المصدر : تلفزيون سوريا
محمد السلوم
قبل عدة أسابيع أطلقت نتفليكس مسلسلا قصيرا من ثلاث حلقات هو خليط بين الوثائقي والدرامي، استعرض حكاية النـبي موسـى. مشاهد يؤدي فيها ممثلون أدوار موسـى وفرعـون وهـارون، وجموع تمثل بني إسـرائـيل، ثم تعقبها حوارات لمختصين لاهوتيين من ديانات سماوية شتى، يستعرضون جميعا الحكاية مخلصين بأمانة للنصوص الدينية، دون نقد أو مراجعات تاريخيّة أو آثارية أو غير ذلك.
هذه المحاولة الفنية وحرص نتفليكس على تنويع الضيوف المختصين بشكل واضح؛ من إفريقيا إلى شرقي آسيا فالمنطقة العربية فأوروبا وأميركا، أسهمت كلها في جعل الشخصية التي يتم الحديث عنها شخصية عالمية.
محاولة نتفليكس نجحت في جعلي أشاهد قصة موسـى وللمرة الأولى بوصفها قصة إنسانية بعيدا عن حمولتها الدينـية، لا قصة قوم أرسل لهم الله عددا كبيرا من الرسـل وكانوا دائما ينكـثون بعهدهم له ويكفـرون بالرسـالات ويقـ ـتلون الرسـل والنبيـين ويستهـزؤون بآيات ربـهم، حتى باتوا الخيار المفضل لخطباء المسـاجد، في محاولة الفرار من الواقع وما فيه والتهرب من دورهم في قولة كلمة الحق أمام الحاكم، حيث يلجأ الخطيب إلى حكايات بني إسـرائـيل، وما أكثرها، ليعمل فيهم لسانه تقريـعا ولعـنا وشـتما.
وسواء كنت مؤمـنا عزيزي القارئ، ومسلّما بأن قصة النـبي موسـى قد وقعت بالفعل، أو كنت ملـحـدا رافضا أي نص ديني، وترى أنه محض حكايـة من أسـاطير الأولين، فإنني أدعوك لقراءة قصة موسـى بعيون سـورية، بعيدا عن أي دلالات دينية، لنتعامل معها على أنها حكاية.. حكاية عتيقة ما زالت تروى منذ قرابة ألفي سنة.
حكاية ثـورة قوم استُعـبدوا على يد دكـتاتور رأى نفسه ربّـا، فسامهم عذابا وقمعا وحياة ذليـلة مهـانة، حياتهم في العبـودية كان قد مر عليها سنوات طويلة إلى درجة أنهم ظنوها وضعا طبيعيا، ولذلك عارض بعضهم الخروج في تلك الثـورة منذ البداية، قانعين بأن الحياة جيدة، ولا ينقصها شيء.
ولكن الحالمين بالثـورة كان لديهم طموح آخر، طموح العودة، ويمكنك هنا أن ترى في العودة عودة حقيقية إلى أرض الأجداد أو عودة معنوية إلى الذات. لا بأس في ذلك، وكلتا العودتين تستلزم ثـورة على الديكـتاتور المستـبد، والحصول على الحـرية.
وككل دكتاتـور، فإن الحـرية لا تُمنح تفضّلا، بل تنتزع انتزاعا، وهكذا فشلت كل محاولات موسـى للحصول على حـرية قومه بالحُسنى، فرعـون كان مخـاتلا مخـادعا يلف ويدور، منذ محاولته في بداية “الحراك الثـوري” اللجوء إلى الحوار، الذي سرعان ما تبين أنه كان أكـذوبة.
ومع فشل الحلول السلمية، بدأ العنـف، كما في كل ثـورة، عنـف مخـيف دفع فرعـون ثمنه باهظا، من دمار لبلده واقتصاده، وانهيار في صورته كحاكم متـألّه.
في نهاية المطاف نجح الأمر، ورحل بنو إسـرائـيل، ولكن هل انتهت الثـورة؟ في الحقيقة لم تنته. بل سرعان ما نكتشف أن الخلاص من فرعـون كان الجزء الأبسط، فقد بدأت التحديات، وأمام اللحظة الأولى، لحظة الشعور بالجوع وانتهاء حياة الاستقرار النسبية التي كان يعيشها الشعب في ظل الحاكم المسـتبد، أدرك بنو إسـرائـيل أن درب الثـورة لن يكون مفروشا بالورود، بل بالمـعاناة، فقالوا لموسـى: “كنا عايشين”! أعلم أنك مستغرب ولا تصدق، حسنا، يا سيدي قالوا له ولهارون بحسب العهد القديـم حرفيا عندما خافوا الجوع: “وقال لهما بنو إسـرائـيل ليتنا متـنا بيد الرب في أرض مـصر إذ كنا جالسين عند قدور اللحم نأكل خبزا للشبع فإنكما أخرجتمانا إلى هذا القفر لكي تميـتا كل هذا الجمهور بالجوع”. أرأيت؟ هي ذاتها “كنا عايشين”.
هل تنتهي أوجه المقاربة هنا؟ لا طبعا، بعد فترة قصيرة، وبعد حصول بني إسـرائـيل على مناطقهم “المحررة” المتخلصة من الدكـتاتور المتـألّه، سارعوا إلى البحث عن آلـهة أخرى، وفي الوقت الذي كان فيه موسـى يحاول وضع دستور جديد للجماعة الثائـرة، عاد ليجدهم قد صنعوا آلـهة من الذهب وغيره يعبـدونها، آلهة أصغر بكثير من الدكـتاتور السابق، وهي دون شك أصغر من “الحـرية” التي كان يحاول موسـى العبور بشعبه إليها. وهكذا دمر موسـى الألواح التي كانت ستشكل ناظما للحياة الجديدة عندما اكتشف أن شعبه غير مستعد للحـرية، واستطالت رحلة العودة التي كان من شأنها أن تستغرق بضعة أيام فقط، ودخلت الأمة في تيه مستحق، دام قرابة 40 سنة.
في حكاية موسـى وفق القراءة السـورية ستكتشف أن التيه لم يكن حدثا مفاجئا أو مقاطِعا لمسار الحكاية، بل كان هو العقدة والمقصد الحقيقي، والغاية من رسالة موسـى، التيه الذي لم يكن ضياعا، بل كان بحثا عن الذات وتمحيصا ومحاولة استحقاق لما بعده.
موسـى.. القائد الثـوري، لم يحكم قومه مطلقا، لم يصبح ملكا عليهم أو رئيسا، بل يقال إنه مـات وهارون قبيل انتهاء التيه، أو لنقل إنه مـات مع انتهاء رحلة البحث عن الذات واستحقاق الخلاص، وهكذا أدى رسالته في أن يجد قومه ذواتهم وطريقهم نحو حريتهم. هنا لا يبدو موسـى نبي فرعـون، فمواجهته مع فرعـون كانت مرحلة أولى كما قلنا، إنه نبـي التيه، نبـي مواجهة ذوات اعتادت العبـودية والاستـسلام للآلـهة الكـاذبة، ولذلك استغرقت مهمته كل تلك المدة، محاولا شفاء تلك الذوات من أمراض الاستـبداد والدكـتاتورية وتخليصها من تيهها الداخلي والوصول بها إلى خلاص الحـرية.
أعرف أن محاولتي هذه ستواجه بغـضب كثيرين، ورفضهم، ولكنني لم أستطع الهـروب من صورة ثـورتنا السـورية وأنا أشاهد حكاية موسـى، تبدو الصورة مشابهة جدا، مع فارق أن لا موسـى لدينا، بل لدينا كثير من مصغرات فرعـون، وكلهم لديه رسالة واحدة، لا أن يقودوا الشـعب نحو الخلاص أو الخروج من التيه، بل أن يكونوا خلفاء للدكـتاتور المستـبد المتـأله، مستخدمين أساليبه وأكـاذيبه وتهديـداته وعنـفه وإجـرامه ذاته، وأمام هذه الحال يصبح التفكير في الزمن الذي قد يستغرقه تيهنا السـوري، أمرا مخـيفا!