إبراهيم الجبين
يبدو أن الديموقراطيين في الولايات المتحدة قد تأثروا، دون أن يشعروا، بالأطراف المشبوهة التي يميلون إلى دعمها والتساهل معها حول العالم، كالإيرانيين ونظرائهم، حتى أصبح الخطاب السياسي لدى الرئيس جو بايدن وفريقه والقائمين على حملته الانتخابية خطاباً همجياً إقصائياً يدعو إلى التغلب على الآخر بأي وسيلة ممكنة.
قبل محاولة إيقاف تقدّم ترامب بالرصاص الحي، التي تم الإعلان رسمياً أن المسؤول عنها حتى الآن شاب من البيض مسجّل في لوائح الحزب الجمهوري، لم يترك الديموقراطيون طريقة إلا وجربوها ضد ترامب. وحتى ساعات قليلة ماضية، كان لغتهم في وصف ترامب تحتشد بكلمات من نوع “متحرّش بالنساء” “كذاب”، “فاشي”، “هتلر”، “موسوليني” و”أوقفوا ترامب”، وأخيراً وليس آخراً تعهّد بايدن في يوم محاولة الاغتيال بالقول “لن أسمح له بالفوز إلا على جثتي”.
لكن جميع المسؤولين الديموقراطيين خرجوا بعد محاولة اغتيال ترامب ليدينوا “العنف السياسي” متناسين أنهم هم الذين بادروه ومنذ فترته الرئاسية السابقة بسيول من “العنف اللفظي” والعنف القانوني” و”العنف الضريبي” و” العنف الثقافي”، وسلسلة طويلة من الممارسات العدائية التي أسهمت في خلق حالة من الاستقطاب في الشارع الأميركي غير مسبوقة، والمتهم بتأجيجها حسب الديموقراطيين بالطبع سيكون ترامب أيضاً.
صدق السيناتور الجمهوري جي دي فانس، الذي علّق على محاولة اغتيال ترامب بالقول “الأمر لا يتعلق اليوم بمجرد حدث منعزل، العنف السياسي بجميع أشكاله غير أميركي وغير مقبول، وهناك أسئلة كثيرة والأميركيون يطالبون بإجابات، والفرضيّة الأساسية لحملة بايدن هي أن الرئيس ترامب فاشي استبدادي يجب إيقافه بأي ثمن، وقد أدى هذا الخطاب مباشرة إلى محاولة اغتيال الرئيس ترامب”.
ما تعيشه الحياة السياسية الأميركية منذ وصول باراك أوباما إلى السلطة، كأول ملوّن متحدّر من أقلية، إنما يعكس تدهوراً كبيراً في الداخل والخارج، فلم يعد للتقاليد السياسية الأميركية منذ حرب الاستقلال والحرب الأهلية أي تأثير بعد، ولم يعد لأميركا دورٌ خارجي جدير بالتقدير يتناسب مع مكانتها وحجمها في العالم، وكثيراً ما تردّدت شكوى في الأوساط الأميركية تقول إن عهد بايدن ما هو إلا استمرار لعهد أوباما الذي يحكم من بيته، بينما يغطّ “جو العجوز” في نومه.
وبدلاً من أن يكون وصول رئيس أسود إلى البيت الأبيض خبراً جيداً وبداية لمستقبل جديد من المساواة، صارت تلك اللحظة لحظة تأريخ لتقزيم دور أميركا، وليست سورية وتسليمها للروس والإيرانيين إلا نموذجاً لكيفية صناعة السياسات في عقل أوباما وبايدن والديموقراطيين.
ما حدث في بنسلفانيا لن يمرّ بسهولة، ولن يتوقف على اندحار بايدن والديموقراطيين، بل ستكون له تأثيرات كبرى لن تتوقف عند حدود الولايات المتحدة.
حان الوقت ليفكر الجمهور الأميركي، ومعه غير الأميركيين، بأسئلة قد يكون الأكثر أهمية في هذه المرحلة: ما هو مشروع الديموقراطيين الحقيقي؟ ما الذي يريدونه من أميركا؟ وما الذي يريدونه من العالم؟ انظروا إلى أميركا. لا يقول الإعلام العربي إن الديموقراطيين خلال الشهور الماضية، قاموا بحملات تطهير حقيقية داخل مؤسسات الدولة الأميركية لطرد الجمهوريين منها، وإحلال موظفين ينتمون إلى الحزب الديموقراطي محلهم. (لتقريب الصورة حالة تشبه ما تمت تسميته بأخونة الدولة، في عهد حكم الإخوان المسلمين لمصر).
تعامل الديموقراطيين مع منافسيهم السياسيين على أنهم ليسوا مواطنين أميركيينن خالصي المواطنة، نظروا إليهم بشك وترصّد، دفعوهم دفعاً نحو التكتل أكثر، ودمّروا بذلك أكبر مسارح الديموقراطية في العالم. ودفعوهم أكثر للمطالبة بشعار ترامب “لنجعل أميركا عظيمة مجدداً”.
ما معنى ذلك؟
يشعر كثيرون في الولايات المتحدة بانحسار الدور الأميركي خلال حكم الديموقراطيين، ومعه القيم الأميركية والقوة الأميركية. لقد تركوا العالم ساحة للحروب والخراب، متخلّين عن واجبهم في حفظ الأمن والسلم الدوليين.
اكتفى بايدن بالتحذير المسبق في اللحظات الأخيرة، قال “لدي معلومات إن بوتين سوف يغزوا أوكرانيا”، ومع كل الدعم الذي يقدّم لزيلينسكي والأوكرانيين، إلا أن بايدن ليس حاسماً تماماً حتى الآن.
الأمر ذاته مع إيران، التي انتعشت في عهد بايدن، وتدفقت إليها المليارات، حتى باتت أكثر قدرة على تسليح ميليشياتها واستهداف الدول العربية المجاورة وتمكين احتلالها لأربع دول عربية (ليس صدفة أن هذا التوسّع الإيراني تم في عهد رئيس ديموقراطي أيضاً اسمه أوباما) ووصل الأمر بإيران وفصائلها إلى الاستهداف المباشر شبه اليومي للقواعد العسكرية الأمريكية، دون أن يكون لدى الديموقراطيين أي مانع من ذلك يعكّر صفو المحادثات السرية مع الإيرانيين التي يقودها كل من برت ماكغورغ وروبيرت مالي في مسقط بسلطنة عُمان.
البعض يتساءل عن الدولة العميقة في أميركا والتي لا تريد مفاصل حساسة فيها لترامب أن يصل إلى البيت الأبيض منتصراً مرة ثانية، بسبب توعده بالكشف عن ملفات لا تزال تضرب عليها سرية عالية، بدءاً من ملف اغتيال الرئيس جون كنيدي ووصولاً إلى ملف صناعة داعش وغيره.
لا أحد يعرف من الذي أعطى لتوماس كروكس ذلك السلاح من عيار AR15 ليطلق ثماني رصاصات على رئيس أميركي سابق الدولة الأميركية ملتزمة بحمايته، ما تسبب بمقتل أحد الحاضرين وإصابة اثنين بإصابات حرجة.
بينم اختفى الحديث عن القناص الثاني الذي أظهرته الصور ولقطات الفيديو وهو يقف إلى جوار كروكس.
ماذا لو نجحت تلك المحاولة وتم اغتيال ترامب بالفعل؟
هل كانت هذه هي طريقة الديموقراطيين (أو غيرهم) بنقل بايدن إلى سدّة الانتصار على ترامب، وهو الذي بدأ كبار قادة حزبه يطالبونه بالتنحي عن هذا السباق الخاسر من أوله؟
كيف هي الصورة التي ستصبح عليها أميركا بعد مقتل ترامب تتويجاً لمسار من الصراع غير النزيه مع خصم سياسي؟
أوباما أطل برأسه (ولم يكن مستغرباً أن يتحدّث قبل بايدن) ليغرّد على منصّة إكس ويقول “يجب أن نشعر جميعا بارتياح لأنّ الرئيس السابق ترامب لم يُصب بجروح بالغة وأن نستغل هذه اللحظة لتجديد التزامنا (بإظهار) التحضُّر والاحترام في السياسة”.
أي تحضّر يتحدّث عنه أوباما بعد شيطنة الخصم إلى هذه الدرجة من الإسفاف والهمجية؟ وأي احترام هذا الذي ينصح به وقد جعلوا من ترامب مادة للتسلية برشقه بالاتهامات ومحاولة عزله وتسديد الضربة تلو الضربة إليه؟
هل هو التحضّر الذي جعل أوباما يتسامح مع قصف المدنيين في سورية بالسلاح الكيماوي ومعاقبة الأسد بمسرحية نزع سلاح الجريمة من بين يديه ومن ثم إبقائه في السلطة؟ هل هو تحضّر اتفاق جنيف بين كيري الديموقراطي الأميركي ولافروف الديموقراطي الروسي؟”.
في العام 2020 وبعد إعلان تبرئته من التهم التي لفقها له الديموقراطيون قال ترامب”لقد فعل الديموقراطيون المستحيل لتدميرنا، وبالتالي، مهاجمة بلادنا. إنهم يعلمون أن ما يفعلونه سيء، لكنهم يضعون مصالحهم قبل مصالح بلدنا العظيم”.
أياً كان المشغّل الذي أعطى الأمر لكروكس بقتل ترامب، ومن قام بتصفيته قبل أن يقول ما لديه من معلومات، فإنه قد تجاوز (الخط الأحمر)، هل يتذكّر أحدٌ خط أوباما الأحمر؟ إذ يبدو إن الديموقراطيين لا يدركون معنى ذلك الخط ولا خطورة التهاون فيه.
ترامب قتل قاسم سليماني، بينما أوقف الديموقراطيون مشروع قانون مناهضة التطبيع مع الأسد، لإرضاء حلفائهم في طهران، ورفعوا الحظر عن مليارات إيران التي تضاعف نشاطها العسكري والنووي في أيامهم، حتى أن الوكالة الدولية للطاقة الذرية، حذّرت من أن إيران تمتلك الآن ما يكفي من اليورانيوم المخصب لصنع 3 قنابل نووية. ومنذ شهرين فقط، اشتكى الأوربيون حسب صحيفة “وول ستريت جورنال” الأميركية أن إدارة بايدن تضغط على حلفاء واشنطن الأوروبيين داخل الوكالة الدولية للطاقة الذرية وتقف ضد جهودهم لعرقلة تقدم البرنامج النووي الإيراني.
وكان بايدن يعارض التوجه الأوروبي لأنه يريد منع تصعيد التوترات مع طهران قبل الانتخابات الرئاسية الأميركية.
لا توجد سياسة واضحة لدى الديموقراطيين في عهد بايدن، لا داخلياً ولا خارجياً، وعلى الرغم من شعاراتهم وبرامجهم للدفاع عن الطبقات الفقيرة والأقليات الدينية والعرقية، ودعم التعليم وتوزيع الثروة بتطبيق برامج ضريبية مختلفة، حتى أبرز مشاريعه التي جسدها قانون الاستثمار في البنية التحتية والوظائف واجه تحديات كبيرة بسبب البيئة التي خلقها صراعهم السياسي مع الجمهوريين، فالمشاريع الكبيرة تتطلب الوقت الطويل للتخطيط والتنفيذ، وتحتاج إلى التنسيق ما بين الحكومة الفيدرالية والولايات والجهات المحلية لضمان تنفيذها. والارتفاع الملحوظ في معدلات التضخم أدى إلى زيادة تكاليف المعيشة للمواطنين الأميركيين، ومسؤولية الحكومة عن تأثر العديد من الأسر بارتفاع أسعار الغذاء والوقود والإيجارات والسكن.
إضافة إلي المشكلات التي لم يحسنوا معالجتها في سلاسل التوريد العالمية والتي أثرت على توفر بعض السلع والخدمات، الأمر الذي تسبب بتراجع مستوى الثقة في إدارة بايدن في الشارع.
وحين يتحدثون عن التحرّش مشيرين باصبع الاتهام نحو ترامب، يتناسون بيل كلنتون وفضيحته داخل البيت الأبيض وقضية مونيكا الشهيرة، أو قضية أندرو كومو حاكم نيويورك السابق، وهو ديمقراطي بارز، واجه اتهامات بالتحرش الجنسي من قبل عدد من النساء، أدت إلى استقالته في أغسطس عام 2021 وأثرت سلبًا على صورة الحزب الديمقراطي. ولا تنتهي فضائح الديموقراطيين عند فضيحة رئيس لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ السابق بوب مينينديز ولائحة الادعاء الأميركي التي تم إعلانها وشملت قبول مينينديز سبائك ذهبية ومئات الآلاف من الدولارات نقدا مقابل ممارسة نفوذه لمساعدة نظام عبدالفتاح السيسي.
وحين ينتقد الديموقراطيون سياسات ترامب ضد المهاجرين، يتناسون ما فعلته إدارة بايدن خلال السنوات الماضية، والسجل الحافل من التعامل غير اللائق وغير المنسجم مع حقوق الإنسان في ما يتعلق بالمهاجرين، ومن أمثلة ذلك استخدام إدارة بايدن للمادة 42 من قانون الصحة العامة الأمريكي، الذي يسمح بترحيل المهاجرين بسرعة دون منحهم فرصة لتقديم طلبات اللجوء، بذريعة السيطرة على انتشار كوفيد-19. والتقارير التي أشارت إلى أن مراكز احتجاز المهاجرين على الحدود كانت مكتظة بشكل كبير، مما أدى إلى ظروف معيشية غير صحية وغير إنسانية، علاوة على احتجاز الأطفال في مرافق مؤقتة ومكتظة، حيث يُفصلون فيها عن أسرهم. في ظل استخدام مفرط للقوة من قبل حرس الحدود الأمريكي، واستخدام الرصاص المطاطي، الغاز المسيل للدموع، والتكتيكات العنيفة. (لنتذكر حادثة السياج الحدودي في سبتمبر 2021) حين ظهرت صور ومقاطع فيديو لحراس الحدود على ظهور الخيل وهم يتعاملون بعنف مع مهاجرين هايتيين عند الحدود بين الولايات المتحدة والمكسيك، في منطقة ديل ريو، تكساس.
وعلى الرغم من ادعائهم حرصهم على التفاهم بدلاً من الصدام في ملفات شائكة عديدة حول العالم، إلا أن الديموقراطيين يواجهون مشاكل داخل الحزب الديموقراطي ذاته، فالانقسامات بين الجناح التقدمي والجناح المعتدل تسببت في تأخير أو عرقلة بعض التشريعات الرئيسية.حالة التوتر الداخلي دمّرت فعالية الديموقراطيين في تحقيق أهدافهم، فخلقوا سياسة إدارة الأزمات وتمديد عمرها بدلاً من حسمها، وانسحابهم الفضائحي والفوضوي من أفغانستان علامة من علامات إخفاقهم، وفشلهم مع روسيا والصين، وعدم تمكنهم من السيطرة على حرب إسرائيل ضد غزة، وهذه الليونة إن كانت مستقاة من شيء ما فهي مستقاة من ليونة عقيدة أوباما السياسية المدمّرة وغير المسبوقة والتي قد يدفع الأميركيون والعالم ثمناً غالياً لاستمرارها.