لطالما كانت محافظة إدلب وأوضاعها المتحركة، مجالا رحبا للتداول والتكهنات، حول مستقبلاتها القادمة، واحتمالات مصائرها، مع كل حالة تغير تجري في المنطقة، ويبدو أن ما جرى ويجري في قطاع غزة، من عدوان إسرائيلي متواصل على شعبها، والحديث عن اليوم التالي، بعد أن تضع الحرب أوزارها، له كل الأثر، والعديد من التداعيات على مآلات الوضع في إدلب، وهو ما يشغل بال القاطنين هناك، وفي رحاب إدلب الخضراء، وهم الذين ما زالوا يتلقون الضربة تلو الضربة، من جراء الحالة الانتقامية التي يمارسها نظام بشار الأسد، والتي تجري فصولا إبان أي عدوان إسرائيلي، على الجغرافيا السورية، أو على (الحرس الثوري الإيراني) الموجود في سوريا، وخاصة بعد التصعيد الكبير الذي تقوم به إسرائيل تباعا، مستهدفة (علية القوم) إن صح التعبير، من ضباط وقادة إيرانيين، موجودين بكثرة على الأرض السورية.
أوضاع إدلب الحالية الميدانية غير المستقرة والتي تتلقى القصف والضربات، وتكون الخسائر في معظم الأحيان، ضمن أرواح المدنيين السوريين، باعتبارها حرب إبادة حقيقية يصمت عنها العالم، كانت وما زالت ديدن نظام المقتلة الأسدية في مواجهة الشعب السوري خارج سيطرته، وبدعم مباشر ومستمر بالضرورة من الميليشيات الإيرانية وتوابعها، بالإضافة إلى الدعم العسكري الكبير الذي تقدمه روسيا الاتحادية ضمن سياسة تعويم النظام السوري، وإعادة قيامته من جديد، أو تحصيل ما يمكن تحصيله، بشكل أوسع عبر قضم بعض الأراضي، والتي يفترض أن لا تكون محل مساومة بعد ذاك الاتفاق الذي جرى وتم توقيعه بين روسيا وتركيا في 5 آذار/ مارس 2020، حيث ما زال هذا الاتفاق يُنتهك يوميا من قبل روسيا وإيران وقوات النظام السوري وشبيحته.
يُدرك بشار الأسد ونظامه أن أية عملية انزياحات كبرى في أوضاع إدلب والشمال السوري، لا بد لها من موافقات وتفاهمات دولية وإقليمية جديدة، تواكب وتتساوق مع جملة التغيرات الجارية في المنطقة، وعلى هديها وضمن أنساقها، وإلا فإن اللاعبين الكبار لن يسمحوا بها، ولا بتدرجها، لكن نظام الأسد يصر اليوم ومن خلال تداول وإعادة إنتاج العديد من السيناريوهات لمستقبل إدلب، على استحداث وخلق واقع جديد في الشمال السوري، وعلى الأرض في الميدان، قد يدفع بالوضع نحو احتمالات أخرى لصالحه، ووفق مخططاته، بالطبع فيما لو استطاع أن يضمن موافقات بعض الأطراف الدولية كروسيا وإيران، لكن السؤال يبقى قائما هل تمتلك روسيا وإيران لوحدهما قرارات رسم مستقبل إدلب والشمال السوري؟ وهل يمكن أن تسمح الدولة التركية بأية انزياحات كبرى؟ والتي يمكن أن تؤثر كثيرًا على مصالح تركيا في المنطقة، وعلى تدفقات جديدة محتملة للاجئين السوريين باتجاهها، في وقت تتحدث فيه تركيا مرارا وتكرارا عن ما سمّته بالعودة الطوعية للسوريين، نحو وطنهم، وضمن مزاج شعبي تركي أضحى واضحا، ولم يعد يقبل أبدا وجود السوريين بهذا الكم على أرض تركيا، فكيف إذا كانت هناك احتمالات متوقعة للزيادة ،وما التحرك التطبيعي من قبل تركيا نحو نظام بشار الأسد، الذي توقف بعد ذاك مؤخرا، إلا من باب المساعدة بعودة السوريين إلى بلادهم، والخلاص من مشكلات اللاجئين، والذي تستثمر في ملفهم بشكل حثيث وكثيف المعارضة التركية بكل أطيافها، بشكل فعلي، وهو ما حصل خلال الانتخابات البلدية التركية الأخيرة، التي أدت كما هو معروف إلى خسارات كبرى في بلديات كانت سابقا تتبع لحزب العدالة والتنمية التركي الحاكم.
إذا لن يكون بإمكان نظام بشار الأسد ومعه روسيا وإيران إنجاز أي حالات ضم أو قضم، أو انقضاض على محافظة إدلب والشمال السوري، كما يتم تداوله علنا أو همسا مؤخرا، إلا بالتوافق مع الدولة التركية والولايات المتحدة الأميركية، قبل روسيا الاتحادية، وقبل إيران الملالي، وإذا كان نظام بشار الأسد اليوم يعيد طرح بعض السيناريوهات، غير الممكنة التحقيق، ومنها مثلا موضوع (إدلب مقابل سنجار) وطبعا بالتعاون مع إيران وحكومة العراق القريبة من محور (الممانعة والمقاومة) فإن ذلك لا يبدو أنه قد أصبح ممكنا، حتى لو كانت تركيا ما زالت بحاجة ماسة لمكافحة الإرهاب، ولجم منظمات إرهابية في شمالي العراق، أو شمال شرقي سوريا، في محاولة منها، لضبط الأمور الأمنية شمالي العراق، وكبح جماح إرهاب الـ (ب ك ك) المستشري والذي ما انفك يهدد أمن تركيا القومي، ولعل الدور الغربي الأوروبي والأميركي ما زال على حاله في عدم السماح لروسيا أو إيران بتحقيق ما تريدانه في سوريا من مصالح براغماتية، ومشروع إيراني واضح المعالم، أو أن يتم استثمار نتائج حرب غزة لصالحهما، إلا وفق توافقات وتفاهمات مع الغرب تحفظ أمن إسرائيل أولا، وهو المهم جدا بالنسبة للأميركان، كذلك حفظ مصالح أميركا في شمال شرقي سوريا وقواعدها هناك.
ولعل كل الذي يجري تداوله هذه الأيام بشأن مصير محافظة إدلب ومستقبلها بكليّته، مع كل هذه السيناريوهات المطروحة، لا يملك إمكانية التحقق، وما زالت هناك كثير من المساحات الفارغة، التي يجب ملؤها، وهناك تفاهمات ما زالت غير منجزة، ومن ثم فإن تداعيات حرب غزة على الحالة السورية وخاصة الشمال السوري، غير مكتملة، وما برح جلّ الواقع السوري هلاميا ورخوا، وغيرَ قابل للخروج إلى السطح، ولن تكون حالات القصف المستمر، والمقتلة المتواصلة في الشمال السوري، والواقعة حقيقة فوق رؤوس المدنيين السوريين، كفيلة بتحقيق ما عجزت عن تحقيقه سابقا، كلُّ ميليشيات وقوات بشار الأسد وكذلك قوات روسيا وميليشيات إيران قبل ذلك، وما زال الوقت مبكرا جدا للحديث عما هو بعد غزة، وما زالت مساحات التفاهم الدولي والإقليمي غير مستقرة ومتذبذبة وقابلة للتغير في أي لحظة، وفق الظروف والأحداث السياسية والجيو سياسة الموجودة بالمنطقة برمتها، أو حتى تلك العابرة للحدود والمتحركة على طول المدى.
المصدر: موقع تلفزيون سوريا