة، فلم يكن هناك خلط بين نقد الحكومة ومعاداة السامية أو التعصب الديني. فالإطار القانوني الذي تستند عليه رابطة مكافحة التشهير هو ملاحقة الطلاب الذين يعبرون عن مواقف مؤيدة لفلسطين وأن ما يعبرون عنه هو “دعم مادي للإرهاب” وكله نابع من خطاب الحرب على الإرهاب ومرحلة ما بعد 9/11.
وتقول لاكير إنها تشعر بالعصبية والقلق بشأن المستقبل. و”نعرف أن البلد فيما بعد 9/11 لم يدخل حربا ولكن مرحلة قمع، ولا تزال بنى القمع قائمة لليوم. ولهذا أشعر بالخوف ليس لهذه الأسباب التاريخية ولكنها تحدث في وقت تتعرض فيه المؤسسات التي تضمن وتساعد حرية التعبير، لتهديدات كبيرة. والجامعات هي عرضة للضغط منذ وقت طويل، ورأينا قوانين تفرض عقوبات على من يشاركون في حملات مقاطعة ضد إسرائيل، بعضها استخدم وبعضها لم يستخدم، وتأتي على رأس ما ينظر إليه التعبئة والتنظيم وإصدار التشريعات في جهد لمنع الناس من التعبير، وفي حالات متعددة، عن المواقف المؤيدة للفلسطينيين”.
أما كل هذا فقد توّج بانقلاب الرئيس بايدن على كل القمع الفكري الذي كان يمارس طيلة الشهرين الماضيين، وهاهو في تصريحات أمس الثلاثاء، يقول أن مكانة الولايات المتحدة الأخلاقية عرضة للانهيار بسبب موقفها الداعم للحرب الإسرائيلية ضد المدنيين، بالإضافة إلى مطالبته الواضحة بتغيير حكومة نتنياهو، وانتقاده لكلام الأخير عن مستقبل غزة، وانتقاده الصريح لبن غفير وأشباهه، إذاً اتضح لبايدن والمؤسسات الأميركية أن أصحاب الرأي الرافض للحرب كانوا محقين، وها قد انتصرت حرية التعبير من جديد.