كان الحدث الأضخم في تاريخ سورية هو الهزة الارتدادية للزلزال الذي بدأ في تونس يوم أحرق بائع متجول نفسه في 17ديسمبر 2010 أمام مقر بلدية سيدي بوزيد احتجاجاً على مصادرة عربته التي يبيع عليها الخضار ، وعلى صفعة تلقاها من شرطية البلدية.
لم يخطر للبوعزيزي أنه لم يضطرم النار في جسده وحده ، وإنما أضرم النار في جسد أمة كان جمراً ملتهباً تحت الرماد ، تغطيه كثبان من الخوف والرهبة ، لكن احتراق البوعزيزي أزال الرماد فتفجرت قنابل الجمرة وتصاعد لهيبها ، وحملته الريح العاصفة إلى أقطار عربية شتى سرعان ما أطلقت مكنونها من الثورة والغضب .
ولقد قلت مرات إن أسباب ما حدث في سورية في شهر آذار 2011 كانت نوعاً من العدوى ، وبخاصة حين التهب ميدان التحرير في القاهرة ، وقلت إن أي حدث ضخم في مصر لابد من أن تتردد أصداؤه في سورية ، وإن خطأ التشخيص لهذه الأصداء ، ومجابهتها بالقوة ستزيد النار اشتعالاً ، ولست في معرض حديث سياسي عن الأحداث الدامية في سورية ، إنما يعنيني رصد الارتدادات الأدبية والإبداعية لسنوات الجمر والخراب والدمار التي عاشتها سورية .
وقد يكون مبكراً تقديم دراسة نقدية للنتاج الثقافي والفكري والأدبي الذي واكب هذه السنوات التي عانى فيها السوريون فواجع غير مسبوقة في تاريخهم ، فالقضية السورية ما تزال حارة ومتحركة ، وهذا ما يدعوني أن أجعل ما أكتبه هنا مجرد استعراض للحركة الثقافية السورية التي باتت تلفت الأنظار إلى ظهور إبداع متمرد مبهر ، قدمه الشباب مع ظهور مثير للمشاركة النسائية المدهشة ، وتبلور ظاهرة ثقافية يمكن أن نطلق عليها اسم (أدب التغريبة السورية ) .
ولن أدعي الدراسة النقدية لهذا الإنجاز الإبداعي فهو من وجهة نطري ما يزال في طور التشكل والنضج ، مع اعترافي بأن فيه توهجاً يشير إلى اكتمال الجدارة ، لكنني لم أقرأ بعد كل ما تم إنجازه ، حيث لم تتوفر لدي كل النصوص الأدبية التي باتت تصدر من عواصم شتى حسب أمكنة لجوء الكتاب أو أماكن هجرتهم .
ولابد من التوقف عند إبداع كتاب وشعراء كبار كانوا معروفين بمكانتهم الأدبية في مسار الحركة الثقافية السورية ، وتابعوا تقديم إبداعهم في التغريبة السورية التي شملت أكثر من خمسة عشر مليون سوري تشتتوا في أصقاع الأرض ، مما يجعلني أشير إلى بعض الخصائص التي تميز هذا النتاج الثقافي ، ومن أهمها آثار المثاقفة مع خصائص الأدب العالمي ، واتساع مساحة الحرية في التعبير في هذا الإطار الرحب ، وظهور أدب السجون والمعتقلات بشكل كثيف لم تعرفه الثقافة العربية من قبل ، وتلاطم التيارات الفكرية مع كثرة التوجهات المتعارضة ، واحتدام المشهد بالصراعات السياسية التي هي جوهر الحدث وفضاؤه الأوسع .
ولا أزعم أني سأقوم بتغطية لكل الإنتاج الأدبي السوري الذي ظهر في العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين ، وإنما سأقتطف منه ما يمكن أن يعبر عن مساراته و تطلعاته ، ولابد من الإشارة إلى ظهور حركة ثقافية مرادفة في وسائل الاتصال وما يسمى ( السوشيال ميديا ) على الرغم من احتوائها على سيل من التفاهات، إلا أن بريقاً يلتمع أحياناً وسط الركام ، ينبئ عن مواهب لم تجد وسيلة للنشر في كتب أو صحف كبرى ، ولا تستطيع الظهور خارج إطار وسائل الفيس بوك أو ما يماثله ، لكن ظهور مواقع إلكترونية جادة ومحترمة أسهم بقوة في فتح الأبواب والنوافذ لحركة التأليف والنشر والتواصل بكل أشكاله ، كما ظهرت مجلات إلكترونية أفسحت صفحاتها للشباب والشابات ليقدموا إبداعهم ، وقد كان لي مع نخبة من أصدقائي ( وأبرزهم الأديبان إبراهيم الجبين ونجم الدين السمان ) شرف إصدار العديد من هذه المواقع و المجلات الالكترونية التي وجد فيها المبدعون الشباب ساحة رحبة لعرض إنتاجهم ، وهو ما سيكون موضع حديثي القادم .