قبل توجهّه الى واشنطن، قال الرئيس التركي رجب طيب إردوغان “قد نوجّه دعوة (إلى الأسد) في أي وقت”، وهو تصريح بات تكرار فحواه مستهلكاً، على أن آثاره تزداد خطورة مع تكراره كل مرّة. أولى تلك الآثار قد يكون نوعاً من الضوء الأخضر، كنتيجة فعلية، للممارسات العنصرية بحق السوريين المقيمين على نفقتهم في تركيا. وللتنويه هنا؛ السوريون المقيمون في تركيا لا يحصلون على أية مساعدات مادية أو تسهيلات للسكن، فقط بعض التسهيلات للمعاملة بالمثل في التعليم وبعض الخدمات التي لا تُقارن بما تلقته الحكومة التركية من المليارات من الاتحاد الأوروبي وغيره مقابل “منع تدفّق اللاجئين” عبر الحدود التركية الأوروبية، كما تنص الاتفاقيات الثنائية بصريح العبارة، حتى أن حلف الناتو تدخّل بإمكاناته العسكرية للمساعدة في ضبط الحدود التركية الأوروبية سابقاً.
يذهب الرئيس التركي إلى واشنطن غداً للمشاركة في اجتماع الدول ال 32، أعضاء حلف شمال الأطلسي، في حين كانت بقيت عضوية تركيا تشذّ عن القاعدة تاريخياً، فهي لا صلة لها بالمحيط الأطلسي الواصل بين الحلفاء الأوروبيين والولايات المتحدة وبريطانيا وكندا، ومع ذلك فجيشها يعدّ ثاني أكبر جيش في الناتو بعد جيش الولايات المتحدة.
وحين انضمت للناتو، كان ذلك مقابل أن تصبح تركيا منطلقاً ومستودعاً لتهديد السلاح الأميركي للروس، وضدّ أي خطر إقليمي آخر في غربي آسيا وغربها الأدنى، وها هي قاعدة إنجرليك لا تزال هناك ويقال إنها المستودع الأكبر للأسلحة النووية الأميركية خارج أراضي الولايات المتحدة. في حين تركت واشنطن أنقرة عاريةً بمواجهة أي تهديد روسي في العقد الاخير، وسحبت منظومات صواريخ باتريوت رغم مناشدات الحكومة التركية حينها.
ويطول شرح ما يحضر إلى الذاكرة من العشرية الأخيرة ومحاولة إردوغان المرور بصعوبة بين فكّي الكمّاشة الروسية، إذ حاصره بوتين بعد قفزه رسمياً إلى سوريا جنوب تركيا ليصبح فوقه من موقعه التاريخي في البحر الأسود والامتدادات الروسية جميعها، بالإضافة إلى مخرز جديد في الخاصرة جنوب تركيا، من تحت ما توهّمه بعض صناع السياسة الأتراك سريراً ليتمدّدوا عليه؛ “السرير” الذي لا يزال النظام الدولي يعدُّ بشار الأسد رئيسه الرسمي، فكان المخرز الروسي في الخاصرة التركية برأسين، أولها علاقات استثنائية مع التنظيمات الكردية المتمددة في شمال شرقي سوريا، وثانيها حضورٌ عسكريٌ روسيٌ رسميٌ على أكتاف الأسد على شواطئ شرقي البحر المتوسط.
ولطالما سار أردوغان على حبل مشدود بين موسكو وواشنطن، في محاولة لفتح بازار مع عاصمة القرار في واشنطن مطلع العام 2017، محاولةٌ فشلت في حينها، ولكنّها تشبه إلـى حدّ بعيد ما يفعله أردوغان اليوم مع تغيّر طفيف في الأدوات وتطابق في الأهداف.
استبق أردوغان حينها أول لقاء له مع الرئيس دونالد ترمب، المنتخب حديثاً، بزيارة إلى موسكو، وحاول التلويح إعلامياً أنه سيشتري صواريخ S300 الروسية، وقال إنه لن يعدم الوسيلة في استبدال أسلحة الدفاع الجوي الأميركية (باتريوت) المتوافقة مع منظومة الناتو، مسرّباً بين الحين والآخر على لسان بعض معاونيه، أنه قد يتّجه شرقاً.
اعتقد الرئيس التركي أن تلك “التكتيكات” قد تكون دافعاً للأميركيين كي يتلفتوا إلى مطالبه، خوفاً من فقدان مخرزهم التاريخي في خاصرة روسيا، وخشية تهديد بقاء قواعدهم على الأرض التركية. فماذا كان رد فعل واشنطن ورئيسها قاسي الطباع مع الحلفاء وبعض الخصوم على حدٍّ سواء حينها؟
قبل التذكير بردّ واشنطن ذاك، لنتذكّر مطالب أردوغان المعلَنة، قالها صراحة قبل توجّهه إلى واشنطن، وقد كنتُ شخصياً متابعاً لكل حرف ولكل موقف، ولكافة كواليس الحدث آنذاك، باعتباري عملتُ مراسلاً في تركيا في ذلك الوقت.
حدّد إردوغان مطالبه الصريحة بالتالي:
- وقف الإمدادات العسكرية التي تكثّفت قوافلها إلى “قسد” في شمال شرقي سوريا.
- تيسير صفقة حصول أنقرة على مقاتلات F35 الأحدث.
- وبضع طلبات أخرى إضافية.
وبعد مناورات أنقرة، بين تمنّع من ترغب في علاقة عميقة مع واشنطن وتلويح بالهجران، وبين الذهاب والطلب مع وجه مبتسم من سيد البيت الأبيض الجديد، بعد كلّ هذا وفي لقاء طغت على صوره الكثير من الضحكات ونظرات الاهتمام؛ خرج أردوغان من الأميركيين بلا شيء.
عاد الرئيس التركي إلى بلاده دون اتفاق مع الأميركيين، وكم كان مُحرِجاً حينها التعليقُ على مصير الطلبات التي كرّر إعلانها قبل رحلته تلك. بدا حينها أن الاميركيين قالوا له إن ما يؤسّسونه في شمال شرقي سوريا، ليس من شأنه أو شأن “رئيس السّرير” (بشار الأسد)، وأن الحصول على F35 يلزمه انتظار وتلبية “الكثير”.
أما تلويح أنقرة بالابتعاد شرقاً نحو بوتين، فمن الواضح أن أحداً في واشنطن لم يكترث به، وهذا مما فسّر حينها ضمن سياق سياسة الانسحاب الأمريكي المستجدة من الشرق الأوسط.
واليوم، يبدو أن سياسة التكتيكات التي كانت تقنع الناخب التركي، والمناورات التي كانت تجدي نفعاً في الحصول على نجاح انتخابي في البلديات وغيرها من الدوائر المحليّة، لم تعد تنجح محليّاً، ونتائج الانتخابات الأخيرة شاهدة على ذلك، فما بالك بإمكانية أن تقنع تلك التكتيكات دولة عظمى مثل أميركا؟
وللعجب لا يزال الرئيس التركي يكرّر الإسقاط ذاته، لما يمكن أن ينفع في ساحة محلية، على السياسات الدولية، وقد يكون ما يزيل العجب هو احتمال العجز عن تلبية ما تحتاجه بلاد عظيمة كتركيا في السياسة الدولية، وربما هو العزوف عن الإصغاء إلى مستشارين ورجال دولة أتراك مخضرمين، كم أبعد منهم في طريقه السياسي الطويل. فما أشبه اليوم بالبارحة!