جمال الشوفي-تلفزيون سوريا
لا يكاد يمر يوم على دمشق إلا وتلح عليها مئات الأسئلة بلا إجابة شافية: متى ينتهي هذا الكابوس؟ وكابوس دمشق ليس أحلام يقظة بل واقع تعيشه لحظياً! ومتى تستعيد دمشق رونقها وألقها التاريخي؟ فدمشق رصيد وافر وحافل من التاريخ والحضارة، والشام تمثل التنوع الديني والتعايش السلمي، وهي من أولى مدنيات التاريخ وأقدم عواصمه.
تبدو دمشق اليوم محتارة في كيفية خروجها من مأزقها الحياتي والسياسي والسكاني، وتعيش تحت وطأة الجريمة المتكررة مرات ومرات.
دمشق تعيش اليوم في ظلام متعدد الأوجه، وهذا ليس دلالة مادية على انقطاع الكهرباء معظم اليوم، ولا لانعدام مواد المحروقات فحسب، بل يعكس انعدام أمنها الحياتي والمعاشي واستباحتها من جميع جوانبها: سياسياً وعسكرياً ومدنياً ودينياً وثقافياً واقتصادياً. وقد بدأت سلسلة تهجير سكانها الأصليين حارة تلو الأخرى (مثل جوبر والميدان والقابون)، تلك التي سبقت غيرها في الثورة والعصيان ضد النظام.
وصل الأمر إلى التهجير الطوعي بضغطٍ على سكانها، وخاصة تجارها، لبيع بيوتهم ومحالهم لصالح وجوه جديدة تسعى للسيطرة على ما تبقى منها.
كما تم تهجير معظم أرياف الشام بشبابها وناسها، حتى فقدت نصف سكانها، بينما يعاني الباقون شتى صنوف القهر والتهميش.
دمشق اليوم وكأنها ليست التي نعرفها، ومع هذا فإن الصراع السياسي عليها لا يزال على أشده ولم يُحسم بعد، وإيران تمثل معلمه الأوضح! وحسمه عنوان لمرحلة قد تتجاوز حدود سوريا إلى المشهد الإقليمي برمته.
معادلة النظام الحاكم في دمشق اليوم هي الخروج من الصراعات الإقليمية ومحاولة الحفاظ على مكانته بينها، لحاجة جميع الأطراف إليه.
منذ عام 2011 ومع اتضاح المخطط الأمني الذي رسمته أجهزة أمن النظام، كان هاجسها الأول إبعاد مراكز المدن عن حركة الاحتجاج الثوري الشعبية. وكانت دمشق على رأس أولويات عملها الأمني والعسكري. فقد قُطّعت دمشق إلى مربعات أمنية تفصل بين حاراتها وأحيائها لمنع اجتياح الثورة لكامل أحيائها. لتكشف الشهادات الحديثة حجم الجرائم التي اجتاحتها، سواء المعلن منها عبر محاكمات غوبلز وحفرة التضامن أو غير المعلن والذي كان أشد هولاً.
جذر الصراع على دمشق هو صراع على عاصمة سياسية تعني بقاء النظام في السلطة، لرمزيتها التاريخية في المنطقة بكاملها. فقد غُزيت دمشق من جميع جهاتها بالإيرانيين وأتباعهم من الميليشيات الطائفية، وكذلك من الروس وعسكرهم. جميعهم مروا عبرها لعقد صفقات بيع سوريا مكافأةً لما قدموه لبقاء هذه السلطة. فمنذ البداية حدد الروس والإيرانيون معادلات الصراع السورية بكاملها، وبطلب من نظام الحكم، دخلوا سوريا وغيروا وجهها العام بعد حسم معاركها العسكرية، خاصة في دمشق ومحيطها والداخل السوري. لتبدأ مرحلة جديدة في بيع وتأجير الأملاك السورية لصالحهم، بينما خرجت مناطق شرقي الفرات وشمال غربي سوريا من المعادلة. وكان همُّ النظام الوحيد هو البقاء في السلطة والحفاظ على رمزية دمشق السياسية والتاريخية تحت سيطرته.
معادلة النظام الحاكم في دمشق اليوم هي الخروج من الصراعات الإقليمية ومحاولة الحفاظ على مكانته بينها، لحاجة جميع الأطراف إليه. فإيران وروسيا تسعيان لتثبيت مواقعهما العامة في سوريا وتنفيذ الاتفاقيات الاقتصادية التي عقدتها كل منهما مع النظام. لكن كلا الدولتين تطالبان النظام بما قدمتاه له من أموال ومساعدات، بينما يحجمون عن مساعدته مالياً واقتصادياً، إذ لم يعد لدى النظام ما يبيعه مقابل هذه المساعدات. وبينما النظام محمي عسكرياً من قبل الروس والإيرانيين، فإنه غير قادر على الاستمرار اقتصادياً ومالياً، في ظل الانهيارات المتوالية في سعر صرف الليرة والاقتصاد العام.
في هذا السياق، برزت مبادرة الجامعة العربية، التي أشارت بوضوح إلى إمكانية دعم الدولة السورية اقتصادياً إذا نفذت القرار 2254 المتعلق بالحل السياسي السوري، كما جاء في بيان قمة الجامعة الـ 33 في المنامة. هذا البيان ربط الدعم بفك ارتباط النظام بإيران وميليشياتها، التي تهيمن على القرار السوري وتهدد أمن المنطقة بكاملها، فضلاً عن تحويل سوريا إلى أكبر منتج وموزع للكبتاغون في المنطقة.
السلطة الحاكمة في دمشق اليوم تواجه اضطرابات سياسية عديدة تؤهلها لمزيد من الشروخ في بنيتها الداخلية. فهي تتأرجح بين الاستجابة للمبادرة العربية التي تنقذ استمرارها المادي، وبين الضغوط والتهديدات الإيرانية التي تطالب بتغيير النظام بكامله. تناور السلطة على حافة الهاوية، وهو ما تجلى في عدة مناسبات، بما في ذلك العمليات الأمنية في قلب القصر الرئاسي.
التباين الحاد بين الاستجابة للمبادرة العربية وبين الرضوخ الكامل للشروط الإيرانية يضع النظام في تناقض متزايد.
وتشير المؤشرات إلى أن هذه العمليات لن تتوقف، وقد تشهد دمشق تكرار سيناريو الانقلابات العسكرية كما حدث في خمسينيات القرن الماضي. بالإضافة إلى ذلك، تصر إيران على توثيق اتفاقاتها الاقتصادية وديونها دولياً، وتهدد أمن الخليج العربي في حال استمر موقفه الرافض لميليشياتها في سوريا، خاصة في دمشق.
اهتزاز البيت الداخلي للنظام ليس جديداً. ففي منتصف عام 2012، شهدت سوريا أكبر هزة عندما تم تفجير خلية الأزمة التي كانت تتألف من غالبية الفاعلين في الملف الأمني والعسكري. تلك الحادثة كشفت عن خلاف عميق بين نموذجين في التعامل مع الشارع الشعبي: أحدهما يريد الاستجابة للمطالب الشعبية وإجراء إصلاحات جزئية في بنية النظام، والآخر رفض التنازل قيد أنملة واختار الحل العسكري بأوسع أبوابه. تلك اللحظة أدت إلى تخلص النظام من الطرف الآخر ورمي المبادرة العربية والمطالب الشعبية في محرقة التاريخ. واليوم تدفع سوريا ودمشق ويلات تلك الكارثة.
مشهد اليوم لا يختلف كثيراً عن الماضي، فالتباين الحاد بين الاستجابة للمبادرة العربية وبين الرضوخ الكامل للشروط الإيرانية يضع النظام في تناقض متزايد. وقد لجأت السلطة إلى التضحية بعدد من الأفراد من داخلها، في سلسلة عمليات متتالية بدأت مع رامي مخلوف في عام 2020 ولم تتوقف حتى الآن. قد تصل الأمور إلى التضحية بأحد الفصائل الداخلية كما حدث في عام 2012. النظام اليوم في معضلة جديدة بين متطلبات العرب والدول الدولية السياسية، ومتطلبات الاقتصاد المحلي المتدهور، والشروط الإيرانية التي تسير في الاتجاه المعاكس.
لا يمكن تجاهل العمليات الإسرائيلية النوعية التي تستهدف العمق السوري، خاصة تلك القريبة من القصر الحاكم. وعلى الرغم من أن إسرائيل والولايات المتحدة لم تحسما أمرهما بعد بفتح مواجهة شاملة مع الميليشيات الإيرانية في سوريا ولبنان، فإنهما تستمران في عمليات “كسب بالنقاط” لفرض شروط تفاوضية.
في اتصال هاتفي مع زميل سابق لي، وهو أستاذ دمشقي مخضرم اختار البقاء في دمشق، سألني عن أوضاع السويداء والجنوب وما يتابعه من الحراك السلمي المستمر هناك. فأجبته بسؤال عن دمشق التي لم أزرها منذ سنوات. فقال لي: “دمشق لم تعد كما تعرفها، النفوس بائسة والعيون جاحظة، وكلمة ‘الجبار الله’ تتردد على كل لسان. إنه أبرد عصور دمشق”. ومع هذا، يعالج أهل دمشق واقعهم بالتهكم ويقولون: “يشكلوا آسي”. الروس والإيرانيون بدلوا وجوه الحارات ومداخلها، لكن لا يمكنهم تبديل النفوس. والأهم أنهم لا يستطيعون النوم إلا بجوار أسلحتهم. فدمشق التي يظنون أنهم يمتلكونها، لا يحسم صراعها إلا تاريخها الحضاري العريق مهما حاولوا العبث بها. موقعها المحوري في معادلة المنطقة برمتها سيظل يلعب دوراً حاسماً. دمشق لا تموت يا صاحبي، لكنها تعاني من أشد أنواع الصراعات… فإلى متى؟