داء الانفصام ما زال يضرب أطنابه في منظومة الاستبداد وأبواقها، إذ رأوا في كارثة الزلزال بوابة خلاص انعكست على ملامحهم وسلوكياتهم إثر تدفق المساعدات والتواصلات؛ لتزداد نشوتهم مع موجة التطبيع التركية والعربية مترافقة برفع مؤقت لبعض العقوبات، فتصل الأمور برأس المنظومة أن يفرض شروطاً على التطبيع المُغري مع تركيا، لإحساسه بالاندفاع العربي تجاهه.
يقابل نشوة نظام الأسد وانفصامه هذا واقعٌ طالما دأب على القفز فوقه؛ فالبلد ممزق بجملة من الاحتلالات، وما دمّره يحتاج مئات مليارات الدولارات لترميمه، ومعتقلاته تعج بآلاف المعتقلين والمغيبين قسرياً، وأكثر من نصف سكان سوريا لاجئين داخلاً وخارجاً، واقتصاد البلد وبنيتها التحتية في حالة دمار شبه شامل، والعقوبات مثبّتة بقوانين قيصر والكبتاغون، والديون للمحتل (كثمن للبقاء) تحتاج ميزانية الدولة لقرن كامل، ومنظومة السلطة ليست أكثر من عصابة تعيش على عائدات الكبتاغون، والفقر يضرب أطنابه في سوريا.
طالما كان وما يزال هاجس منظومة الاستبداد البقاء في السلطة، راقها وَهْمُ استنفاع القضية السورية، حيث تجد نفسها بأمان تعيش على ريع الكبتاغون، وحاضنتها تزداد خضوعاً، والبلد يفرغ من قاطنيه؛ وإيران وروسيا وميليشياتهما تتغول بالديموغرافيا والمصير السوري؛ وقادة الكيان الصهيوني بغاية السرور فهناك مَن يفعل بسوريا وشعبها ما عجزت إسرائيل عن إنجازه لعقود.
زاد في مكابرة المنظومة وتوهمها وانفصامها ما بدا عزوفاً لقوى سياسية عالمية عن القضية السورية، وانشغال العالم بالحرب الأوكرانية، ابتداءً من الأمم المتحدة التي يعمل مبعوثها على هوى المنظومة وحُماتِها بعدم تسمية الأمور بمسمياتها وعدم إفصاحه عن مسؤولية النظام السوري عن عرقلة العملية السياسية. وهذا حال لن يدوم، لأنه قد ينهي المنظمة الدولية ذاتها.
زد على ذلك توهم المنظومة بأن أميركا التي اكتفت بتحريك خيوط مسرح العرائس الدامي من الخلف، وتطلب منها فقط “تغيير سلوكها”، قد أدارت الظهر للقضية السورية. وهذا وهم إضافي، فأميركا قد تدير ظهرها لأية جغرافيا إلا لتلك المنطقة الحساسة استراتيجياً..
أما بخصوص وهم منظومة الاستبداد تجاه عدوها الأساس: الثورة واللاجئين والمعارضة والمعتقلين، حيث لا ترى فيهم إلا حالة خيانة وارتزاق وعَمَالة؛ معتبرة المعارضة مبعثرة ومنشغلة بالتوترات البينية والاعتماد على الخارج (وربما تكون محقّةً بذلك)؛ والثورة فورة عابرة سرعان ما ستخمد، والنازحون مجرد هاربين، خرجوا بسبب إرهاب “داعش” أو بسبب الارتزاق، والمعتقلون ليسوا إلا خونة أو إرهابيين؛ فهذا “الوهم” -لا غيره- سيكون سر نهاية هذه المنظومة.
فجأة حالة استنفاع القضية السورية، التي راقت لمنظومة الاستبداد تتبدد، وتحضر القضية بقوة على المسرح الإقليمي والدولي؛ ولكن انفصام النظام يستمر ليرى ويفسر أن كل ما يتم من انفتاحات وزيارات وتخفيف عقوبات على أنه مجرد رضوخ؛ وبأنه على حق؛ وانتصر؛ والعرب والعالم يعودون صاغرين إليه.
أخذ السائرون إلى التطبيع من حالة الجمود هذه؛ ومن استباحة البلد وتبعثره؛ ومن مأزوميات إيران في داخلها، وروسيا في أوكرانيا؛ ومن فتور العلاقة مع واشنطن (وربما نكاية بها)؛ ومن تعثر المعارضة والثورة السورية أسباباً ودوافع وذرائع للولوج في القضية السورية. ومن هنا، وبعد أن ساقوا كل أنواع الحجج والذرائع اعتقدوا أن المواجهة المباشرة مع مَن يأخذ سوريا رهينة، وهو في أضعف حالاته تحت وطأة قوانين قيصر والكبتاغون والفقر والاستلاب للحامي، هي النهج الصحيح.
لا يهم السوريين – معارضةً وثورةً وشعباً – استمرار انفصام منظومة الاستبداد؛ فهذا أمر تعودوا عليه؛ ولكن يعنيهم وقوع الساعين للتطبيع في الداء ذاته، لأن لذلك نتائج مدمرة تزهق حقوق السوريين، وتجعل الساعين للتطبيع شركاء في الجريمة، حتى وإن لم يقصدوا. الواقع و”الواقعية السياسية” تقول باستحالة عودة سوريا إلى ما قبل ٢٠١١، ومنظومة الأسد ليست الحل بل المشكلة، وما التطبيع معها قدر لا بد منه، وصنبور الكبتاغون سيُقفَل حال البدء بتفعيل القانون خلال أسابيع قليلة.
هناك انفصال عن الواقع في اختصار الشعب السوري ومعاناته لسنين بمعارضة فشلت في إزاحة الأسد ومنظومته الإجرامية. ذاك الفشل ليس مقتصراً على بؤس المعارضة وتعثر أدائها، بل بتدخل أيدٍ عابثة خذلتها وخنقتها وسدت الآفاق في وجهها؛ ولا يستطيع المطبعون استثناء أنفسهم من ذلك. لم تقد السوريين معارضة وما كان الأسد بوضعه الحالي الهش عندما انطلقت ثورتهم. ومن هنا، فإن اعتباره أمراً واقعاً، ولا بد من التعامل معه، ليس إلا استبدال قاتل بشعب.
هناك انفصال عن الواقع بألاّ ترى استحالة فصل أو فصم منظومة الاستبداد عن منظومة ملالي طهران؛ فالواحدة منهما شرط وجود الآخر؛ ولا يمكنك إبعاد أحدهم بالالتصاق بالآخر، بل ببتر واحد، لينتهي الآخر. أضف إلى ذلك أن القرارات الدولية بين يديك والقوانين الخانقة موجودة؛ فلا يجوز أن تكون تلك القرارات إلا خارطة الطريق وشرط التطبيع، إذا أردت النجاح عبر “الواقعية السياسية”. فالواقعية تستلزم استراتيجة بعيدة عن الأوهام ومخادعة الذات والآخرين.
هناك انفصال عن الواقع إن لم يكن هناك معالجة حقيقية صادقة فاعلة لتبعثر سوريا تحت جملة احتلالات وميليشيات، ولقضية المعتقلين والمغيبين قسراً في معتقلات العصابة، ولدمار سوريا الذي يحتاج لمئات المليارات لإعادة بنائه، ولقوانين العقوبات والديون التي ترزح سوريا تحتها، ولعودة أكثر من نصف سكان سوريا إلى بيوتهم؛ والأهم من كل ذلك الانطلاق من حقيقة أن مَن تسبب بكل المآسي أعلاه هو منظومة الاستبداد الأسدية.
وغير ذلك فإن مَن يطبّع ليس فقط منفصماً وبعيداً عن الواقع، بل يفعل ما يفعل عن سابق إصرار وتصميم، وبذا يكون شريكاً في جرائم المنظومة باعتبار أن التطبيع يشرعنها ويساعدها على التهرّب من المسؤوليّة القانونيّة عن تلك الجرائم، ويمكِّنهُا من الإفلات من العقاب، ويوصد الباب على أي إمكانية للمحاسبة. وإذا كانت أول ثمار خطوات التطبيع الاقتلاع القسري للاجئين سوريين في لبنان كانت ميليشيات حزب الله قد احتلت منازلهم في سوريا؛ فبئس هكذا خطوات مسمومة.
معروف أن المطبعين واقعيون جداً تجاه مصالح بلادهم، وهذا ممتاز، وحق طبيعي لهم؛ ولا نسمح لأنفسنا التدخل بذلك؛ ولكن عندما تتضمن مقارباتهم لقضيتنا أمراً يؤذي السوريين بالصميم، ويزهق حقوقهم، فليسمحوا لنا بإيضاح ذلك، ورفضه، وهذا حقنا. خارطة الطريق يحملها “القرار ٢٢٥٤”، وهو بيدهم؛ فليعلن نظام الأسد التزامه بتطبيقه الحرفي، أو على الأقل، ومن باب الاختبار، ليسمح بلجنة تفتيش دولية – حتى مِن الدول الساعية للتطبيع – أن تزور معتقلاته، وتقدم تقريراً عن حالهم وعددهم؛ وسنرحب بخطواتهم.
بقلم: د. يحيى العريضي
المصدر: موقع تلفزيون سوريا