رياض نعسان آغا
ما يحدث في سورية الآن هو الفصل الثاني من ثورة الحرية والكرامة التي انطلقت في آذار عام 2011 ، وهي تشبهها في عفويتها و افتقادها إلى قيادة تمضي بها إلى أهدافها دون أن تتعرض لما تعرضت له الأولى من فوضى ومن اضطراب أتاح لمخترقيها أن يثيروا مكامن الضعف فيها من داخلها وخارجها .
لكن الفارق بين فصلي الثورة السورية هو كون الثورة الأولى كانت ثورة معارضين للنظام ، بدؤوا باحتجاجات سلمية دامت ثمانية شهور تمكن فيها النظام من سحق وتدمير وقمع واعتقال المشاركين فيها ، حتى اكتظت المقابر وامتلأت السجون ، فاضطر الثائرون إلى أن يحملوا السلاح للدفاع عن أنفسهم وعن أهلهم وبلداتهم وقراهم ، وساهم النظام في جرهم إلى معارك غير متكافئة ، فهو يمتلك من القوى العسكرية المنظمة ما لايمتلكون ، ومع استخدامه لكل قواه ، عجز عن مواجهة الشعب الثائر ، وخسر أكثر من سبعين بالمائة من مساحات سيطرته ، وكان قد استعان بحزب الله الشيعي الطائفي الذي دخل الحرب ضد الشعب السوري معلناً شعار الثأر للحسين ، ومع ذلك لم يفلح في إطفاء نيران الثورة ، بل إن دخوله زادها اشتعالاً ، فاضطر النظام إلى أن يستعين بإيران ، ولم تستطع إيران أن تنهي الثورة التي ازداد لهيباً بعد أن كبرت فواجع الشعب فاضطر النظام إلى أن يستعين بروسيا التي حظيت بتفويض أمريكي ، وكانت الدول العظمى قد انتهجت سياسة الاحتواء المزدوج ، فبعضها يعلن دعمه للثورة الشعبية ، و قد يقدم مساعدات عسكرية تقليدية ( لكنه لايسمح بمضادات الطيران ومضادات الصواريخ ) وبعضها يكتفي بتقديم مساعدات إغاثية، وغالبية من تسموا باصدقاء سورية كانوا يتذرعون بعدم وجود بديل تطمئن له إسرائيل ويضمن أمنها الذي ضمنه النظام عبر اتفاقيات ما بعد حرب أكتوبر 1973.
أما الانتفاضة الثانية الراهنة فهي ثورة الموالين والرماديين الذين استمر كثير منهم بدعم النظام بدوافع طائفية وإثنية أو بالحرص على المنافع الشخصية ، أو على السلامة وعدم المغامرة أمام سطوة النظام ، وهؤلاء غالباً من أهل السنة الموالين ، وكثير من الموالين مارسوا مذهب التقية مع النظام.
فأما الانهيار الاقتصادي فقد تسبب به النظام بعد أن باع كل مواقع الثروة الاقتصادية لإيران وروسيا ، وجعل سورية كلها رهينة عند حلفائه الفرس والروس ، ومكن أنصاره من حيازة وإدارة المشاريع والثروات المتبقية ، وغض الطرف عن ممارسات جيوشه التشبيحية التي تسلطت على المجتمع مما جعل الطبقة الوسطى وأصحاب العقول واليد التقنية العاملة تضطر إلى الهجرة بحثاً عن ملاذ آمن ، فضلاً عن ملايين المهجرين قسراً أو خوفاً من الموت والإبادة الجماعية عبر سيل من الصواريخ والقنابل والبراميل المتفجرة التي دمرت المدن والأرياف ، وعبر عشر سنوات تم تفريغ سورية من طاقاتها الاقتصادية والثقافية والقوى الفاعلة فيها ، بهدف تحقيق التجانس الفكري والمعتقدي في المجتمع السوري كما أعلن رأس النظام ، وعبر توطين الفرس في المدن والأرياف للتخلص من حضور الأكثرية ، وتمت مصادرة آلاف البيوت والمزارع وتمكين الفرس من الاستيلاء على أهم مواقع الاقتصاد والسيادة .
لقد كانت سياسة التجويع والإفقار وغياب الخدمات الضرورية كالكهرباء والبترول والغاز و المازوت وحتى الماء في مواقع عديدة ، فضلاً عن ارتفاع أسعار السلع بما لايتكافأ مع القدرة الشرائية ولاسيما بعد الانهيارات المتسارعة لقيمة الليرة السورية ، كل ذلك كان ممنهجاً ومتوقعاً و بالطبع لم تفاجأ به القيادة السورية ، ومن الطبيعي أن يصل الحال إلى هذا المآل بعد اثني عشر عاماً من الخوض في مستنقع الدماء ،وبعد مقتل أكثر من مليوني إنسان وبعد عطالة مليوني معاق ، واعتقال أكثر من نصف مليون ، وهجرة ونزوح أكثر من أربعة عشر مليوناً من الشعب السوري ، وهم الذين تراهم القيادة السورية إرهابيين ، فهي لاتعترف إلا بالمعارضة المصنعة في الداخل .
هذا المآل الفاجع المرير هو ما تراه القيادة انتصاراً (رغم أن الأمور بخواتيمها كما يقول شكسبير ) وهذا الانتصار هو الذي يقود البلاد اليوم إلى الانتفاضة الثانية ، وإلى تجديد واستعادة روح الثورة ، وكان من المفارقات أن يصد النظام الأيدي العربية التي امتدت إليه لانقاذه بعد مؤتمر القمة الذي رحب به ، وكثير من العرب غضوا الطرف عن القرار الدولي 2254 ، وباتوا يطالبون بأقل القليل وهو إيقاف إغراق بلدانهم بالمخدرات التي تقتل شبابهم وتضعف مجتمعاتهم ، وتهدر طاقاتها ، ولكن لاتوجد استجابة ، فالمخدرات هي ثروة النظام الراهنة.
وستكون الفاجعة أكبر إذا واجه النظام هذه الانتفاضة الثانية بذات الطريقة التي واجه بها الثورة الأم عام 2011 ، فذاك يعني تدمير ما تبقى حياً في سورية ، وبذاك يتحقق الهدف الذي أعلنه قائد سورية حين سأله بعض المقربين منه ( ماذا بعد ؟ ) فأجاب : مستمرون إلى آخر بشر ، وآخر حجر .